في كل لحظة منذ فجر الحياة على الأرض وحتى اليوم، وإلى أن تزول، هناك ملايين الحشرات والحيوانات تتساقط فريسة لحشرات وحيوانات لاحمة، تعتمد عليها غذاءً ضرورياً للبقاء. وكل حشرة أو حيوان يبحث في هذه اللحظة عن الغداء، يعرف بطبيعته أنه قد يكون لاحقاً وجبة العشاء لغيره.
في هذا الملف يأخذنا رجب سعد السيد في إطلالة على عالم الافتراس في الطبيعة حيث السعي إلى البقاء يتحدد وفق قانون الأقوى. ويعرّج بنا فريق القافلة على الشق الإنساني من هذا العالم، حيث لا مكان للرحمة بين حاجة الإنسان إلى الفريسة وخوفه الدائم من أن يتحول بدوره إلى فريسة.

إطلالة 
على عالـم الافتراس
من السهل، إن سُـــئلْتَ عن معنى الافتراس، أن تجيب بالتعريف الموسوعي للكلمة، الذي يفيد بأن الافتراس يعني اسـتهلاكَ فريسة حيَّة، ويتضمَّن فائدة للمفترس، وأذىً للضحية؛ ولا يدوم زمنُهُ طويلاً، فالمواجهة بين المفترس والطريدة لا تطول. والاعتـيـاديُّ أن يكون المفترس حيواناً، ولكنه قد يكون نباتاً من الأنواع اللاحمـة، يقتنص حشرات صغيرة ليتغذى بها. وأغلب المفترسين –بطبيعة الحال– لاحمون، وبعضهم يجمع بين الأنواع الحيوانية والنباتية في قائمة طعامه، وفي بعض الحالات، لا يتضمن الافتراس قتل الضحية قبل استهلاكها، فثمة مفترسون مهيَّـأون لابتـلاع الفريسة حيَّـةً، ولا يشــترط أن يستهلك المفترس كامل جسم الفريسة، ولكن جزءاً منها.

فإذا رغبت في التوقف عند هذا الحد، فلا حـرج. ولكنك لن تملك أن تكتفي، أمام ما تثيره كلمات (افتراس)، و(مفترس)، و(فريسة) من أفكـار، وما ترتبط به من مسـائل وقضايا علمية، واقتصادية، وأحياناً اجتماعية، وربما سياسية، أيضاً. فأنت لا تملك أن تمنع حديثاً عن الافتراس من أن يلقي ظـلالاً على علاقـات دولية؛ وهـل تخلـو السـاحة الكونية من دولة (مفترسة) تتربـص بأخـرى؟. وبينما نجد عالِمـاً فلكيَّـاً يرى في ابتـلاع الثقـوب السـوداء للنجـوم المســتقرة ســلوكاً افتراســياً، يطالعنا كاتبٌ بتصـورٍ يقولُ إن الافتراس هو ميلٌ فطـريٌ من بعض الكائنات الحية لأخذ جزيئات غـذاء أعـدَّتهـا كائنـات أخرى، بدلاً من أن تقوم هي بإعدادها لنفسـها، فالطعام الجاهز يوفِّر الوقت والطاقة!

فعلٌ مثير للشجون..

أكثر تعقيداً مما يبدو

قد تثير سـيرة الافتراس شـجون البعض.. ألا يمكن أن تســتدعي أمامك وجوهاً بعينهـا، تعرفهـا في دائرة اجتماعية أو أخرى، حين يكون الحديث عن ذلك العصفور، من نوع (الحلمة الزرقاء)، الذي اعتاد إطلاق أصوات تحذير عند ظهور مفترس من الجوارح فوق موقع تجمُّـع من أقرانه؟. لقد كان المعتقد أن هذا النوع من العصافير يمثل نموذجاً للإيثـار، فثمة فردٌ يعلن عن نفسه في مواجهة المفترس المغيـر، تمكيناً لأفراد عشيرته من الفرار والنجاة، غير أن الدراسات السلوكية أثبتت عكس الصورة، فالعصفور الفرد صاحب صفارة الإنذار هو الوحيد بين أقربائه الذي يحيط بظروف إغـارة الطائر الجارح، ويعرف موقعه تحديداً، وتتيـح له هذه المعلومات أفضل فرصة لأن يستغل حالة الاضطراب التي يوقعها إنذاره بأفراد العشيرة، ليكون هو أول الناجين، غير عابئ بما تسـفر عنه الإغـارة من خسـائر بين الأهــل. الأكثر من ذلك، أن الفرد من هذه العصافير قد يطلق، عن قصـد، إنذاراً زائفاً ليلقي الرعب في قلوب مجموعة العصافير، فتفر جزعـةً، مخلِّـفـةً طعاماً كان مطلق الإنذار الزائف يشتهيه، ويريد الحصول عليه، دون حاجة لمصارعة رفاقه من أجله!.

وإذا دخلت إلى مجال الافتراس من دائرة الجدل العلمي حول اعتبـارِ نفـرٍ من العلمـاء أن الكائنـات المتطفِّلة مفترسة، سـتجد نفسك مشدوداً لمراجعة نماذج اجتماعية شـائعة بكل مكان وزمان، وأنت توافق على قول الباحث الكندي الدكتور دانيال بروكس إن الطفيل لا يسعى إلى قتل عائله عامداً متعمداً، فمن مصلحته أن يبقى العائل صحيحاً معافىً!؛ فالقُرادُ -على سبيل المثال- يستحب العيش في آذان نوع من الفراشات، ولكنه لا يحتل من الفراشة سوى أذن واحدة، تاركاً الأخرى سليمةً فعَّالةً، فالفراشة تتحسـس طريقها باستقبال وتفسير موجات فوق صوتية، تصل إلى أذنيها من الوسط المحيط بها، فإن هي فقدت صلاحية الأذنين معـاً، إذا سدهما القراد، صارت صمَّاء عمياء، وتخبطت في طريقها، وكانت فريسة سهلة لكائن آخر يعتبرها غذاءه المفضَّل، هو الخفَّـــاش؛ فرأى القراد أن يكتفي بأذن واحدة، مأوىً له، لتبقى الأخرى عاملةً!. وقد يبدو القراد، بهذا السلوك، رحيماً بالفراشة؛ والحقيقة أنه -بالدرجـة الأولى- يصون وجوده هو، فإن الخفاش إذا اقتنص الفراشة، لن يبتلعها وحدها!

عنف صرف،

ولكنه ليس شراً صرفاً

إن شرائط التلفاز تخدعنا وتسطِّـحُ لنـا الأمور حين تدخل علينا حجرات معيشتنا لتعرض مشـاهد متكررة ثابتة للحيـاة البرية، لا تخلو من أسـد يمزِّق غزالة أنهكتها المطاردة، أو أنثى الجراد المتعبِّـد تلتهم رأس ذكرها وأبا أبنائها، أو ثعبان يبتلع فأراً مذعـوراً؛ فـلا يترسَّـخ بأذهاننا غير أن الافتـراس عنـف خالص، وشـر صرف.

