حياتنا اليوم

خرافات عن
الاضطرابات النفسية
وعياداتها

لطالما كانت الاضطرابات النفسية مثاراً لاهتمام محفوف بكثير من الخرافات والمغالطات. فمن عزل المصابين بالاضطرابات النفسية الشديدة قديماً وإحراقهم للقضاء على الأرواح الشريرة التي تسكنهم كما كان يُعتقد، إلى وصم المصابين حالياً والتمييز ضدهم، تغيَّرت أشكال الخرافات عن الاضطرابات النفسية، إلا أنها لم تختفِ بشكل كامل. فما هي أبرز الخرافات السائدة في هذا السياق حالياً؟

الاضطرابات النفسية كثيرة ومتنوِّعة، وقد تأتي أعراضها بدرجات متفاوتة من الشدة. فكما أنك قد تجد في منطقة انتظار عيادة أمراض الدم مصاباً بفقر الدم البسيط جالساً إلى جوار مصاب بسرطان الدم، فستجد في العيادة النفسية من لديه اضطراب في التكيف أو التأقلم (وهو اضطراب نفسي غير شديد يحدث نتيجة لوجود ضغوط محدَّدة، ويتميز بالشعور بالحزن أو القلق أو غيرهما ولا يستمر لمدة تزيد على ستة أشهر)، ستجد أيضاً مصاباً بالفصام غير المستجيب للعلاج (الفصام هو اضطراب نفسي مزمن يتميَّز بوجود أعراض ذهانية؛ كالهلاوس أو الأوهام أو غيرهما).

إن كافة التدخلات العلاجية في الطب بشتى فروعه يجب أن تخضع لموافقة المريض. وتُعدّ هذه الاستقلالية أحد الأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها الأخلاقيات الطبية، وهي مجموعة من القواعد المتعارف عليها وتحكم عمل مقدمي الخدمات الصحية أينما كانوا

علمياً ليس هناك مرض أو حالة تُسمى بالجنون، بل هناك فئة من الاضطرابات النفسية قد يتصف المصاب بها حين ظهور الأعراض بالانفصال عن الواقع، وفقدان القدرة على رؤية الأمور كما هي، وضعف التمييز والبصيرة. وأكثر ما يحدث هذا في الفصام والاضطرابات الذهانية الأخرى، ونوبات الهوس المصاحبة للاضطراب ثنائي القطب، واضطراب الفصام الوجداني وغيرها. الجيد أن بعض هذه الحالات لا تبقى حالتها العقلية ثابتة على هذا الشكل، حيث يمكن من خلال العلاج التحكم بالأعراض، ليستعيد المصاب كثيراً من عافيته وبصيرته بشكل يمكِّنه من ممارسة حياته بشكل طبيعي. أما الاضطرابات النفسية الأخرى الأكثر شيوعاً، كاضطرابات القلق بأنواعها المختلفة والاكتئاب وغيرها، فلا تؤثر على قدرة المصاب على الحكم على الأمور.

