فرشاة و إزميل

بول داش
الفنان الذي يرسم زوارق المهاجرين في المتوسط

على الرغم من أن أصوله تعود إلى باربادوس، وهي واحدة من جزر الأنتيل الصغرى في البحر الكاريبي، بعيداً جداً عن البحر المتوسط، فإن بول داش المستقر في لندن، قد يكون الفنان الكبير الوحيد الذي اهتز كيانه لمآسي المهاجرين على الزوارق في البحر المتوسط، ودوّن باللون نظرته إلى معاناتهم وآمالهم، في أعمال أثارت اهتماماً واسعاً من النقَّاد في العاصمة البريطانية والعالم.

محترفه في العاصمة البريطانية صغير المساحة جداً إذا ما قورن بما هو مألوف في محترفـــات الفنانين، حتى أولئك الذين هم أقل شأنـاً منه. وموجودات المحترف تقتصر على الحد الأدنى من اللوازم وعدد من اللوحات، عُلّق عدد قليل منها على الحائط، وأسند البعض الآخر إلى حائط مجاور.
رسم بول داش، ولا يزال يرسم مواضيع شتى، معظمها مستوحى من التراث الثقافي والاجتماعي في موطنه الأصلي: باربادوس. وبتنوَّع المواضيع تتنوُّع التقنيات التي يتمكن منها جميعاً وبإحكام لافت للنظر. ففي إحدى صوره الذاتية، نراه يرسم نفسه بالألوان الزيتية بأسلوب كلاسيكي وتعبيري بليغ تطغى عليه الألوان الداكنة. وفي مواضيع أخرى نراه يختار الألوان المائية الزاهية على الورق، وبأسلوب قريب إلى حد ما من الفن الساذج، من دون أن يكون مضمونه ساذجاً على الإطلاق. ومن بين الأعمال التي تستوقف زائر محترف بول داش، مجموعة لوحات تمثِّل زوارق المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط، حيث يحار المرء أمام تفاعل هذا الفنان مع الأحوال الإنسانية لهؤلاء المهاجرين في عالم بعيد جداً عنه، التي لم يجد فيها الفنانون من أبناء جلدة هؤلاء المهاجرين ما يستدعي وقفة فنية أمامها.

نشأته الفنية ونشأة حساسيته
لفهم وقفة بول داش المميزة أمام زوارق المهاجرين، لا بدّ من العودة إلى نشأته الفنية في ظروف عزَّزت حساسيته الفائقة تجاه المواضيع الإنسانية، فلنترك الفنان يروي ما أحاط بهذه النشأة.
يقول داش: عندما هاجرت من باربادوس للالتحاق بأهلي في إنجلترا عام 1957م، سجلني والدي في مدرسة ثانوية محلية في أوكسفورد. ومع الأسف كان هذا الاختيار سيئاً. فنوعية التعليم كانت سيئة. وكان عند بعض المدرّسين إحساس بالانزعاج من وجودي في غرفة الصف [الفنان أسمر البشرة]. فبصفتي واحداً من أبناء المستعمرات، افترضوا أنني جاهل ومتخلف وغير محنّك في أمــور الحيـاة الحديثة. بعبارة أخرى، كان وجودي سبباً في انخفاض المستوى.
ويضيف الفنان: “لهذا كانت دراستي في أوكسفورد معاناة وليست متعة. ولكن كانت هناك حسنة واحدة: فوجودي هناك كان يعني أن بإمكاني مزاولة الفن للمرة الأولى في حياتي. ففي المدرسة الابتدائية في بربادوس لم تكن هناك أي تربية فنية. ولهذا، فإنني عندما أتيت إلى إنجلترا لم أكن أملك أية معرفة بالشكل الذي يمكن تحقيقه بواسطة أدوات الرسم، ولا التقدير للدور الذي يمكن للون أن يلعبه في مجال التعبير. فقد كان هناك الكثير لتعلمه، ولكني رحت أتقدم. وبعد سنوات ثلاث حصلت على جائزة مرموقة. وفي السنة الأخيرة من دراستي هناك، حصلت في امتحان الفن على أعلى علامة في كل منطقة أوكسفورد شاير”.
ومنذ تلك المرحلة المبكِّرة، أبدى داش حساسية خاصة تجاه التجمعات البشرية. فراح يرسم المتسوقين في شوارع مدينة أوكسفورد، والتجمعات في الشوارع والحدائق. ويقول: كنت ألتقط هذه المشاهد عندما كنت أذهب مع والدتي للتسوق. كنت أجلس في الدور العلوي من الحافلة، وأتطلع إلى تشكيلات التجمعات البشرية تتوالى أمام عيني، وكانت هذه الجموع مصدر دهشة لا متناهية بالنسبة لي”
سحرته المدينة الحديثة الراقية، ولكن الفنان لم ينس مسقط رأسه. فعندما اشترت له والدته علبة ألوان زيتية، حوّل غرفة نومه إلى محترف، وراح يرسم لوحات مستوحاة من باربادوس كما بقيت في ذاكرته. فرسم مشاهد من أسواقها، والأولاد يطيّرون الطائرات الورقيــة، ومن تجمعاتهم أمام محلات الحلوى وفي الحقول المفتوحة على الأفق، وبشكل خاص مشاهد من المهرجانات الشعبية الشهيرة جداً في كل بلدان الكارييبي، حيث تشكِّل جزءاً راسخاً من هويتها الثقافية.

