بيت الرواية

رواية «مخمل» لـ حزامة حبايب

توهج الحواس الخمس

portrait«كانت في المخمل رائحة الحياة، بدء الحياة أو العودة إليها» (الرواية).
بهذه العبارة، وبغيرها الكثير من العبارات ذات الطابع الرمزي المضمّخ في الشاعرية، والمشغول بلغة راقية، وأسلوب سردي رشيق وممتع، يمكن اختزال دلالات عنوان رواية الكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب «مخمل».

تشكِّل هذه الرواية مختبراً حقيقيّاً لدراسة حضور الحواسّ في هذا العمل، وتأثير هذا الحضور ودوره في بناء الشخصيات الروائية، والكشف عن البنية السردية، من أدوات السرد وتقنياته إلى ثماره. ويمكن لهذا الاختبار أن يتم عبر الاستحضار العميق والمكثّف للمكان الذي تنبثق منه عناصر الرواية ومكوّناتها الأساسية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمادة الرئيسة المتمثلة في المخمل، لا بوصفه قماشاً وحسب، بل هو هنا شخصيّة روائية بامتياز؛ شخصية ذات رائحة وملمس وحركة وتأثير نفسيّ على باقي الشخصيات، وخصوصاً «حوّا» و«ست قمر»، المرأتين صاحبتي الحضور الأشدّ تميزاً في الرّواية.

يقوم عالم المخمل هنا ضمن إطارين؛ فثمة مخمل يجيء في إطار اللغة الاستعارية والمجازية، بل الشاعرية الرومانسية، أو بوصفه رمزاً واستعارة لحالات نفسية عاطفية وجسدية، تؤشر على حالة البطلة حوّا، وهو ما يبرز في الأوصاف التي تضفيها الكاتبة عليه؛ حيناً. وهناك الإطار الواقعي والحقيقي الذي يظهر فيه المخمل بوصفه قماشاً واقعي الحضور والكينونة، بكل مواصفات المخمل التي سنوردها لاحقاً.

في مختبر «الحواسّ» هذا، نستطيع الكشف عن ملامح مهمّة من رواية حزامة حبايب، حيث هي رواية روائح في المقام الأول، روائح المكان والبشر، وليست رائحة المخمل هنا سوى منطلق وذريعة للمقارنة مع ما يتناقض معها من روائح، ما يجعلنا نبحث عن أصل هذه الرائحة، والباعث على انبثاقها بهذه القوة التي نجدها في الرواية. ويأتي اللون، بما يجسّده من ذاكرة بصرية، عنصراً ثانياً في شخصية المخمل، بينما يشكِّل الملمس عنصراً ثالثاً.

وأهمية هذه العناصر هي في ما تعكسه من تناقضات الواقع «المعيش»، كما سنرى في هذه القراءة، من خلال نماذج محدودة من الحواسّ، إذ يصعب حصرها كلها بدقّة. ولكن يجب أن نلتفت أيضاً إلى أن خيال حوّا ينطوي هنا على «خيالات بأصوات وألوان وروائح..».

لا يحتاج قارئ الرواية إلى جهد كبير ليكتشف المساحة التي تتحرك فيها بطلة الرواية «حوّا»، ما بين قطبين وعالمين، في ما يشكِّل علاقة التناقض بين «المخمل»، بما يجسده من رائحة ولون وملمس، وبين الواقع الذي تعيشه «حوّا»، والمكان الذي تجري فيه حوادث الرواية (مخيم البقعة في أطراف العاصمة الأردنية عمّان)، من جهة، وعلاقة التناغم بينه وبين عناصر أخرى في الرواية، من جهة ثانية. هي علاقة مركبة ومعقَّدة ربما، تسهم في خلق شخصية «حوّا» في أبعادها المتعددة، وبالتحديد في بُعدَيها، الواقعي المأسويّ أولاً، والبعد العاطفيّ الذي تحلم به ثانياً.