من هو المعرّض
للاضطرابات النفسية
لِمَ قد يتعرَّض شخصان لنفس المؤثر فيصاب أحدهما باضطراب نفسي بينما لا يُصاب الآخر؟ لِمَ نُفاجأ بأن شخصاً نشأ لديه اضطراب نفسي من دون وجود أية ضغــوط أو مؤثرات واضحــة، بينما يواجه آخر كثيراً من صعوبـات الحيـاة ولكنه لا يعانـي من أي اضطراب؟
مثل هذه الأسئلة لا تبدو سهلة الإجابة. فطالما كان الحديث عن مسببات نشوء الاضطرابات النفسية غايةً في التعقيد، وهذا نابع من تداخل العوامل ذات الصلة. إلا أن النموذج البيولوجي-النفسي-الاجتماعي يعدّ الأكثر قبولاً في الأوساط العلمية لتفسير أسباب الاضطرابات النفسية. فكما يتضح من الاسم، يُعد هذا النموذج من الاضطراب النفسي مزيجاً من تفاعل عدة عوامل؛ عوامل بيولوجية أو حيوية، وعوامل نفسية، وعوامل اجتماعية. وفهم هذه العوامل قد يساعدنا على الإجابة عن أسئلة مثل: لِمَ أُصيب هذا باضطراب نفسي وليس ذاك؟ ولِمَ أُصيب الآن ولم يُصَب قبل سنة؟ ولِمَ استمر معه الاضطراب أو تعافى؟ فهذه العوامل إن توافرت وكانت كافية للإصابة بالاضطراب النفسي، فإنها لا تجامل أحداً حسب مكانته الاجتماعية أو وضعــه المادي أو مستوى تديّنه.
لا أحد يمتلك المناعة التامة ضد الإصابة بأي علة، نفسيةً كانت أم جسديةً. فكم من متدين أنهكه الاكتئاب أو القلق أو الفصام، تماماً كما قد يحدث لغير المتدين. وعلى الرغم من كل هذه المعطيات، إلا أنَّ هذا لا يعني بحال أن الدين لا دور له في الاضطرابات النفسية. حيث توجد دراسات أجريت على متدينين يتبعون ديانات مختلفة، (Bonelli and Koenig, 2013) تشير إلى أن التدين مرتبط بنسب إصابة أقل بالاكتئاب، والإدمان ومحاولات الانتحار. ويعدّ مستــوى الدراســات في هذا الجانــب ذا جودة جيدة.
وهناك دراسات أجريت على اضطرابات نفسية أخرى، ولكن جودتها المنخفضة لا تسمح باستنباط نتائج يعوَّل عليها. فكيف يمكن الجمع بين هذه النتائج وما ذكرناه قبل أسطر؟ ألا تبدو الرسالتان متناقضتين؟! قد تبدو كذلك لأول وهلة، إلا أنها ليست كذلك. ويمكننا أن نضرب مثلاً عن تفاوت نسب الإصابة بالاضطرابات النفسية بين الجنسين. فهناك اضطرابات معيَّنة تصيب الرجال أكثر، وهناك ما يصيب النساء أكثر، وهناك ما يصيب الجنسين بالتساوي. فقد تصاب النساء مثلاً باضطرابات الاكتئاب والقلق بمعدل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الرجال. هذا لا يعني أن الرجال لا يصابون بهذه الاضطرابات، بل تعني أن بين كل 100 مصاب بالقلق -على سبيل المثال- فإن ما يقارب 66 إلى 75 منهم هم من النساء. وينطبق المبدأ نفسه على باقي العوامل الديموغرافية الأخرى. فنجد اضطرابات أو أمراضاً تكثر في فئة عِرقية، أو مستوى معيشة، أو معدل أعمار محدَّد.

أيمكن للطبيب النفسي تحليل شخصيتك؟
يعتقد كثيرون بأن المختص النفسي يستطيع تحليل شخصية الآخرين على غرار اختبارات تحليل الشخصية في المجلات! والحقيقة أننا نتمنى لو كان الأمر بهذه السهولة، ولكنه مع الأسف ليس كذلك. فالطبيب النفسي مدرَّب على تشخيص الاضطرابات النفسية، وفهم العوامل المساهمة في ظهورها. نعم قد يتمكن من التعرف على سمات الشخصية الخاصة بك شيئاً فشيئاً من خلال تعمق العلاقة العلاجية بينكما. أما التحليل النفسي فهو أمر مختلف عن المقابلات النفسية الاعتيادية التي يتم من خلالها التشخيص والعلاج ومتابعة مآل الحالة فيما بعد (وهو نمط العلاج الأكثر شيوعاً في العيادات النفسية). فالتحليل النفسي يتطلَّب عقد جلسات متكررة (قد تصل إلى جلسة كل يوم أو يومين) مدة الواحدة منها قد تصل إلى ساعة كاملة وتمتد لفترات طويلة قد تصل لسنوات.

لا أود الاستلقاء على الأريكة!
يُعد استلقاء المريض على الأريكة مع جلوس المعالج خلفه تقليداً تتميَّز به جلسات التحليل النفسي، ورثته أجيال متعاقبة من المحللين النفسيين. ويُعتقَد أن هذه الوضعية تسهِّل عملية التداعي الحر، أي أن يقول العميل كل ما يخطر بباله من دون كبح أو تزيين. وما زال هذا التقليد حياً إلى اليوم في جلسات التحليل النفسي ولكن بتشدد أقل، حيث يختار العميل بين الاستلقاء على الأريكة أو الجلوس على الكرسي مقابل المعالج. أما في جلسات التقييم النفسي الاعتيادي وجلسات العلاج النفسي غير التحليلي كالعلاج المعرفي السلوكي مثلاً، فليس للأريكة محل من الإعراب.