لم تكن مشاهد المهرجانات الشعبية مرحلة عابرة في حياته. بل يمكن القول إنها طغت على أعماله، ولا تزال حاضرة بقوة فيها حتى اليوم

لم تكن مشاهد المهرجانات الشعبية مرحلة عابرة في حياته. لا بل يمكن القول إنها طغت على أعماله، ولا تزال حاضرة بقوة فيها حتى اليوم. ويتوقف الفنان عن سرد نشأته الفنية، ليستطرد متناولاً أهمية هذه الثيمة بالنسبة إلى فنه، فيقول: “إن مهرجانات الشوارع الشعبية نشاط ثقافي إفريقي الأصل، انتقل عبر أجيال من الأفارقة إلى الكاراييبي والأمريكيتين. وتحضر في هذه المهرجانات مجموعة نشاطات تعبيرية تتضمن الفولكلور والرقص والموسيقى والطبخ والخطابات وغير ذلك من الأشكال الإبداعية. وعندما زرت البرازيل بعد عدة سنوات، استمتعت حتى أقصى حد بكل أوجه هذه الثقافة. لقد كانت تجربة لا تنسى”.

الطريق الطويل إلى الاستقرار
بعد المرحلة الثانوية، درس داش لمدة سنة كاملة في “مدرسة أوكسفورد للفن” (التي أصبحت لاحقاً “جامعة بروكس في أوكسفورد”)، حصل في نهايتها على منحة لمتابعة الدراسة في تشيلسي.
تخرج في جامعة تشيلسي ولكنه لم يستقر فيها. ويفسر ذلك بقوله: “كنت الطالب الأسود الوحيد، ولم يكن هناك شيء يستحق الذكر للتفاعل معه، فجمد عملي في مكانه”.
بعد التخرج، عمل داش مدرّساً في “مدرسة هاغرستون” الواقعة في شرق لندن، التي يصفها بأنها “رائعة، بسبب تنوُّع أعراق تلاميذها، وبيئة التعلم المتعدِّدة الألوان الثقافية. فبجانب الغالبية المكوّنة من البريطانيين البيض، كان هناك طلاب من إيرلندا وتركيا وبنغلادش وباكستان وجمايكا ونيجيريا وقبرص وبلدان أخرى، يشكِّلون مجتمع المدرسة”. ومما لا شك فيه أن هذا التلون العرقي والثقافـي عزَّز اهتمـام الفن بالانفتاح على العالم بأسره، وحفّزه على اختبار مقاربات جديدة في تعليم الفن وتعلمه في بيئة متعددة الإثنيات.
بعد التدريس بدوام كامل أو جزئي لمدة إحدى وعشرين سنة، أصبح داش محاضراً في الدراسات التربوية في جامعة لندن. وبموازاة ذلك تابـع أبحاثــه في التربيـة المتعـددة الثقافــات، إلى أن حــاز شهادة الدكتـوراه التي ركّز فيها على التربيــة الفنية للطلاب الكاريبيين.
وخلال تلك السنوات، كان داش يرسم باستمرار ويشارك في كثير من المعارض. وكانت الذروة عرض بعض أعماله في الأكاديمية الملكية في لندن. الأمر الذي يقول عنه إنه “رفع معنوياتي وعزَّز ثقتي بنفسي”.

مع زوارق المهاجرين وفيها

من ضمن الأعمال التي تستوقف زائر محترف بول داش، مجموعة لوحات تمثل زوارق المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط، حيث يحار المرء أمام تفاعل هذا الفنان مع الأحوال الإنسانية لهؤلاء المهاجرين في عالم بعيد جداً عنه