أمَّـا عن أنه عنـفٌ، فهـو عنـف. وهـل هناك ما هـو أعنـف من إزهـاق روح كائن حـي؟. غيـر أننا لا ينبغي أن نجتـزئ الصورة؛ فالافتراس نظام؛ والمفترسون موزعون في مراتب بشبكة متناسقة، فيها المفترس الكبير، والمفترس من الطبقة الوسطى، ومفترسون صغار.. فالحشرات فرائس للطيور الصغيرة، التي هي -بدورها- فرائس للثعابين، التي تقتنصها الطيـور. والمفترس الذي يحتل قمة النسق الافتراسي، أي قمة السلسلة الغذائية، والذي لا مفترس بعده، يسمى بالمفترس الأعلى، أو المفترس (ألفا)، أو (السوبر)؛ ومن أمثلته: القرش الأبيض العظيـم، والنمر، والدُبُّ، والتمسـاح. ولا مفترس لهذه الفئة من المفترسين إلاَّ في حالة فقدانها لقدراتها القتالية، مرضاً، أو تقدماً بالسن، أو إذا طـال تعرضُها للجوع الشديد؛ فتقع فريسة لأنواع أخرى، أو لأفراد من نوعها نفسه.

وللمفترسين الكبار مكانة خاصة في الثقافة الإنسانية؛ وثمة عائلات عريقة تحمل أسماء حيوانات مفترسة، كالأسـد والنمر والصقر، مهما اختلفت اللغات؛ وكان النسـر رمزاً للامبراطورية الرومانية، وتضعه دولٌ كثيرة معاصرة على أعلامهـا؛ أما الأسـد فكان رمزاً للآشـوريين، وهو في الحضارة الحديثة رمز لبريطانيا وهولندا، وارتبط الدب بالروس.

ولهـؤلاء المفترسين الكبار تأثير هائل على التوازن بين الكائنات الحية التي تعيش في نظام بيئي بعينه، ويتضح هذا التأثير بشـدة في حالات إدخـال مفترس كبير إلى نظام بيئي لم يكن ينتمي إليه، أو عند إقصائه عن موئله الطبيعي. وبعض أنواع المفترسين من الفئة (ألفا) هـم عُـمُـدُ الأنظمة البيئية التي يعيشون بها، بمعنى أن تبوُّءهـم قمة السلسلة الغذائية هو الذي ينظِّم وجود أنواع الفرائس بهذه الأنظمة؛ فالذئـب الرمادي، مثـلاً، مفترسٌ أعلى (عمدةٌ)، لأنه يحفظ التوازن العددي للفرائس من أنواع الغزلان والأرانب البرية وكلاب الماء؛ أما القرش الأبيض العظيم، فلا يُـعَـدُّ عمـدةً، بالرغم من أنه مفترس ألفـا ، إذ لا يمكنه التحكم في تعداد تجمعات أنواع الفرائس التي تعيش معه بالنظام البيئي.
بين المفترس المتخصص وخلافه

وفي الشبكة الكونية للافتراس، تجد المفترسين الاختصاصيين، الذين لا يصطادون غير نوع محدد من الفرائس، والمفترسين العموميين، الذين لا يفلتون أية فرصة لقتل أي حيوان يصلح كطعام. والحقيقة هي أن الاختصاصيين من المفترسين مجبرون على التخصص، فهم غير مهيَّـئــيـن إلاَّ للتعامل مع النوع من الضحايا محل تخصصهم؛ وبالمقابل، فإن الضحية تكون مزوَّدة بما يعينها على الهرب من المفترس المتفرغ لها دون غيرها. وهكذا، يتحدد مدى نجاح المفترس، أو نجاح الفريسة، بمهارة كل منهما في استخدام أدواته، وتلك -على وجه العموم- آليةٌ من آليات تحقيق الاتزان؛ ولولاها لأفنى المفترس النوع المفضَّـل لديه، ويترتب على ذلك فناؤه هو، أيضـاً. أو تتفوق الضحية على مفترسها المتخصص بها، فيعجز عن اقتناصها، فيموت سغباً، فتتزايد أعداد أفراد نوع الفريسة، فيختل الاتزان بالنظام البيئي الذي تستوطنه.

الجوع هو الدافع

والتوازن هو النتيجة

الافتراس، إذن، ليس مجرد رغبة عمياء في قتل كائنات حية أخرى، فالجوع هـو الدافـع الرئيس له. وإذا انتفى عامل الجوع، انتفت حاجة معظم الحيوانات المفترسة لمداهمة الفرائس، على الأقل من باب أن في ذلك اقتصاداً في طاقتها. وقد لوحظ أن بعض الحيوانات، المعدودة من المفترسات، والتي تعيش مرفَّهـةً في الحبس، أو مستأنسة أليفةً بالبيت أو بالمزرعة، تصبـح -بمرور الوقت- قادرة على التفريق بين الحيوانات التي استقرت بالأذهان كفرائس، وتشاركها الحياة الرغدة في كنف الإنسان، وشبيهاتها التي تعيش خارج المنزل أو بالبرية. وتتراوح هذه العلاقة المنزلية من مجرد (التعايش السلمي)، إلى درجة الصحبة والتقارب. وأوضح مثال لذلك، الهدنة التي تنشـأ بين القط المنزلي والفئران الأليفة، التي يربيها الأبناء ببيوت بعض العائلات، حيث يتناسى القط، أو يتجاهل غريزته، ربما تحت تأثير (السيد)، صاحب البيت، الذي يظهر للجميع أن أي مساس بالتوافق والسلام داخل المنزل لـن يكون مقبولاً!.

لقد تبين لنا، في الإشارات السابقة ضرورة الافتراس لحفظ توازن الأنواع وصحة الأنظمة البيئية، أن هذا السـلوك العنيـف ليـس شـرَّاً خالصاً، ففيه منافع عظيمـة. إن ربات البيوت في بعض أقاليم أمريكا الوسطى، يرحبن بنوع من العناكب، يقال له (عنكبوت الموز)، في بيوتهن، إذ يخلِّصهن من الصراصير وغيرها من الحشـرات المنزلية المزعجـة. والأمثلة كثيرة، غير أننا ننتقي منها المحسوس والملموس لنا، والمتصل بشــؤون حياتنا. فعندما ســئل الدكتور كيفين كاتلي، المتخصص بالتنوع الأحيائي في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، أن يضع تصــوراً لحـال الأرض إذا تخلَّصـت من كـل أفـراد العناكـب، التي تنتمي للأربعين ألف نوع المعروفة منها، كانت إجابته أشبه بالكابوس، إذ قال: خلال سـتة أشهر، سـيُقْضَـى على معظم محاصيلنا الزراعية، وأشـجارنا، ومراعينـا؛ إذ سـتتكفَّـلُ حشــودُ الحشــرات آكلـة النباتـات باجتثـاث كـل نباتات الأرض من جذورها، في غياب أعدائها الطبيعيين: العناكب!؛ وبالوقت ذاته، سـتعيث الحشـرات الناقلة للأمراض في الأرض فســاداً، إذ ســيغيبُ واحدٌ من أهـم رادعيهـا ومفترسيها: العنكبوت.