الخوف من “الأدوية النفسية”
ثمة صورة نمطية عن الأطباء لدى البعض مفادها أن أي مراجع لأي عيادة يجب أن يخرج بكيس مملوء بالأدوية، وعيادة الطب النفسي ليست استثناءً.
من المؤكد أن كثيراً من مراجعي العيادة النفسية قد يحتاجون علاجاً دوائياً. إلا أن هذا ليس قاعدةً يجب أن تسري على كل شخص، فلكل حالة تفاصيلها واحتياجاتها المختلفة. وتتضمَّن أنواع العلاجات الأخرى الممكن تقديمها: جلسات العلاج النفسي بأنواعها المختلفة، والرياضة، والعلاج بالضوء، والعلاج بتحفيز الدماغ (كالعلاج بالصدمة الكهربائية أو التحفيز المغناطيسي للدماغ)، وغير ذلك. فلكل نوع من أنواع التدخلات العلاجية المختلفة دواعي استعمال خاصة به، وليست كل الأنواع بالضرورة نافعة لكل الاضطرابات النفسية.
وجدير بالذكر أن الحديث عن الرياضة مثلاً كعلاج، ليس من باب التشجيع عليها لفوائدها الصحية العديدة للأفراد والمجتمعات فحسب، بل كعلاج أثبتت الدراسات فاعليته في حالات معيَّنة. تخيَّل أن الرياضة وحدها يمكن أن تكون خياراً علاجياً فعَّالاً لبعض مصابي اضطراب الاكتئاب ذي الشدة الخفيفة إلى المتوسطة. الخلاصة أن الخيارات العلاجية متعدِّدة. وأحياناً، بإمكانك الاختيار بين أكثر من نمط علاج، كالاختيار بين العلاج الدوائي أو جلسات العلاج النفسي مثلاً، أو أحياناً الجمع بين أكثر من نمط.

والخوف من الإدمان عليها
نستطيع القول -وبثقة- إن من أكثر ما يخيف مراجعي العيادة النفسية اعتقادهم أن الأدوية النفسية تسبب الإدمان، وهذا الاعتقاد غير دقيق. فمعظم الأدوية المستخدمة في الطب النفسي لا تسبِّب التعود أو الإدمان، ولكن ثمة أدوية قد تسبّب التعود إذا استخدمت لفترات طويلة وبلا دواعي استعمال معقولة كأدوية عائلة “البينزوديازيبين” (benzodiazepines)، وغيرها من الأدوية الخاضعة للرقابة (وهي مجموعة من الأدوية ذات القابلية للتعود عليها أو لإساءة الاستعمال وتُصرَف بوصفات خاصة، وتستلزم إظهار بطاقة الهوية). الأمر الجيد أن هذه الأدوية لا تستخدم كثيراً. وإذا استخدمت، فتكون لحاجة ماسة ولفترات قصيرة، ويتم ذلك بعد النقاش مع المراجع وأخذ موافقته. أما الأدوية الأكثر استخداماً فهي لا تسبِّب التعود، كالأدوية المستخدمة في علاج الاكتئاب والقلق (antidepressants)، ومضادات الذهان (antipsychotics)، ومثبتات المزاج (mood-stabilizers)، وغيرها. والجدير بالذكر أن بعض الاضطرابات النفسية المزمنة تستلزم أخذ الدواء لفترات طويلة، حيث قد تسوء الأعراض عند التوقف عن الدواء، الأمر الذي يؤكد قناعة الإدمان لدى البعض. ولكن هذا ليس صحيحاً، إذ إن عودة الأعراض بعد ترك الدواء لا تعني أن المريض تعوَّد على الدواء ولا يستطيع الفكاك منه، بل إن الاضطراب النفسي لديه مزمن ويتطلب علاجاً مزمناً، تماماً مثل احتياج المصاب بمرض السكري للدواء أو الإنسولين للحفاظ على مستوى السكر بالدم ضمن المعدل الطبيعي.

