أدب وفنون

الموت في أدب الأطفال

الموت من أصعب الأمور على الشرح للأطفال. ولا يصعب الشرح فقط عندما يفقد الطفل أحد والديه أو جدّه أو جدّته، بل يبقى الأمر كذلك في كل مرة يسمع فيها الطفل أن شخصاً من معارفه قد مات. إلا أن التربويين والمتخصصين في المجال النفسي استفادوا من أدب الأطفال في معالجة هذه المسألة وتبديد المخاوف التي تنتاب الطفل عند فقد عزيز عليه.

تبيِّن الدراسات التي تتناول موضوع الموت في أدب الأطفال أن تصوُّر الطفل للموت له أوجه متعدِّدة وفقاً للمراحل العمرية المختلفة، من الطفولة المبكرة حتى العمر المتوسط. ومن ضمن تلك الأوجه المتعدِّدة كما أشارت الدراسة، توجد ثلاثة أوجه مهمة:

1) إن الطفل يدرك أن الأشياء التي تموت لا ترجع إلى الحياة
2) الموت لا بد منه لجميع الأحياء
3) جميع أنشطة الأجسام تتوقف عند الموت

وتبيِّن نتائج الدراسة التي أجريت في جامعة “أوهايو” على عدد كبير من قصص الأطفال سواء المصورة منها أو غير المصورة، أن الموضوع الرئيس الذي تناولته قصص الأطفال تركّز على الموت من الجانب العاطفي وعلى الحزن الذي قد يصاحب الأطفال بفقد عزيز. كما أظهرت الدراسـة أن القصص المصوَّرة تركِّز بشكل أكبر على الأسباب البيولوجية لموت الشخص.
في عالمنا العربي الذي نعيش فيه يوجد نقص كبير في قصص الأطفال التي تعالج مسألة الموت. لذلك فمن الطبيعي أن نفتقد إلى دراسات شبيهة كتلك التي أجريت في الغرب. إلاَّ أن استقراء الوضع الاجتماعي العام يجعلنا ندرك أن المجتمعات تتأثر بمعتقداتها الدينية في تقديم مفهوم الموت للأطفال. ففي مجتمعاتنا، يتعلَّم الأطفال منذ الصغر أن الموت مقترن بانتقال الفرد من هذه الحياة إلى الجنة. ومن الطريف أن الطفل لايدرك مفهوم الجنة، لكنه يردِّد ما يقوله الآخرون له.

ثلاثة نماذج من القصص
إسقاط مشاعر الكبار على الصغار
يمكننا أن نذكر ثلاث قصص للأطفال في العالم العربي التي تتناول موضوع الموت. القصة الأولى هي “أنا وماه” للكاتبة ابتهاج الحارثي التي فازت بـ”جائزة اتصالات” للعام 2015م. والقصة الثانية: هي قصة “الخفي” للكاتبة أمل فرح التي رشِّحت ضمن القائمة القصيرة للجائزة نفسها لعام 2017م. والقصة الثالثة هي قصة “أشتاق.. أشتاق” للكاتبة ناهد الشوا.
تناولت القصص الثلاث موضوع الموت من زوايا وبأساليب مختلفة، مما أسهم في عملية التنويع والإضافة إلى المكتبة العربية في مجال أدب الأطفال. وسأتناول كل قصة على حدة في محاولة لإلقاء الضوء على إيجابيات القصة والتوقف عند النقاط التي تستدعي التطوير.
تناولت قصة “أنا وماه” البيئة العمانية، وتضمَّنت عرضاً جميلاً لبعض العادات والتقاليد فيها. فبدأت بشكل جميل في تعريف الطفل بنفسه وأسرته، وبشكل تلقائي عرف الطفل اسم “الجدة” في إحدى اللهجات العمانية. وتمَّت معالجة عقدة القصة بشكل حوار هادئ بين الأم وابنها من أجل توصيل فكرة موت الجدة.
الحوار الذي كان من المتوقع في هذه القصة أن يأخذ مجرى معالجة حزن الطفل على جدّته، تحوّل إلى أداة في تأصيل ذلك الحزن. فالكاتبة عكست حزنها وشعورها على أحداث القصة، فطغى حزن عميق على الحوار الدائر بين الأم وطفلها. ويستطيع القارئ أن يستشعر من تلك الحوارات أن القصة هي تجربة ذاتية للكاتبة. هذا الحوار الحزين في بعض أجزائه لا يتناسب مع الفئة العمرية للأطفال.