وفي البحر كما في البر

كذلك، فإن وجود المفترسين بالبيئة البحرية أمرٌ ضروري لصحتها واستقرارها، كما تقول دراسةٌ أجراها باحثون في جامعة ولاية أوريجون الأمريكية على النظام البيئي للشـعاب المرجانية في جزر الباهاماس، حيث عزلوا مساحات من هذه الشعاب، وأبعدوا منها أنواعاً محددة من الأسماك، ومعها منافسيها أو مفترساتها، ليروا تأثير ذلك على صحة النظام البيئي. وانتهت الدراسة إلى أن مختلف أنواع الأسماك يرتبط بعضها ببعض في شبكة الغذاء البحرية، وأن اختفاء أي نوع منها يؤدي إلى انهيار كل تجمعات الكائنات البحرية؛ وينطبق ذلك -بصفة خاصة- على حالة إبعاد الأنواع المفترسة، فهي عمـاد التوازن للأنظمة البيئية البحرية وأساس صحتها. وهذه مسـألة وثيقة الصلة بمشكلة عالمية يعانيهـا عدد من المسامك الاقتصادية، حيث إن العديد من أنواع الأسماك التي تســتهدفهـا نشاطات الصيد المكثَّفَـة بهذه المسامك هي من الأسماك المفترسـة. وقد أثبتت هذه الدراسـة أنه، من دون المفترسات تتزايد تجمعات الأنواع من الأسماك الفرائس إلى أحجـام لا يستطيع النظـام البيئي إعالتـها؛ فإذا جاعت هذه التجمعات المتضخمة، مرضت، وينتهي الأمـر إلى حـالــة من الانهيـار تطـرأ علـى تجمعـات الأنواع الفرائس، فتتزعـزع أوضــاع واقتصاديات المسامك.

الحسابات الرياضية في

خضم العلاقة الوحشية

للافتـراس أصـول وقواعـد تتحـددُ وِفـقَ نمـاذج حاسـوبية رياضية، حســب البحث الذي يقدمه لنـا الدكتور شـيجيو ياشـي، من مركز البحوث الإيكولوجية بجامعة طوكيـو، الذي أعـدَّ نموذجاً رياضياً لدراسة سلوكيات الافتراس عند الحيوانات المطاردة، مثل الفهـد، وكيـف تعظِّـمُ من فرص نجـاح مطارداتهـا بتحديد اللحظة المناسـبة للهجـوم والانقضـاض على الفريسـة. وكـان الباحث قد بدأ بملاحظة أن المفترس يقابل، في كل يوم، أنواعاً مختلفة الأحجـام والسـرعات والسـلوكيات من الفرائس، فكيف يتعامل مع هذه العوامل المتباينة؟؛ هــل يتَّبِـعَ الأســلوب ذاته مـع كـل فريسـة، أم أنَّ لكـلٍ طريقـة في الرصـد والمطاردة والقنـص ؟.

وبالاسـتعانة بذلك النموذج الرياضي، تبين للدكتور ياشـي أن لدى الحيوان المفترس أحكاماً تنظِّم كل خطوة من خطوات صيد الفريسة، وتملي عليه القرار الذي يتخذه بشـأنها؛ فهـو يوازن بين مزايـا التســلل والاقتراب المحـاذر إلى أدنى مسـافة من الفريسـة، بما يتضمنه ذلك من احتمال أن تكتشـفه الفريسـة، ومزايا اســتخدام عنصـر المفاجـأة بالمداهمة؛ فإذا اســتشــعر تزايد احتمال أن تلحظ الفريسة وجوده، ســارع بالهجـوم قبل أن تشــرع في الفـرار. وأوضـح النمـوذج الرياضي لسـلوكيات الافتراس أن المفترس، وقد اتخذ قراره بمطـاردة الفريسة، لا يأبه إن طالت أو قصـرت مدة المطـاردة؛ ولا يتـراجع؛ وذلك يجعله لا (يفكر) كثيراً أثنـاء عملية القنـص. وقد انطبق نموذج الدكتور شـيجيو ياشـي الرياضي على أسلوب الافتراس عند (العنكبـوت النطَّـاط)، الذي يسـتخدم عنصر المفاجأة عند افتراس الذبابة المنزلية، ويبدأ بمهاجمتهـا من مسـافة بعيدة، بينما لا يجـد نفسـه بحاجة لذلك في حالة افتراسه ليرقـة الذبابة ذاتهـا، فيقترب منها وكأنه (يدرك) أن فرص إفـلاتهـا -بصفتها دودة بطيئة الحركة- منعدمة.

كما أن ثمة تقارباً بين ما يرسمه نموذج يـاشـي واسـتراتيجية الافتراس عند النمر الأرقـط، الذي يقترب من الفريسـة بقدر ما يسـتطيع قبل أن يبدأ اندفاعته الأخيرة، وهو على مسـافة خمسـة أمتار منها، ولا يسـتمر في مطاردتها لأكثر من خمسين متراً، فإذا أحـسَّ بأنه يوشـك أن يفقدها، تزايدت سـرعته بشـكل ملحوظ، ولكن هذه السـرعة لا تكون ملحوظة ومؤثرة إلا في المدى القصيـر، تماماً كعـدَّاء المسـافات القصيـرة. وينـدر أن يقفـز النمر الأرقط على فريسـته من فوق شـجرة، تحـسُّباً لاحتمـال أن يُجـرح. وهـو مفترس ليلـي، ويندر أن ينجح في الافتراس نهـاراً؛ وتقوم (سياسته الافتراسية) على تفـادي منافسـة المفترسـين الكبـار، وفي مقدمتهم السـبع، وذلك بتمديد قائمة طعامه وتنويعهـا، فـلا تقتصـر على فرائـس من أنواع قليلة. وتشــتمل تلك القائمة على 92 نوعـاً من الفرائس، معظمهـا لا يقربه غيره من عتــاة المفترســين في البريـة.

مسألة فيها بعد نظر

ويرى مختصون بعلـم نفـس الحيوان أن لدى الكائن المفترس بعد نظـر! ؛ وهم يعنون بذلك تلك القدرة الغامضة، الكامنة بالحيوان، على إيجـاد الحـل الصحيـح للمواقـف، حيث لا مجال للاعتماد على الغريـزة، ولا الخبرة، أو المحاولة والخطـأ، أو التقليد. ومن أمثلة الحيوانات المفترسـة التي تتصـرف اعتماداً على بعـد نظـرهـا، النسـر الملتحـي، وهو طائر مفترس، يمكنه رفـع ســلحفـاة عاليـاً في الجـو، ثم يسـقطها على الحجـارة، فتتشــقق دَرَقَـةُ الفريسـة، فيسهل عليه الوصـول إلى لحمهـا !. أما (عنكبوت ماسـتوفورا)، الذي يسـتوطن المناطق الاسـتوائية، فيصطـاد فرائسه من الحشـرات الليلية الطائرة مستخدماً كـرات لاصقـة موزعة على خيوط يمسكها بأرجله؛ وعندما تطير حشـرة داخـل نطـاق الصيـد، يقذف العنكبوت كـرةً على الخيوط عند الحشـرة، فتلتصـق بهـا في الحـال. وعندما يجـدُ أحد أنواع الطائر المعروف باسـم (نقَّـار الخشب)، ويعيش في جزر الجالاباجوس، يرقة خنفسـاء تحـت لحـاء شــجرة، يسـرع فيقطـع شـوكة من نبـات الصبَّـار، ويمسكها بمنقاره، ويدخلهـا إلى مخبـأ اليرقة، ويأخذ في تحريكهـا بشـدة ليثقـب جسـم اليرقة، أو ليرغمهـا على مغادرة المخبأ، وينجح ســعي النقَّـار الماهر بعيد النظر، ويفوز باليرقة.

