ما فتئت القصيدة، هي الصوت الذي لا يهدأ في قلب العربي، صوت تخفق له حقول الذرة، وعناقيد الكروم.
ليست هي الخيبة الأولى، أو النكسة الأخيرة، أن يعلن بعض مثقفينا عن موت الشعر، ونشوء زمن الرواية. هكذا، دون أي منطق نقدي، أو رأي حصيف.
مجّانية المانشيت وغواية الإثارة وحدها هي السيّدة في مقولات كهذه.
تلك القرون الضاربة بصلابة في التاريخ من شعرنا العربي، لا يمكن لها أن تذهب أدراج الرياح.
مدونة السرد في الغرب بدأت قبل الميلاد غير أن أحداً من منظّريهم لم يقل بموت الشعر، فيما نحن، لم تظهر الرواية في أدبنا العربي كفن متكامل بشروطه إلا قبل قرن ونصف القرن في أكثر الأقوال تفاؤلاً، ومع هذا نسعى محمومين إلى فكرة القتل أو «موت الشعر».
فكرة التعايش، وقبول الآخر التي يدّعيها بعض المفكرين، إذا ضاق بها أفقهم بين الفنون والآداب، فهمْ فيما سواها أضيق.
يحدث هذا في عالم تسعى فيه الفنون إلى تداخل أجناسها، والإفادة من كلّ الأشكال الإبداعية، سينما ومسرح وشعر ورواية، بغية خلق نصّ مفتوح ومنفتح على كلّ الأنواع.
هذا الضجيج المفتعل، لم يمنح الشعر إلا مزيداً من الشرف والزهو، وتناسل شعراء آخرين من فم العاصفة.
ما يلاحظ؛ أن القصيدة – في زمن الهوس الروائي – ظلت بمنأى عن هذا اللغط، بعيدة كل البعد عن تسوّل القارئ، واستجدائه، تحت أسماء جمّة، تارة باسم «فضح المكبوت» وتارة أخرى، تحت عنوان «خرق التابوهات: في المجتمع». كلّ ذلك كان يتمّ – في أغلب حالاته – بمنأى عن الفن، واللغة الأدبية. وما يؤسف عليه أن المتلقّي خارج حدود الوطن، يقرأ ذلك المنجز كمضامين، دون اعتبار كبير لفنيته.
وذلك الحراك الملتبس أدّى بعدد غير قليل إلى كتابة الرواية، بعضهم لم يسبق له النشر، ولم تكن له بدايات في أيّ جنس أدبي، لا يدعوهم إلا نداء السوق. بيد أن هذا الهوس خفت إلى حدٍّ بعيد في السنتين الأخيرتين.
فقد أصدر الروائيون السعوديون منذ العام 2001م ولمدة خمس سنوات تالية، ما معدّله تقريباً، نصف ما أنتجوه في تاريخهم الروائي منذ صدور «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري عام 1930م. عقب ذلك لاحظ المهتمون بالشأن الثقافي تراجع الإصدارات الروائية. ما يعني أن الأمر كان أشبه بحالة عابرة، حالة استجابت لمتطلبات السوق، ولرغبة الناشرين العرب، كأيّ سلعة استهلاكية، وكيفما اتفق، دون اعتبار لقيم الأدب العليا، فيما كانت القصيدة تتفرّس في ملامحها، دون أن تساوم على فتنتها وجمالها.
أجل، لم يعد الشاعر يملك معنى جاهزاً، يسعى لإيصاله لقرّائه، وبالتالي لم يعد يغويه سؤال المتلقي في الذهنية التقليدية التي تريد منه أن يخرج تلك العصا السحريّة، ليمنح الآخرين معرفة يجهلونها من قبل. الشاعر ليس لاعب سيرك، ولا مفسّر أحلام، ذلك الإرث الذي نحمله عن الشاعر الحاوي «النبيّ» صار محض ذكرى. ومع كلّ هذا، فالقصيدة ليست في عزلة عن عالمها، إنها مشتبكة معه، بكلّ سياقاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والشاعر يواجه هذا التحدّي مدجّجاً برؤية تمعن في نظرتها الجسورة للحياة، بعيون حادّة، وأصابع لا ترتعش أوان الكتابة.
ما فتئت الينابيع والمطر الذي يبلّل ثيابنا، والرغبات السرّية تحدّق في الشاعر طويلاً كي يكتب عنها، ويخلع عليها الأسماء.
تحيّة للشعراء فرداً فرداً، حاملين مصابيح القلق والنور، تحلّق أرواحهم في هودج الريح الفاخر، يحرثون في سماواتنا حدائق الدهشة والبهاء، غير مكترثين بما يُكاد لهم.
تلويحة، لطرفة والمتنبي ولوركا ورامبو ودرويش والثبيتي، وسلاماً للشعراء والشاعرات الذين يحملون الآن قصائدهم الأولى للمطبعة.