تجدر الإشارة إلى الانقسام في حياة «حوّا» بين عالمين معيشيّين، عالم البؤس في البيت الذي نشأت وعاشت فيه، وعالم النعيم الذي يجسّده بيت «ستّ قمر»، وما بين العالمين من فجوة، بل مساحة واسعة. ويساعد هذا التقسيم على تبيّن الفروق بين الصور التي تنتجها الحواسّ هنا، وهناك. فنحن حيال اختلافات جذرية بينهما، اختلافات تظهر، على سبيل المثال، ابتداءً من حاسّة الذوق، والفرق بين «طعم» الأشياء في بيت ستّ قمر، ونكهتها وشكلها وألوانها الجذّابة المحبّبة، وبين الحاسّة نفسها في ما يتعلّق بالأشياء في بيت «حوّا» وأسرتها. وكما هو حال حاسّة الذوق، نجد أحوال بقيّة الحواسّ، وعلى نحو أشدّ وضوحاً، وأعمق حضوراً.

رائحة مسقط الرأس
في محاولة للكشف عن بواعث هذا الحضور للحواسّ، وماهيته وطبيعة تأثيره في بناء شخصيات الرواية، وخصوصاً في شخصية «حوّا»، نتوقف عند الحضور الفاعل والمؤثر للحواسّ عموماً، ولحاسّة الشمّ (الرائحة) خصوصاً. وبالوقوف على الرائحة، بوصفها الحاسّة الأقوى حضوراً والأشد تأثيراً في الرواية، يبدو من الضروريّ الالتفات إلى ما جاء في شهادة حزامة حبايب عنها، إذ قالت في كلمة خلال حفل توقيع روايتها في عمَّان: «كنتُ نائمة في الغرفة الصغيرة، التي تؤثرُها أمّي لي في زياراتي المتفرّقة إلى بيتِ العائلة، حين فتحتُ حواسي ذات صباح على رائحة نفّاذة، تسرَّبت إليّ من النافذة المشقوقة. سنوات كثيرة انقضت دون أن أشمَّ هذه الرائحة أو أعبَّها؛ فاعتقدتُ بأنّني نسيتُها، أو لعلّها لم توجد من الأساس، إلى أن حاصرتني، وانقضَّت عليّ فجأة… كانت تلك رائحة عناق الأرض مع ماء السماء، في أوّل المطر؛ أوّل البلَل، وأول الطين، وأوّل الاشتهاء. هي رائحة لا تشبهُ أيّ رائحة أخرى: ضاجّة، صاخبة، عنيفة، مقتحِمة، لجوجة، ملحاحة، حسيّة جداً. هي بحقّ رائحة اشتياق جارف وعميم».

يشكل علاقة التناقض بين «المخمل»، بما يجسده من رائحة ولون وملمس، وبين الواقع الذي تعيشه «حوّا»، والمكان الذي تجري فيه حوادث الرواية

ومن هنا، فإن تلك الرائحة، في «الغرفة الصغيرة» لحزامة، تستدعي روائح شبيهة بها حيناً، ونقيضاً لها في أحيان أخرى، روائح تبدأ في رواية «مخمل» بمَشاهد تمثل لقاء المطر والأرض / التراب، وتنتهي بمشاهد عاصفة رملية تعصف بكل شيء، وما بينهما روائح الأزقة والبيوت وما فيها. ولأنّ «الإنسان يبحث دائماً عن تحديد القيمة الإنسانية للمكان»، فنحن هنا حيال رواية تشتغل على المكان وما ينطوي عليه، في علاقته مع الإنسان بمكوّناته.

الروائح، والحواسّ ودلالاتها عموماً، بهذا المعنى، تختصر شخصية «حوّا» في انقسامها بين مرحلتين، أو في بُعدين، البُعد الأول المأسويّ الذي تمثله حياتها في أسرتها مع والدها ثم زوجها والآخرين، والبُعد الثاني المتمثل في الظروف «المخمليّة» التي تعيشها في بيت «ست قمر» أولاً، خارج حدود المخيم، وفي علاقة عاطفية تعيشها لاحقاً. أي إننا أمام استعادة لعوالم «حوّا» مجتمعة، من خلال لحظة في طفولتها، حيث الأماكن هي روح هذه الشخصية.