سلوكيات مختلفة باختلاف

الأمزجة والأنواع

وتجد بين المفترسين خبراء في اقتصاديات الطاقة، لا يفرطون في إجهـاد أنفسـهم للإيقـاع بالفريسـة، بل يعملون بهدوء، وعلى مهـل، ومن بين هـؤلاء أنثى نوع من الأفاعي السـامة بالشمال الأمريكي، تنشـط ليـلاً، وتبدأ في تمشــيط جحـور القوارض والأنفاق التي تحفرها تحت جذور الشـجر. وهي تقوم بهذا العمل فيما يشبه التكاسـل، فلا تجهد نفسها بالزحف السريع، وتكتفي بعَــضِّ ما تجده بمتناول نابيهـا من الفئران والضفادع والسـحالي والطيور الصغيرة؛ فإذا أفلتت منها فريسـة لا تطاردها. كما أنها -في سلوكها الافتراسي عموماً- لا تنطلق لمطاردة فريسـة قررت أن تقتنصها، بل تبقى سـاكنة لدقيقة أو دقيقتين، ثم تزحف متمهلةً، تقتفي أثر الفريسـة، وقد انخفـض رأسـها، وتبدو وكأنهـا تقبِّـل الأرض بلسـانها ذي الشـعبتين. وعندما تصل إلى المكان الذي تعرف أن الفريسة قصدته، تُخـرجُ اللسـان وتتحسسـها به، ثم تبتلعهـا. وإذا كان الموقع غير مناسـب لتناول هذه الوجبة الاعتيادية، فإن الأفعـى تبقي على الفريسة بفمهـا، حتى تنتقل إلى مكان أهـدأ وأكثـر راحـة، فتغيِّبهـا في جوفهـا!.

وثمة من يتدنى في سلوكه الافتراسي، إذا حكمنا عليه بقياساتنا الأخلاقية، فيقطع الطريق على الآخرين ليسلبهم قوتهم، كالطائر البحري المعروف باسم (الكركر الكبير)؛ فهـو قرصان بطبعه، تقوم حياته على سلب الفرائس من الطيور البحرية الأخرى، يسـاعده في ذلك تكوينه الرشـيق وخفة حركته وقدرته على المناورة، حتى في أضيق مساحة من الفضـاء. فما إن يرصـد الكركر نورســاً نجح في اصطياد سمكة، حتى يندفع باتجاهه مطارداً بإصرار، ولا يتراجع حتى يُضـطَـرُّ النورس إلى إفـلات طعامه الذي جهد في صيده؛ فإن كان يوشـك على ابتلاعه سمكته، فإن المطاردة والضغط يستمران حتى يبلغ الضيق بالنورس المسكين مبلغه، فيلفـظ وجبته، فيلتقطهـا القرصان ســهلةً. وقد يلجـأ الكركر للعنـف مع ضحاياه، فقد شـوهد وهو يقوم بحركة انقضاض سـريع، ويرتطـم بطائر حصل لتوِّه على سمكة، فتفقده قوة الارتطام السيطرة عليها، فتســقط منه، لتجد القرصان بانتظارها. كما شـوهد الكركر يقطع الطريق على بجعة فازت بسمكة كبيرة، فداهمها القرصان يلوي جناحها، فتتهاوى باتجاه سطح الماء، ولا يترك الكركر جناح طريدته إلاَّ بعد أن تتنازل عن سمكتها الشـهية!.

صغار المفترسين: العقرب مثالاً

وليس الافتراس سلوكاً قاصـراً على كبار المفترسين، فـ (ثقافة الافتراس)، إن جاز التعبير، شـائعة بين الحيوانات متوسـطة الحجم والصغيرة؛ وهي -بالوقت ذاته- صالحة كفرائس للكبار، فأسلحتها ليست مخصصة للهجوم فقط، بل هجومية/دفاعية، وتجد الكثير منها بين الحيوانات اللافقـارية؛ ومن أشـهرها العقرب الذي يشتهر بافتراس أبناء جنسه؛ وهو سلوك يراه نفرٌ من علماء سلوكيات الحيوان وسيلةً للتغلُّـب على قسوة الظـروف المعيشـية التي تحياها العقارب؛ فهـو (قارب النجاة) إن ضاقت عليها سبل العيش، ومن ناحية أخرى، فإن هذا السلوك -في ذاته- هو أداة لتشكيل تجمعات العقارب، حســب الفئات العمرية، فالعقارب الأحـدث تُضــطر إلى تكوين تجمعها الخاص، المنفصل والمتباعد عن تجمع العقارب الكبيرة، من الآباء والأعمام، المتربصين بهم. كما أدى هذا السلوك إلى تنظيم نشاطات الصـيد، بحيث يخرج الصغار لاقتناص الغذاء في أوقات مختلفة عن مواعيــد الكبــار، فلا يدخلون معهم في منافسة يخســرونها دائماً؛ وقد يتحول الكبــار إليهم، إذا عــزَّت الفرائس وندرت، ضاربين عرض الحائط بأواصر القربى!.

وترصد العقارب أعداءها وفرائسها عن طريق المويجات الاهتزازية التي تصدر عن حركتها، ويمكنها التقاط هذه المويجات، من على بعد لا يزيد على قدم واحدة، عندما تنتقل إلى شعيرات حسِّـيَّـة، منتشرة على أقدامها، فتحدث الاسـتجابة، في جـزء من الثانية، فتحدد اتجاه مصدر الحركة، ويتأهب العقرب، فتشرع سلاحها المميت -الإبرة السامة- في انتظار الضحية.

وتعيش العقارب في جحور تحفرها بنظام هندسي خاص، وعندما فكر الباحثون في استكشاف نظام هذا الجحر، صـبُّوا فيه رصاصاً مصهوراً، وانتظروا حتى برد وجمُـد، فرفعوه، ووجدوه على هيئة حلزون نازل، بارتفاع تسع بوصــات. وانتهى الباحثون إلى أن هذا الجحر ضروري جداً لحماية العقرب من جفاف البيئة الصحراوية، ومن الأعداء الطبيعيين.. إذ إن كثافة توزيع العقارب في تلك البيئة تُعــدُّ عاليةً، فثمة عقرب واحد في كل مترين مربعين، ومع هذه الكثافة، يصبح العقرب صيداً ســـهلاً مؤكَّـــدَاً لبعض أعدائه، مثل صغار الحيوانات اللبونة والبوم، بالإضافة إلى الأنواع ذات الأحجام الأكبر، من العقارب نفسها؛ فإذا لجأ العقرب إلى جحره، عـــزَّ على أعـدائه.

كما وجد العلماء أن عقارب الرمال تقضي ما بين 92 و 97 بالمائة من حياتها بالجحر، فهي لا تكاد تبارحه، إلاَّ للضرورة القصوى، بحثـاً عـن طعام، أو طلبــاً للزواج. فإن هي خرجـت مرةً دون أن يصادفها طعام، فلا غضاضة، فهي ترتد إلى جحرها في لحظات. ولكنها تحتاج إلى تأمين خروجها من الجحر الحصين في رحلة الحب والزواج.. فكيف يتأكــد العقرب الذكـر من وجود العقرب الأنثى بالخارج، ليتم الزواج؟ إن الفيرمونات هي وسيلة الاتصال بين العقارب، وهي خليط من مواد كيماوية، يختلـف تركيبه بين أنواع العقارب، فلا يستطيع عقرب من نوع ما أن يحل رموز شفرة فيرمون أنثـى من نوع مختلف.. ولولا هذه الخصوصية لاسـتخدمت الإناث من أنواع العقارب الكبيرة فيرموناتها للإيقاع بذكـور العقارب الصغيرة، لا للزواج، ولكن للافتـراس!!.