تلقي العلاج النفسي ليس اختيارياً
وهذا غير صحيح، إذ إن كافة التدخلات العلاجية في الطب بشتى فروعه يجب أن تخضع لموافقة المريض. وتُعد هذه الاستقلالية أحد الأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها الأخلاقيات الطبية، وهي مجموعة من القواعد المتعارف عليها التي تحكم عمل مقدمي الخدمات الصحية أينما كانوا. ويعد كسر استقلالية المريض النفسي استثناءً قد يُضطر للجوء إليه في حالات ضيقة، كأن يمثل المريض خطراً وشيكاً على نفسه أو على الآخرين، كمن يعلن العزم على إنهاء حياته أو حياة غيره، أو أن يكون المريض فاقداً للأهلية العقلية اللازمة لاتخاذ القرارات العلاجية، وحينها يتم أخذ موافقة الوصي. وعدا عن ذلك، فإن تلقي العلاج من عدمه هو خيار متاح للمريض صاحب الشأن.

الخشية من “الصدمات الكهربائية”!
كثيراً ما أظهرت الأفلام قديماً مشاهد مصابين باضطرابات نفسية يخضعون للعلاج بالصدمة الكهربائية، وغالباً ما تم تصوير هؤلاء وهم يعذبون بوحشية تليق بمساجين في سجن سيئ السمعة!
فما هو العلاج بالصدمة الكهربائية؟

العلاج بالصدمة الكهربائية خيار علاجي مثل باقي العلاجات في شتى فروع الطب، له ما له وعليه ما عليه. والأمر الأهم هو أن المريض لا يشعر بالصدمات الكهربائية ولا بنوبات الصرع نظراً لتأثير التخدير العام، وتُعد موافقة المريض شرطاً لإجرائه

الحقيقة أنه نوع من أنواع التدخلات العلاجية المتاحة لعلاج بعض الاضطرابات النفسية الشديدة والعصية على العلاجات الأخرى، كحالات الاكتئاب المقاوم للعلاج وغيرها. يتم عمل جلسات هذا العلاج تحت التخدير العام بإشراف مباشر من طبيب التخدير وطبيب النفس، وتتضمَّن مراقبة طبية دقيقة تشمل تزويد المريض بالأكسجين وقياساً مستمراً للعلامات الحيوية. وبعد التخدير، يتم توصيل قطب أو قطبين كهربيين إلى الرأس، حيث يتم تمرير تيار كهربائي بسيط يكفي لتحفيز نوبة صرع قصيرة تحدث للمريض وهو تحت التخدير العام. إذ يُعدُّ حدوث هذه النوبة أساسياً لإحداث الأثر العلاجي.
ولا يُعلم بالتحديد ما هي آلية عمل هذا العلاج وما هي التغييرات التي يحدثها في الدماغ. ولكن من المعروف امتلاكه لنسب تحسن عالية خصوصاً لحالات الاكتئاب، وحالات التخشب. ويتصف هذا العلاج بنسبة مأمونية لا بأس بها، حيث لا يرتبط بمخاطر صحية مهدّدة للحياة سوى المخاطر المرتبطة بالتخدير. وأبرز الأعراض الجانبية المقلقة تتمثَّل في احتمالية حدوث ضعف للذاكرة لا يستمر –إن حدث- لأكثر من ستة أشهر على الأرجح.
خلاصة الأمر أن العلاج بالصدمة الكهربائية خيار علاجي مثل باقي العلاجات في شتى فروع الطب، له ما له وعليه ما عليه. الأمر الأهم من هذا كله هو أن المريض لا يشعر بالصدمات الكهربائية ولا بنوبات الصرع نظراً لتأثير التخدير العام، وتُعد موافقة المريض شرطاً لإجرائه، وينطبق عليه ما تم ذكره في الفقرة السابقة، وهذا كافٍ لنفي خرافة التعذيب.

ختاماً، لا تنحصر الخرافات المتعلَّقة بالعيادة النفسية أو الاضطرابات النفسية بالنقاط التي استعرضناها هنا، إلا أن الرسالة الأبرز التي نستطيع الخروج بها هي الحفاظ على باب التساؤل العلمي مفتوحاً في وجه كثير من الأفكار المسبقــة التي قد لا تكون دقيقة في كثير من الأحيان، خصوصـاً إذا تعلَّقت هذه الأفكار بالتأثير سلباً على حياة أشخاص كثر لا تقتصر معاناتاهم على الاضطرابات النفسية التي يعانون منها فحسب، بل تشمل أيضاً الوصمة الظالمة التي تمارس ضدهم وكأنهم فئة غير متصالحة مع المجتمع، بينما ما نحتاج إليه هو التخلص من هذه القناعات الخاطئة بحق تلك الفئة والجائرة بكل المقاييس.

 

أضف تعليق

التعليقات