المخمل: ألوان وروائح وملمس
book dummyثمة الكثير من المشاهد التي يمكن من خلالها رصد ملامح «شخصية» هذا القماش. وربما يجدر الوقوف – أولاً – على مصدر المخمل في مكان بيعه، محلّ الأقمشة الذي تصل إليه «حوّا» لاهثة، بعد جولة في السوق. فعندما تصل المحلّ وهي «تطوي روحها المبتهجة في داخلها وتتماسك. تعرف أنّ بهجة من نوع آخر تنتظرها». ففي داخل المحلّ، «تلفح عينيها الغزارة اللونيّة لأثواب الأقمشة التي تصطفّ عمودياً، في ثلاث طبقات، تمتدّ من الأرض إلى السقف..».

وحين تتوغّل «حوّا» في المكان، يستوقفنا مشهد تتداخل فيه حواسّ عدّة، إذ بصرياً «تدير حوّا بصرها بين اللفَّات المرتّبة وفق نوع الخامة»، وتتصاعد الحالة «حين تقع على قسم المخمل، تسري فيها تلك الإثارة التي خبرتها مرّات ومرّات».

ويغتني المشهد بوصف تفصيليّ حيث «يتداخل المخمل السادة مع المحفّر والمطبّع والمنقوش والموشّى بالشّيفون والمنكّه بالساتان والمطعّم بالخرز والمطرّز بالبرق وغير ذلك… لكنّ حوّا تعرف مخملها الذي تريد. يجب أن يكون المخمل مخملاً، خالصاً، يجسّد روح المخمل، فلا يسمح لأيّ إضافة بأن تفسد نسيجه أو ملمسه أو نكهته الرحيقيّة». وكذلك فإن لـ«ست قمر» طريقتها في معرفة المخمل الحقيقيّ العميق، فهي «تدفن أنفها بقطعة المخمل، ثم تدعك عنقها ووجهها بالقماشة المقصوصة حديثاً، لأنّ رائحتها تكون لا تزال معشّقة فيها.. كانت في المخمل رائحة الحياة، بدء الحياة أو العودة إليها».

وللغوص أعمق في حاسة الشمّ نقتبس عن رائحة المخمل أنها، كما تقول ست قمر «رائحة الدفء، وهي رائحة السخونة الهاجعة، وهي رائحة العمق، وهي رائحة المدى، وهي رائحة التمنّي والتشهّي، وهي رائحة الأنفة والتمنّع، وهي رائحة النضج: نضج الحب ونضج العمر.

حين تتوغّل «حوّا» في المكان، نلتفت إلى مشهد تتداخل فيه حواسّ عدّة، إذ بصرياً «تدير حوّا بصرها بين اللفَّات المرتبة وفق نوع الخامة»، وتتصاعد الحالة «حين تقع على قسم المخمل، تسري فيها تلك الإثارة التي خبرتها مرّات ومرّات».

ثم تتداخل الألوان مع الملمس في فقرات متفرقة، منها هذا الوصف الحسّاس والمكتنز بالمعنى والدلالات «حين تمسح يدها موجة مخملية بنفسجية، تعرف حوّا أنها بلغت غايتها»، ومع اللون والملمس تتداخل «تلك الرائحة التي تعرفها حوّا وتتوقّعها، فتتنشّقها مستبقية ذرور شذاها فيها». وفي ما يتعلّق باللون، أي الحاسّة البصرية، «انحازت ست قمر للألوان الغامقة من المخمل، وتحديداً للدرجات التي تبدأ من الغروب، في نزعه الأخير، وحتى آخر الليل، لأنّها تشعّ حرارة أكبر، تتسرّب من الأحمر القاني، والأرجواني، والكرزيّ، فالليلكيّ، والبنفسجيّ.. فالأسود الفاحم بالغ السّواد».