كل الأسلحة ممكنة.. حتى المعدة

ومن أشهر اللافقاريات البحرية (المُفتَـرِسة) و(المفتَـرَسَة)، في آنٍ معـاً، نجم البحـر الذي يبــدو هشَّـــاً، لا حيلة لـه، والحقيقة، هي أنه يتخذ الافتراس وسيلةً لتأميــن غذائه، بينما هو -بالوقت ذاته- عرضةً للافتراس بواسطة مفترسين كبار، وصغار أيضاً. ولا يرى نجم البحر الضوء، فلا عيون له؛ ولكنه يشعر بالأشياء، وبينها فرائسه، بلوامسه المنتشرة على السطح السفلي للجسم القرصي، كما يمكنه (قراءة) التغيرات في كيمياء المياه التي يعيش بها، فيترجمها إلى (معلومات)، تفيده بنوع وحجم الفريسة وقدراتها الدفاعية، فيتهيَّـــأ للانقضاض عليها، ويختار لها السلاح الذي يناسبها. فإذا كان حجم الفريسة أكبر من اتساع الفم، الذي يقع في مركز السطح السفلي لقرص الجسم، أو إذا كانت الفريسة عصيَّــة، متشبثة بسطح صخرة، مثلاً، ولا يمكن زحزحتها، فإن النجم يحتال على ذلك بأسلوب فريد؛ فبدلاً من أن تدخل الفريسةُ إلى معدته، فإنها -المعدة- هي التي تخرج إليها، فتغطيها، وتغرقها بعصارتها، فتهضمهـا، وتمتصها، وتعود إلى تجويــف الجسـم!؛ فإذا كانت الفريسة حيواناً رخوياً صدفياً، اختلف الأسلوب قليلاً؛ فلابد -أولاً- من اقتحام الصدفة، وصولاً إلى الجسم الرخو الشهي. ويقوم بهذه المهمة زوائد على السطح السفلي لجسم نجم البحر، وظيفتها الأساسية المشي، وهي تنتهي بممصات قوية، يستخدمها النجم في الضغط على صدفة الحيوان الرخوي، ليحدث بها شــقَّــاً، تتسلل من خلاله معدة النجم، لتحتل الصدفة، دقائق معدودة، تهضم خلالها محتواها، ثم تغادرها!.

ومن جهة أخرى، فإن الشوك الذي يغطي أجسام نجوم البحر قد منعها عن كثير من المفترسين الكبار، في عالم المحيطات. لكن ذلك لا يعني ألاَّ سـبيل إلى هذه النجوم، فلها أعداؤها الطبيعيون، مثل أنواع من طيور النورس، ونوع من ربيان (جمبري) الشعاب المرجانية، لا يوحي مظهره الرقيق بأنه قادر على افتراس نجم البحر، ذي الجسم المدجج بالأشواك، ولكن الربيان -السريع نسبياً- ما إن يجثم فوق النجم خامل الحركة، حتى يُعمِــل فيه كلاَّباتِه الحادة، فيأخذ منه قضمات متتالية، ولا يتركه إلاَّ وقد أجهز عليه!

وسائل الدفاع إيجابية وسلبية

ويمكن تلخيص القانون السائد بالحياة البرية في كلمات قليلة: اسع من أجل غدائك، ولكن، حذار.. فربما تكون، أنت، وجبة العشاء القادمة، لكائن آخر، يبحث عنك الآن!. وكما سبق أن أوضحنا، فمن (دينامية) هذا القانون، يتحقق للأنظمة البيئية الاتِّزان؛ وتتضمَّن هذه (الدينامية) تفاصيل عمليَّة؛ فمن جانب (المفترس)، يهمه أن تكون مهارات المطاردة والقنص، لديه، فى أوج كفاءتها؛ أما الفريسة، فإنها تسـتعيـن بكل وسائل الدفاع المتاحة، لدرء الخطر عن نفسها، وهى دفاعات إيجابية للقادرين، وسلبية، لمن لا يملكون قدراتٍ عضلية وأنياباً حادةً…

وفى اعتقادنا، أنَّ صفة (سلبية) لاتعني انتقاصاً من (فكر) هذه الكائنات، التي تبدو ضعيفةً، إنها -برأينا- لا تقل قوَّةً عن تلك التي لا تكُفُّ عن استعراض قوة عضلاتها، وحدَّة أنيابها، وتفوُّقها فى أعمال الكرِّ والفرِّ وإثارة الغبار.. إنها كائنات (حكيمة)، خبيرة باقتصاديَّات القوَّة، تقبع فى مخبئها، وقد أدركت -بعمق- حقيقة العلاقات والأوضاع حولها، فتجرى حساباتها بأسرع ما يكون، وتقوم بتقدير الموقف، واتخاذ القرار،بلا تردد. لا عجب -إذن- أن ينجح مئات، بل آلاف الأنواع، من هذه الحيوانات التي ترتضي الدفاعات السلبية أسلوباً لها، فى الاحتفاظ بمواقعها على خريطة الحياة على سطح الأرض، لعشرات ومئات الملايين من السنين. بينما هناك كائنات أخرى، أضخم وأقوى، قد طواها ظلام الانقراض.

صغار.. ولكنهم مدافعون كبار

ولعل أبرز (جنرالات) الدفاع السلبي، وأكثرهم شهرةً، فى البرية، الحرباء، ومنها تعلَّمت جيوشنا فنون التمويه، وإن عجزنا عن إتقانها بالكفاءة العالية نفسها، المشهود لها بها. وتتفوَّق الحرباء على نفسها، في وسيلة دفاعية سلبية أخرى، لا يعرفها كثيرون، فهي، إن تعرَّضت لخطر داهمٍ، وهلاك محقق، بعد أن ينجح عدوٌّ مترصِّد في اكتشاف وتحديد ملامح جسمها، تلجأ إلى التخلُّص من ذيلها، فتصدِّر المفاجأة للحيوان المفترس، الذى يجد أمامه (كائنين) يتحرَّكان: الحرباء، وذيلها، فيصيبه التشوُّش والارتباك؛ ويستغرق الأمر منه ثوانٍ قليلة، ليدرك الحقيقة، وعندما تتبدَّى أمامه أبعاد الخديعة، تكون الحرباء -ناقصةً ذيلها- قد فرَّت، وتحصَّنت بأقرب شقٍّ، أو عادت لحيلها اللونية -بإحكام هذه المرَّة- فيأخذ جسمها ألوان الموقع، وتختفى عن الأنظار، أمَّا المفترس الخائب، فلا يجد أمامه إلاَّ الذيل، ذا الحلقات القرنيَّة، ولا حاجة له به، فيستدير كاسف البال، وينسحب من الميدان.

إنَّ الحرباء هي النموذج المثال، الذي تستدعيه الذاكرة عندما يكون الحديث عن سلوكيات الدفاع عن الذات، بين الكائنات الحيَّة. وثمَّة كائنات أخرى، تحاكي الحرباء في أسلوبها الدفاعي، غير أنها لا تصل لدرجة براعتها. وهذه ضفدعة الأشجار، حمراء العينين، التي تعيش في غابات أمريكا الوسطى، وهي -بالمناسبة- من الكائنات التي تعانى ضغوطاً بيئية شديدة.. إنها تمتلك جسماً يصبغ معظمَه لونُ الأشجار، الأخضر؛ ولكن مشكلتها في لون العينين الواسعتين الأحمر، وفي بقع جانبية زرقاء.