في عالمنا العربي يوجد نقص كبير في قصص الأطفال التي تعالج مسألة الموت

إن الأطفال يعيشون الحزن بشكل مختلف ولا يعكسونه على الأشياء التي من حولهم. بل نراهم يتجاهلونه، وينشغلون بالأحداث الجارية من حولهم. فتأثير الحزن لا يظهر عليهم إلا عبر المحيط الذي يعيشونه. وبمعنى آخر، فإن المحيط الأسري للطفل قد يؤصل ذلك الحزن ويعمقه، وهذا ما كان واضحاً في قصة “أنا وماه”، بينما كان من الجميل تخفيف حدة الحزن التي ظهرت في بعض الجمل، كما هو الحال حينما سأل عزان إنْ كانوا سيأكلون الرطب هذا الصيف أم لا، فأجابت الأم: “لن نأكله هذا الصيف حبيبي”. أو حينما سألها إنْ كانت بهلا خضراء الآن فردَّت الأم: “لم تعد خضراء..يا حبيبي لم تعد خضراء”. هناك نقطة أخرى وهي أن الأم جعلت الطفل يتقمص دورها حينما قال لأمه بعد أن أغمض عينيه: “أستطيع أن أراها وهي تخيط دشاديشها”. فالأطفال في عمر الخامسة او السادسة لا يحتاجون إلى إغماض أعينهم لتذكر الماضي. وهكذا تمر علينا بعض العبارات، سواء من حيث المعنى أو حتى التعبير ومستوى اللغة، التي توحي بأن الكاتبة جعلت بطل قصتها يتقمَّص دورها.

موتٌ بلا حزن!
أما قصة “الخفي” للكاتبة المصرية أمل فرح فتعالج موضوع الموت أو الفقدان بطريقة مختلفة. فبعد بداية غامضة، تنقل الكاتبة قارئها الصغير من موقف إلى آخر، حيث يصاحب “الغريب” أو “الخفي” أو “الحكيم الدقيق” أو “المرئي الخفي” كائنات حية مختلفة وينقلها إلى عالم آخر.
تتناول الكاتبة الموت من زاوية مختلفة، فهي لا تتكلم عن الحزن أو الفراق أو الشوق، وإنما عن مفهوم ومعنى الرحيل أو الموت وكيف يحدث. وتنقل قارئها الصغير من موقف إلى آخر لتعريف الطفل بهذا المفهوم.
وحسب الدراسة التي أشرنا إليها سابقاً فإن مفهوم الموت عند الأطفال يعني أن الأشياء الحية لا بد لها من أن تموت، وأن الموت يعني توقف أنشطة الجسم. وهكذا تتناول قصة”الخفي” مفهوماً متقدماً عن الموت، وهو مفهوم وجود قوة خارجية خفية تقوم بعملية ترحيل الأحياء من هذا العالم إلى عالم آخر. وتنقل الكاتبة صوراً لتلك العملية. فالوردة الجميلة ترحل مع ذلك “الغريب” لتصبح وردة ذابلة. والدجاجة تترك صيصانها (كتاكيتها) الصغيرة وتصاحب ذلك “الحكيم” معترضة في البداية على تركها لهم ومستسلمة بعد ذلك لأمره.. ويواصل “الخفي” محاولاته في اصطحاب كائنات أخرى إلى أن يصل إلى البنت الصغيرة التي ترقد في المستشفى. تحاول الكاتبة أن توصل فكرة الموت عبر توقف جميع أنشطة الجسم عند الرحيل مع “الخفي”. فثمة عمق فلسفي صاحب القصة، ليكشف للقارئ مفهوم الموت عبر صور مختلفة، ومن خلال الأوصاف المتعدِّدة التي أطلقت على “الخفي”.
وعلى الرغم من جمالية لغة القصة، إلا أن المشكلة الأساسية التي يمكن تلمسها فيها هي صعوبة معرفة الفئة العمرية المستهدفة. فقصة “الخفي” وظَّفت عدداً من الأساليب الفنية في الكتابة القصصية الخاصة بأدب الكبار في قصة موجَّهة إلى الأطفال. ولعل ذلك اللبس في تقرير الفئة العمرية الموجهة لها أربك العمل الأدبي وقلَّل من أهميته.