وفي مواجهة الملمس الناعم والرقيق والروائح الزكيّة للأشياء في بيت «ستّ قمر»، حيث حوّا تقدم الوصف الدقيق للشقة وأثاثها (مع تركيز على طقوس حفل تنظيف طقم روميو وجولييت)، تواجهنا مشاهد البؤس في خشونة الأشياء في أزقّة المخيّم وبيوته، بدءاً من «الزقاق الجعد»، وزقاق جعد «أكثر انكماشاً»، حتى إن حوّا تحفظها «ببثورها..، بدماملها الرمليّة..».

حاسّة السمع
تفتتح الكاتبة روايتها بمقطع من أغنية فيروز «رجعت الشتوية»، ثم تبدأ الفصل الأول بأجواء المطر في لقائه مع الأرض/ التراب، أجواء عشق طبيعيّ تعيشها «حوّا» وهي تتلقّى رسالة على موبايلها «يسعد صباحك»، وتستمتع وتكمل أغنية فيروز «ونَدَهْلي حبيبي..»، ثم تنتقل إلى أغنية الطفولة «طيري يا طيّارة طيري..»، و«تبتسم حوّا في سرّها، تحبّ طيّارة فيروز الورقية، لكنّها، بكلّ تأكيد، لا تريد أن ترجع بنتاً صغيرة»، فهي في حالة حب تعبّر عنها الأغنية وحالة الطقس معاً.

وفي مقابل الأصوات ذات الطبيعة الرومانسية، في الأغنية وفي الطبيعة، ومنذ بدايات الفصل الأول، نرى كيف تجتمع مجموعة أصوات مع اللون والرائحة المزعجة، بل المقرفة، التي تجسد نقيض هذه الرومانسية، أصوات تنطلق من البيت والحيّ «صوت أجشّ ينادي على والدها بعد الفجر، مقروناً بطَرْق غليظ على باب بيتهم الحديديّ، تقشعرّ معه الحيطان..».

وفي داخل البيت، يتجسَّد الحضور الطاغي للوالد في «أصوات تصدر عن الأب»، من لحظة نهوضه من السرير «جامعاً بدنه المُرخرخ، فيرتجّ إطار السرير المعدنيّ بعنف، ممزّقاً بصليله سكون العتمة»، ثم ذهابه إلى الحمّام «يسبقه سعاله المتواصل المشوب بخَنخنة وغرغرة من أثر بلغم داكن مستوطن في حنجرته»، ثم «بصاقه الطالع من بئر حنجرته الغميقة يشقّ بضجيجه فضاء الحمّام»، وفي لحظات خروجه من البيت تختلط الرائحة الكريهة بالصوت الكريه لدى زوجته وأبنائه، حتى إنهم «يحتاجون إلى وقت قبل أن يستوعبوا أنه غادر أخيراً، وأن هواء البيت خلا من صوته ورائحته»..إلخ.

فمن هذه القراءة، يمكننا التوصل إلى أن الكاتبة استطاعت توظيف الحواس الخمس على نحو شديد الدقّة، في ما يخدم البناء الأساسي للشخصيّتين النسائيتين الرئيستين في روايتها، حوّا وست قمر، من خلال علاقتهما الوثيقة مع المخمل أولاً، ومع البيئة المحيطة ثانياً.

وإذا كان هذا التوظيف الناجح يدلّ على أمور عدّة، فإن أبرز ما يقودنا إليه هو هذه الثقافة العميقة والدقيقة والمتميزة في المجال الذي تشتغل عليه، ثقافة يبدو أنها لا تقتصر على المعلومات المجرّدة، بل تتجاوزها إلى ما يقارب تجربة عمليّة عاشتها الكاتبة، فجعلتها تتعامل مع مادّة روايتها بكل هذه الحميميّة التي تُعامل بها «مُخملها»، من جهة، وتُعامل بها الشخصية الروائية من جوانبها النفسية والعاطفية من جهة أخرى. وهذه تفاصيل قلّما التفتت الرواية العربية إليها على هذا النحو من الدقّة.

———————————
•«مُخمل»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت، بالتعاون مع «مكتبة كل شيء / حيفا»، 362 صفحة قطع وسط، 2016م.

أضف تعليق

التعليقات