وقد اعتادت ضفدعة الأشجار، لتتغلَّب على مشكلة الأحمر والأزرق، فى حالة السكون، أن تثني ساقيها الخلفيتين الطويلتين، فتتكفَّلان بإخفاء البقع الزرقاء على جانبيها، وأن تسحب غطاء عينيها، فيختفي اللون الأحمر اللافت لنظر المتربِّصين: وهكذا، يتحقق لضفدعة الأشجار توافقها مع العالم الأخضر. ولكن الضفدعة، بطبيعتها، حيوان متحرِّك متحفِّز، فإن هي لمحت حشرة على بعد خطوات منها -مثلاً- يغادرها الحذر، وتنسى إجراءاتها الدفاعية السلبية، فتقفز، منقضَّةً على الحشرة، وتلتقطها بلسانها اللزج، الذى ينطلق طرفه السائب من داخل الفم، وهو وسيلة صيد لا تخيب، فيعود بالفريسة، لتبتلعها الضفدعة. هنا، ينتبه الأعداء إلى وجود الضفدعة التي انكشف عنها غطاؤها، فتسارع إلى مكان بين أوراق الشجر، وتثني ساقيها، وتُغمض عينيها، فتعود بقعةً خضراء، على سطح أخضر!.

أمَّا الجندب مخروطي الرأس، وهو من سكَّان الغابات المطيرة، في أمريكا الوسطى، أيضاً، فإنه يعتمد وسيلة مختلفة للدفاع عن وجوده.. إنه يتعامل مع أعدائه نفسيَّاً ، فيحاول إخافتهم، إذ أنَّ لديه ما يشبه القناع الذي يرتديه لاعبو السلاح، وهو قناع أسود، يعطي -مع بعض البقع السوداء على البطن- تكويناً غير مريح، يؤدي بالمتربِّصين إلى الزهد في الجندب. وحقيقة هذا القناع، أنه أجزاء خارجية من الفم، قاطعةً وحادةً، تعينه في إعداد أوراق الشجر على هيئة شرائح صغيرة، يسهل ابتلاعها.

الهندسة الدفاعية

وتستوقفنا قدرة بعض الكائنات على مواجهة المفترسين بـ (تجهيزات هندسية) خاصة، كتلك التي تقوم بهـا قوات المهندسين في الجيوش؛ ومن هذه التجهيزات ما يصنعه نقَّـار الخشب ذو القبعة المعقودة ، الذي يسكن مع حيَّـة الجرذان الرمادية أشجار غابات الصنوبر العتيقة. وتتسلق الأخيرة الأشجار، وتعيش عليها، وتفترس بيض وأفراخ النقَّار، الذي اسـتجاب لهذا السلوك الافتراسي بإنشاء دفاعات هندسية مضـادة، يحمي بهـا أعشـاشــه ومجاثمـه التي يبنيهـا على هيئة تجاويف في جذوع أشجار الصنوبر. لقد زوَّد النقَّـار هذه التجاويف بثقوب صغيرة حفرها في الأنسـجة الخشبية للشـجرة، يسميها العلماء آبار الصمغ ، وذلك لأنها تفرز تياراً مسـتمراً من مادة صمغية تحيط بمداخل مسـاكن النقَّـار، وتصنـع -بمرور الوقت- حلقـات حول جسـم الشـجرة. وتنجح حقول هذه العوائق في تعطيل زحف الحيَّـة إلى أعشـاش بيض وأفـراخ نقَّـار الخشـب، فتزيد احتمالات إفلات هذه الفرائس. وقد اكتشـف العلماء، مؤخراً، أن ما يعطل الحية ليس فقط لزوجة صمغ شـجرة الصنوبر، ولكن -أيضاً- باحتوائه على مادة كيماوية فينولية لهـا تأثير سُــمّيّ على الحية.

وتستوقفنا، أيضـاً، قدرة فريسة ضخمة -كالزراف- على اختيار السـلاح المناسـب ضد مختلف أنواع الخطر، إذ يســتطيع الزراف أن يميز بين الدفاع ضد عدو مفترس، والدخول في معركة متكافئة، مع فرد من نفس النوع، مثلاً. ففي الحالة الأولى، وإذا هاجمه مفترس شرس، كالأسد، فإنه يشحذ أقوى أسلحته، قـدمه القوية، فيوجه إليه رفساته التي تبلغ من القوة درجة تكفي لتحطيم جمجمة المفترس، كما لو كانت وعـاءً من فخار!. فإذا تشاجر حيوانا زرافٍ مع بعضهما، اسـتخدما الرأسين في التناطـح، ولا يرفس أحدهما الآخر أبداً، فرقبة الزراف مرنة، تمتص ضربات التناطح، مثل عصـا الكاوتشـوك.

الأسلحة الكيماوية مسموحة

وقد عرف عالم الحيوان الأسلحة الكيماوية قبل البشـر بكثير، وهي -في معظمها- ذات طابع هجـومي، ومصممة للعدوان، وأوضح أمثلة لذلك سموم الثعابين والعناكب والعقارب، وغيرها. أما تلك المصممة للدفاع فقط، فيتسـلَّح بها أنواع من الحشـرات ولافقاريات اليابس والماء. وتفرز هذه الكيماويات غدداً خاصة، تنتشر بالرأس، أو الصدر، أو البطن.

وتعتمد الأسلحة الكيماوية على وقـع روائحها المنفِّـرة، وتأثيرها المهيِّـج للجلد والعين، كما أنها قد تسـبب شـللاً للعدو، وقد تكون مسـممة، فتقتله. فالسائل الذي يندفع من مؤخرة الخنفسـاء القاذفة يتحول إلى سـحابة صغيرة سـامة، ومع توالي القذائف التي قد يزيد عددها على عشر قذائف، يغطي الغاز السام موقع العدو، فيجبره على الانسحاب. كما تبين أن الحبر الأسود الذي يطلقه الأخطبوط وغيره من الرخويات البحرية الرأسـقدمية يحتوي على مركَّـب مخـدِّر، يبطـل عمـل حاسة الشــمِّ عند الأعـداء البحريين، فيزيد ذلك -مع العتمة الناتجة عن انتشـار الحبر في الماء- من فرصة إفلات الفريسة.