بعد تقاعده من التدريس في عام 2012م، تفرَّغ بول داش تماماً للرسم بشكل كامل، مستمراً في استيحاء مواضيع من عالم البحر الكاريبي، والطبيعة الصامتة. وأضاف إليها رسوماً بالحبر والقلم لمواضيع مستوحــاة من المهرجانات الشعبية وزوارق المهاجرين في المتوسط.
فقد تزامن تفرُّغ الفنان للرسم مع تعاظم موجات الهجرة من السواحل الإفريقية والسورية والتركية باتجاه أوروبا. واتخذ هذا النزوح الهائل أشكالاً مأساوية تردَّدت أصداؤها، ولا تزال تتردَّد، في وسائل الإعلام عبر العالم. وكانت لأخبار هذه الزوارق وغرق بعضها وصورها وقعها الكبير في نفس الرسام.
فالبحر والزوارق من المواضيع المألوفة في وجدان الفنان الذي نشأ أولاً في إحدى جزر البحر الكاريبي، والتطلع بعيداً صوب شؤون أعراق وثقافات واهتمامات مختلفة عن المحيط المباشر، هو مهارة مكتسبة من خلال دراسته وعيشه في إنجلترا.
يقول داش: إن مجموعة زوارق المهاجرين هي نقيض مجموعة المهرجانات. لقد استوحيتها من الأخبار المرعبة والتغطيات الصحافية لحوادث الغرق ويأس المهاجرين عبر المتوسط”.

ويضيف: لقد كان هناك أناس في منطقة الكاريبي يبحثون عن حياة أفضل بهذه الطريقة. وأخص بالذكر المهاجرين من هايتي الذين ركبوا البحر هرباً من الفقر الذي كانت تزيد منه الكوارث الطبيعية بشكل خاص، على الرغم من أن وسائل الإعلام حاولت أن ترد الأمر إلى أسباب أخرى”.
وعندما يقول داش إنه استوحى لوحة الفرنسي تيودور جيريكو “طوف الميدوزا” والطريقة التي يتكدس فيها الناجون من غرق السفينة فوق طوف صغير، فإنه يدعونا إلى التأمل ملياً في هذه الزوارق كما رسمها.
على المستوى اللوني، تبدو هذه اللوحات بألوانها الزاهية نقيض لوحة جيريكو المعتمة، وأيضاً نقيض مجموعة المهرجانات المرسومة في معظمها بألوان ترابية. كما أن البحر الذي تبحر فيه هذه الزوارق يبدو ساكناً، ولا ينذر بأي خطر.
وبالتدقيق أكثر في الزوارق المرسومة من الأعلى، وكأن الفنان شاهدها من مروحية، لا نرى غير الرؤوس المكدسة في الزورق، ولكن المهم فيها، أنها رؤوس متعددة الألوان، فهناك الأبيض والأشقر والأسمر والأسود..
ويفسر الفنان هذا المنحى الذي اتخذه في التعامل مع زوارق المهاجرين بقوله: “لا أركز في عملي على تصوير تفاصيل الموت المرعبة والدمـار. إني أترك ذلك للمشاهد كي يملأ الفراغات بطريقته الخاصة. ما يهمني هو توجيه نداء لإنسانيتنا المشتركة، وللحق في الكرامة والوجود. ففي كل زورق يوجد أناس من مختلف الأعراق والخلفيات، يتشاركون تجربة محفوفة بالمخاطر والأمل في حياة أفضل”.

سيرة مختصرة
ولد بول داش في الباربادوس عام 1946م، وهاجر عام 1957م إلى إنجلترا، حيث تابع دراسته، فحاز البكالوريوس من معهد الفن في تشيلسي عام 1968م، ومن ثم شهادة الماجستير في الفنون من معهد التربية في جامعة لندن، وأخيراً شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها في عام 2009م، وكان موضوع أطروحته: التلامذة الكاريبيون في التربية الفنية.
بدأ داش عرض أعماله في أواخر الستينيات من القرن الماضي. فقد كان بين العامين 1969 و1972م عضواً في “حركة الفنانين الكاريبيين”، وشارك زملاء له في عدة معارض مشتركة. ومن ثم راحت معارضه الفردية والمشتركة تتكاثر، وإن انحصر معظمها في المملكة المتحدة، حيث عرضت أعماله في الأكاديمية الملكية، ومتحف هاكني، وعدة صالات عرض مرموقة مثل “غيلدهول غاليري”، و”آيلينغتون أرتس فاكتوري” و”مايل إند بافيون” وغيرها.
في عام 2016م، صوَّرت المخرجة مارتا ماكالباين فِلْماً قصيراً عنه وهو يعمل في محترفه، لعرضه في متحف هاكني. وفي العام نفسه، طلبت حكومة الباربادوس منه رسم صورته الذاتية، لتضمها إلى صور مجموعة أعلام البلاد.

 

أضف تعليق

التعليقات

مليكة حمادي

مجهود هذا الفنان ودقت رؤيته لما يحدث وتأثره بما حوله ومعانته السيئة في المدرسة جعلت منه فنانا لامعا يستحق التقدير … شكرا استاذ خالد ربيع يحسب لك كل ما تقدمه لنا من بصمة فنان.