والألم في حدوده القصوى
وفي القصة الثالثة قصة “أشتاق.. أشتاق” للكاتبة ناهد الشوا، نلمس شعور الطفل (بطل القصة) بالاشتياق إلى والده الذي رحل عنهم. بجمل بسيطة وقصيرة يخبر الطفل الصغير الذي لا يتعدَّى عمره الخامسة معاناته التي بدأت بموت والده. وكانت معاناة شديدة حتى استطاع الطفل التعايش مع ألم الشوق والشعور بالفراغ.
يقول الطفل في بداية القصة: “رحل أبي.. عرفت أني لن أراه…” ويواصل الطفل مبدياً ألمه “شعرت بحزن.. وجع عظيم أليم”. وصار الفراغ وجعاً يكبر ويلاحق الطفل كما يعبِّر الطفل عن نفسه. ثم يظهر الطفل شعوره ووجعه الذي يحاول أن يهرب منه، لكن الوجع كان يكبر ويكبر ويلاحقه.

فهم ودراسة خصائص المرحلة العمرية للأطفال تُعد من الأمور الأساسية التي تسهم في وضع بوصلة المسار الصحيح عند الكتابة للطفل

هذه الحالة من الألم التي أظهرت الكاتبةُ الطفلَ فيها، تتناقض مع خصائص الطفولة. فالأطفال في سن الخامسة أو السادسة قادرون على إظهار الألم لفترة قصيرة، وليس كما أظهرت القاصة في أنه يتأقلم مع الألم من شدته وطول مدته، بحيث باتا يأكلان معاً ويذهبان إلى المدرسة معاً. والنقطة الأخرى التي بينتها الكاتبة هي شعور الطفل بالفراغ. إلا أن ذلك الشعور لم يظهر في البداية وإنما ظهر في القصة فجأة. وكان من الأفضل أن تركّز الكاتبة على شعور الطفل بالفراغ بدلاً من الألم والوجع منذ البداية فهذا سيجعل مشكلة الطفل تتماشى بشكل أفضل مع خصائصه. ولكانت انتهت القصة بطريقة جميلة تزرع الأمل عند الأطفال في أن كل تلك المعاناة تتلاشى تدريجياً.
وهناك عدد من الدراسات الغربية التي تناولت الموت في أدب الأطفال. فهو ليس موضوعاً حديثاً، وقد تم تناوله منذ الأربعينيات من القرن الماضي. والعدد الحالي لقصص الأطفال في هذا المجال يتعدَّى حسب إحدى الدراسات 150 قصة. إلا أن عدد القصص في العالم العربي (حسب اطّلاعي) لا يزال قليلاً. إنه تفاوت زمني كبير بين ظهور أدب الأطفال في العالم الغربي مقارنة له بالعالم العربي الذي يَعُدّ أدب الأطفال فيه حديث الولادة. وبسبب حداثة هذا الأدب، فإن كُتاب أدب الأطفال في العالم العربي قد يكونون في معظمهم ممن لم تتح لهم فرصة دراسة خصائص الطفولة أو التعمق فيها. فأهمية فهم ودراسة خصائص المرحلة العمرية للأطفال تُعد من الأمور الأساسية التي تسهم في وضع بوصلة المسار الصحيح عند الكتابة للطفل. ولو تم مراعاة ذلك عند الكتابة للطفل العربي، لشهدنا ازدهاراً في الأدب الموجَّه للطفل، وبمضامين متناسبة مع المرحلة العمرية للأطفال.

 

أضف تعليق

التعليقات

فاطمة الحاجي

مقال احترافي ولغة محترمة جدا