ترتيبات اجتماعية

للدفاع عن النوع

وقد يستدعي الدفاع ضد الافتراس بعض الترتيبات الاجتماعية، كتلك التي ينظِّمها حـوت المنـيّ . إن الأعداء يخافون هذا الحوت، لضخامة جسمه، ولكنهم يجدون صغاره فرائس سـهلة فيسـعون إليهـا، وتزداد فرص تعرُّض الصغـار لهجمات المفترسين، وبصفة خاصة الأقراش، حين تؤدي الحيتان الكبيرة نشاطاتها الاعتيادية بالغوص في الأعماق البعيدة، وهو النشـاط الذي لا يقدر عليه الصغـار، لعدم اكتمـال تكوينهم الطبيعي، فيتركون في المياه السطحية. وقد فطن الكبار إلى ضرورة توافر الحماية لأطفالهم عند السطح، لحين عودتهم من رحلات الغوص في المياه العميقة، فكان أن توصلوا إلى نظـام لمجالسـة الأطفـال، شـبيه بذلك الذي يتبعه البشـر، فتتنـاوب مجموعة من الأمهـات، تتكون كل منها من عشر أمهات، العكـوف على رعاية الصغـار، في الفترات الفاصلة بين عمليات الغوص المتتابعة، فيتجنب الصغار شــرَّ الأغـراب المتربصين. وقد لوحـظ أن الأفيـال تشــارك حيتان المنيّ هذا الأسـلوب في حماية أطفـال القطيع. ويرى نفرٌ من علماء سلوكيات الحيوان أن هذين الحيوانين لم يكونا ليتوصَّـلا إلى هذا النظـام الدقيـق لرعاية الأطفـال لو لم يكونا متمتعين بمـخٍّ متقـدم كبيـر الحجـم.

وقد صار سـلوك إناث الجراد المتعبِّـد تجـاه ذكورها مثـلاً على الغدر وانعدام الوفـاء، غير أن من يتأمل هذا السـلوك قد يراجع هذا المثل الشـائع. فالمعـروف عن هذه الحشـرة أنهـا نباتية، في أحوالهـا العامة، فإذا حان موسـم التوالد، انقلبت لاحمـةً شرهةً، فتقبل الإناث منهـا على صغار وضعفاء الذكـور، فتلتهمنهم التهـامــاً. والعجيـب أن هـؤلاء الذكـور لا يظهـرون أدنى مقاومة تجاه إناثهن المفترسات، بل يبدون وكأنهم يقدمون أنفسهم لهـنَّ طوعاً، وكأنهـم يعلمون أن أجسامهم ســتتحول في بطون إناثهن إلى بروتينـات لازمـة لإنتـاج البيـض والأكياس التي تحميه حتى يفقس؛ فهم يضحـون بأنفســهم لتســتمرَّ دورة الحياة.

وفي ختام هذه الجولة في عالم الافتراس، ننظر إلى صور المفترسين الكبار ونتساءل، كما تساءل قارئ في رسالة لمحرر مجلة (بي بي سي) للحياة البرية: لماذا يتسم مظهر المفترسين، عامة، بالشراسة؟؛ ألم يكن من الأجدى لهم أن يظهروا على درجة من الوداعة واللطـف؟.

وقد جاء في رد المحرر على رسالة القارئ: إن عيني المفترس موجودتان على صفحة الوجه، بالمواجهة، وهما تسـتخدمان، معاً، في الرؤية، كما هـو الحال عندنا نحن البشر، ليساعدا الحيوان المفترس في التقدير السليم للمسـافات. ولعل تشكيل وجه المفترس على هذا النحو، يقول المحرر، يضفي عليه انبســاطاً، ويجعله أقرب شبهاً بالوجه البشري؛ ولعل ذلك ما يجعل لهذه الحيوانات المفترسة جاذبية عند الناس، بالرغم من وحشـيتها!!قبل اكتشاف الإنسان للزراعة كانت الفريسة .

فريسة الصياد في الفن

وبنشوء الحضارات وتطورها وحتى يومنا هذا، بقيت الفريسة حاضرة في الآداب والفنون كافة من الأساطير الإغريقية وصولاً إلى السينما الأمريكية في يومنا الحالي. ولكن، بخلاف العصر الحجري، تعددت نظرات الثقافات والحضارات إلى الفريسة. كل منها وفق مفهوم أو اهتمام خاص، كما بات لكل فنان أو أديب زاويته الخاصة في التطلع إلى هذا الجانب من العلاقة بين الإنسان والحيوان التي تبقى صورة افتراس أحدهما للآخر حاضرة أبداً في الوجدان.

ولو أخذنا مشاهد الصيد حيث الإنسان هو المنتصر عادة على الحيوان لوجدنا أن الأعمال الفنية التي تمثل مطاردة الإنسان لفريسته هي أكثر من أن تحصى بدءاً بالرسوم الجدارية الفرعونية من عصر رعمسيس الثالث (1195 – 1164) مروراً بقصر آشور بانيبال في نينوى وصولاً إلى بيوت الأثرياء الإنجليز التي لا يخلو معظمها من لوحة تمثِّل مشهد وجهاء إنجليز فوق خيولهم يطاردون برفقة الكلاب ثعلباً أو غزالاً.. هذا من دون أن ننسى مئات المنمنمات الإسلامية التي تمثل رحلات صيد ونرى فيها الغزلان تتساقط تحت سهام الصيادين، ولا يزال الكثير منها يتكرر إنتاجه حتى يومنا، خاصة في إيران، على شكل سجاد من الحرير يعلق على الحائط.

وفي كل عمل فني يمثل فريسة في مشهد صيد هناك خطاب مختلف. في لوحة آشور بانيبال تستوقفنا شجاعة الملك الذي يدخل في تماس مع الأسود. أما في لوحة الرومنطيقي أوجين ديلاكروا في القرن التاسع عشر، فإن عواطفنا تتحرك للذعر البادي على الخيول من الفرائس المفترضة: الأسود.

الأمر نفسه ينطبق على الشعر في تناوله الصيد وفريسته. فمشاعر الصيد كما تناولها الشعراء العرب (سبق للقافلة أن تناولت الموضوع في باب ديوان الأمس العدد 1 من المجلد 53) تراوحت بين ما يقتصر منها على الفخر بالذات أو بالفرس، وبين ما أتى في معرض التعزية لفقدان شخص عزيز بتتبع مظاهر الموت في كائنات الطبيعة.

ولعل ذروة ما بلغه الشعر في هذا المجال، كان في تناول الصيد من وجهة نظر الفريسة كما هو حال قصيدة موت الذئب التي تعتبر أشهر قصائد الشاعر الفرنسي ألفريد دي فينيي في القرن التاسع عشر. والتي حمَّلها الشاعر الكثير من مفاهيمه للحياة والموت والواجب والكرامة.

جدلية الفريسة والمفترس

وعلى الرغم من كثرة الأعمال الفنية والأدبية التي تتناول الصيد حيث الإنسان هو المفترس والحيوان هو الفريسة، فإن قيمة الفريسة تبدو في الميراث الثقافي الإنساني أوسع وأعمق من أن يحيط بها الخطاب المباشر للصيد. ففي الأساطير اليونانية مثلاً نرى أن تقديم الإنسان فريسة للحيوان الضاري كان يشكّل العقاب الأقسى لمستحقيه. مثل لاوكون الذي أدخل حصان طروادة إلى المدينة وتسبب بنكبتها، فكان جزاؤه أن يُقدم مع ولديه فريسة لثعبان ضخم. أما البطل هرقل فقد بنى أسطورته من خلال تحولّه من مشروع فريسة إلى قاتل الحيوانات المفترسة مثل السباع والأفعى ذات السبعة رؤوس.

ومنذ عصر الإغريق تجلّت جدلية الفريسة – المفترس في معظم آداب العالم، وبشكل أفضل بكثير مما ظهرت عليه في فن الرسم. فأي الطرفين هو الفريسة وأيهما المفترس في رواية ملفيل موبي ديك ؟ الحوت الأبيض أم الصيادون؟ وأيهما المفترس في رواية همنغواي الشيخ والبحر ؟ أسماك القرش أم الصياد نفسه؟
الجواب يظهر بكل تعقيداته في علاقة الإنسان بالذئب. هذا الحيوان المفترس الذي عاداه الإنسان على مر العصور أيما عداءٍ، فنسج حوله الحكايات والأساطير بدءاً بـ ليلى والذئب وانتهاء بـ الرجل المستئذب … ولكن هذا الحيوان المفترس كان على مر العصور فريسة بنادق الصيادين والأفخاخ حتى انقرض تماماً من معظم بقاع الأرض، ولم يبق منه ما يتجاوز الحد الأدنى الضروري لبقاء النوع. فالمواجهة ما بين الإنسان الخائف من أن يكون فريسة للذئب انتهت بقلب المعادلة تماماً بتحول المفترس إلى فريسة والعكس بالعكس.

الفريسة المعاصرة

بموازاة الحركة الرومنطيقية في القرن التاسع عشر التي وجدت في الصيد وموضوع الفريسة مجالاً درامياً للتعبير عن العواطف وشحنها في الأدب والفن، ظهر أدب جديد، أو آداب جديدة تعاملت مع موضوع الافتراس من زوايا مختلفة أهمها ثلاثة، ما زالت قائمة حتى اليوم، وتستند إلى ثلاثة معطيات ميزت الحياة في القرن التاسع عشر:

1 – 
الاستكشاف الجغرافي، الذي شكّل العمود الفقري لأعمال الروائي الفرنسي جول فيرن (حيوانات عملاقة تفترس البحارة في عشرين ألف موضع تحت سطح البحر ).

2 – 
استيطان الأوروبيين في إفريقيا بعد استعمارها، قصص المغامرين في كينيا والكونغو.

3 – 
ظهور أشكال من الجرائم في المدن دفعت الخيال نحو الماورائيات بحثاً عن القدرة على هز مشاعر لم تعد أعمال القتل العادية تهزها كفاية (قصص مصاصي الدماء مثل دراكولا ونوسفيراتو).

ولو تطلعنا إلى الفريسة في السينما الأمريكية خلال القرن العشرين لوجدنا أنها كانت ولا تزال تنتمي إلى واحدة من هذه الفئات الثلاث: حيوانات ضخمة أو سامة تهاجم المدن الحديثة وتفترس سكانها: عناكب، أرانب، خفافيش، نحل، وأشهرها ولا شك الطيور لألفريد هيتشكوك الرائد في هذا المجال، حيث نرى الطيور الجميلة والوديعة تتحول في كثرتها إلى ضواري مفترسة تفتك بالناس بأشكال مرعبة.. ومغامرون في إفريقيا بعضهم للدفاع عن الحيوانات المفترسة، وبعضهم ليسقط فريسة لها، إضافة إلى قصص مصاصي الدماء التي تستعيدها السينما مرة تلو المرة. ناهيك عن الأفلام التي تقوم على تصوير عالم الافتراس المخيف وكأنه يحيط بنا أينما كان مثل سلسلة أفلام جوس (الفك)، حيث نرى أسماك القرش تفترس السابحين على أحد الشواطئ، تذكيراً بأن وحشية المواجهة بين الإنسان والحيوان ما زالت كما كانت منذ آلاف السنين. وما النجاح العالمي الذي حظي به فيلم جوراسيك بارك حيث تبعث الديناصورات المفترسة حية لتفترس الناس.. إلا تأكيد على أن استحضار الماضي يلبي حاجة الإنسان إلى التطلع إلى نفسه.. كفريسة محتملة، أملاً، ربما، في أن لا يصبح فعلاً كذلك.

بين موضوعية العلم والمقاييس الأخلاقية
يؤكد الباحثون ومعدّو الأفلام الوثائقية العلمية عن عالم الحيوان، أنهم يرصدون ما يجري في الطبيعة ويسجلونه من دون أي تدخل من قبلهم، رغم أن مشاهد افتراس الحيوانات لبعضها قد تكون على مستوى من القسوة تدفع المشاهد إلى الرغبة الجامحة في التدخل لإنقاذ الضحية المذعورة والجريحة والمثيرة للعطف. ولا يعاني شهود العيان هؤلاء أية مشكلة أخلاقية، ولا يلامون على سلبيتهم أمام هذه الأحداث الدموية. إذ إن العلم صنّف منذ زمن طويل افتراس الحيوان للحيوان كأمر طبيعي بالمعنى الحرفي للكلمة. وكشرط لا غنى عنه لبقاء الأنواع وتوازن الحياة في الطبيعة.

أما افتراس الإنسان للحيوان، الذي كان الصيد أوضح الأشكال في التعبير عنه وأضخمها تاريخياً (قبل نشوء مزارع الحيوانات الحديثة)، فقد بات موضع مساءلة منذ قرن ونصف تقريباً. ففي القرن التاسع عشر، عصر المجازر الكبرى التي ارتكبها الصيادون في إفريقيا وأمريكا، ظهرت أولى بوادر أخلاقيات الصيد على يد أرستقراطي بريطاني يدعى هنري هيربرت، كتب منذ عام 1839م سلسلة مقالات في أمريكا حول أخلاقيات الصيد كي يكون رياضة لائقة تختلف عمّا يمارسه القتلة من عامة الناس. وبمرور الزمن راحت القوانين أينما كان في العالم تضيّق الخناق على الصيادين من خلال تحديد فترات الصيد المسموحة وأنواع الأسلحة والطرائد، وكل ذلك تحت ضغط هاجس الحفاظ على الأنواع المهددة من الانقراض، بعدما انقرض فعلاً العديد منها. وبموازاة ضبط الصيد، نمت في النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة التعاطف مع الحيوان بعدما أخلَّت الأسلحة النارية الحديثة بموازين القوى بين الإنسان والحيوان. حملات عالمية أولاً للدفاع عن الفيلة وحيوانات الفقمة التي كانت تتهاوى تحت ضربات البنادق طمعاً بالعاج والفراء، ومن ثم القطط الكبيرة ثم عشرات ومئات الأنواع، فجميع المخلوقات الحية من دون استثناء.

ويذكر الكثيرون أنه عندما أخرج فرنسيس فورد كوبولا في أواخر السبعينيات فيلمه القيامة الآن الذي تدور أحداثه حول حرب فيتنام، وتميّز بمشاهد عنف عزّ نظيرها في تاريخ السينما، لم يتعرض الفيلم للنقد والملاحقة القانونية إلا لمشهد ذبح ثور بصورة وحشية. ولكن البشرية تستهلك يومياً آلاف الثيران والأبقار وملايين الطيور التي يتم ذبحها يومياً في المسالخ. ولم يؤدِ اقتحام المقاييس الأخلاقية للمسالخ إلا إلى جعل عمليات الذبح الأوتوماتيكية تتخذ ألطف أشكالها وأقلها إيذاءً للحيوان.

فمن الصيد العشوائي في أرياف العالم الثالث، إلى معاطف الفراء الفاخرة على سيدات باريس ونيويورك مروراً بحلبات مصارعة الثيران، تبدو المقاييس الجديدة للأخلاق الإنسانية الحميدة، قادرة فقط على تغيير بعض أنماط قتل الإنسان للحيوان وأشكال المواجهة بينه كمفترس والفريسة، حتى أن طموحها لا يرتقي أبداً إلى مستوى التطلع نحو استئصال هذه الحاجة أو اللازمة التاريخية.