مرّة أخرى، الأدب يسبق العلم، فيضع في ميزان الأخلاق احتمالات التطبيقات العلمية قبل دخولها حيّز التطبيق فعلاً.
الوديعة رواية أمريكية جديدة تطرح سؤالاً أخلاقياً كبيراً بات له ما يبرِّر طرحه بتطور التصميم الجيني ومتفرعات علم الهندسة الوراثية.. هذا العلم الذي قد يسقط في بعض تطبيقاته إلى التطلع إلى الإنسان كمجرد مستودع لقطع غيار بشرية يحتاجها إنسان أفضل منه!!
فاطمة الجفري تعرض قراءتها لهذه الرواية فتعرفنا بأبطالها وبالقضية المطروحة، إضافة إلى ترجمتها لفصل مختار بدقة من مرحلة حاسمة من مراحل الرواية.
يُكتب على البعض أن يعيش في الظل، فإن سُلّطت عليه الأضواء، ظن البقية منا أن جماله ظهر وتألق بسبب هذه الأضواء، بينما هو موجود بضوء ومن دون ضوء، والخسارة كانت لأولئك الذين لم يقتربوا، ولذلك لم يروا.
آنا فيتزجرالد، الفتاة ذات الثلاثة عشر ربيعاً، بطلة رواية الوديعة لمؤلفتها جودي بيكولت، كانت من ساكني الظل. تخبرنا آنا أنها أتت إلى هذه الدنيا لسبب محدَّد، ووظيفة أكثر تحديداً.
أتت آنا ليكون جسمها، المصمم جينياً بعناية، مصدراً لكل ما يحتاجه جسم أختها الكبرى كيت، المصاب بنوع نادر ومميت من سرطان الدم. وتبدأ الحكاية، عندما تقرر آنا مقاضاة والديها للحصول على حقها في التحكم بجسمها طبياً، ذلك أن والديها هما من يتخذان القرارات الطبية المتعلقة بها، كونها لم تبلغ السن القانونية بعد لتكون مسؤولة عن قراراتها. وفي حال حكمت المحكمة لصالح آنا، ستمتنع الفتاة عن التبرع بكليتها لأختها كيت، المصابة بالفشل الكلوي، والمهدَّدة بالموت في أية لحظة إن لم تجد متبرعاً مناسباً لجسمها الهش.
والدي، الفلكي المتخفي في ثياب إطفائي، حاول ذات مرة أن يشرح لي معنى الثقوب السوداء، ومدى قوتها التي تجذب كل شيء، حتى الضوء، إلى مركزها. لحظات كهذه، تحمل قوةً جاذبة كتلك التي تحملها الثقوب السوداء.. تمتصك في النهاية، أياً كان ما تشبثت به للنجاة. آنا فيتزجرالد
جودي بيكولت، الروائية التي تنسج العائلة بكل قضاياها خيوط رواياتها، حاكت نسيج عائلة الفيتزجرالد بكل رقة واتقان، على لسان الشخصيات الرئيسة في روايتها، آنا وأسرتها المكوَّنة من والديها براين وسارة، والأخ الأكبر جس، بالإضافة إلى المحامي الذي وكلته آنا لرفع قضيتها كامبيل ألكساندر، والوصية جوليا رومانو التي عينتها المحكمة لترعى مصلحة آنا خلال القضية.
حياة آنا وأسرتها، كانت تتمحور حول كيت ومرضها، ولهذا تحديداً كانت كيت هي الوحيدة من أسرتها التي أغفلت الكاتبة ضمها إلى من يروون الحكاية، في إشارة واضحة إلى أن الرواية هي عن آنا، وليست عن كيت.
هناك رف كامل مُكَرّس للصور التي تحكي تاريخ أسرتنا في غرفة المعيشة… هناك صور لي أيضاً، ولكن ليست كثيرة. أنمو من طفلة رضيعة إلى فتاة في العاشرة من عمرها في قفزة واحدة… هذا ليس خطأ أحد، وليس شيئاً مهماً على أية حال، ولكنه بالرغم من ذلك يثير الاكتئاب بعض الشيء. تحكي الصورة عن ملتقطها: كنتِ سعيدة، وأردتُ أن ألتقط هذه اللحظة. تقول الصورة بدلاً عن مصورها: كنت مهمةً جداً بالنسبة لي، لدرجة أنني تركت كل شيء في يدي، وأتيت لأشاهدك . آنا فيتزجرالد
تجري معظم أحداث الرواية في أيام معدودة، تختزل شخصيات الرواية في طياتها. تحكي سارة ذكرياتها، وهي الأم التي لم تر في آنا ساعة ولادتها سوى روعة وجمال الحبل السري الذي سيحفظه الأطباء لتتزوَّد به كيت. ونرى في هذه الذكريات كيف تعلَّمت الأم أن تهب آنا بقية من حبٍ أفلت من دوامة اهتمامها بكيت.
وبجانب سارة يحكي براين، رجل الإطفاء الذي يرى في عمله أن أهمية سلامة الإطفائي المنقذ تتجاوز أهمية سلامة الضحية. يهوى براين الأب علم الفلك ومراقبة النجوم، ويرى فيها من دون وعي، ملجأ ما إلى عالم أكبر لا يمتصه كليةً دون رحمة، كما يمتصه عالم أسرته الصغيرة.
أما جس، المراهق في الثامنة عشرة من عمره ، فيشي ولعه بإشعال الحرائق بحبه لوالده رغم التناقض بين مهمة الوالد وتسلية الابن، فالظروف ذاتها التي صقلت براين كرجل إطفاء يعيش حقاً لا ادعاءً حلمه بإنقاذ الآخرين، دفعت جس للعب بالنيران، كوسيلة يستطيع فيها أن يؤكد ذاته، وأن يحمي أمانه الهش من الاحتراق.
لم آت لرؤية كيت لأن رؤيتها تجعلني أشعر بتحسن. أتيت لأني من دونها، من الصعب علي أن أتذكر من أكون . آنا فيتزجرالد
قريباً من الفيتزجرالد، نرى جوليا رومانو، الوصية على آنا خلال أيام المحاكمة، وهي تكتشف أن المحامي في القضية الجديدة هو حب حياتها الذي فتحت له عالمها المغلق في سنوات دراستها الثانوية، فقط ليدير لها ظهره ويبتعد عن عالمها تماماً ومن دون إبداء أسباب، وإن ظنت أن أسبابه واضحة لا تحتاج إلى شرح. ونتعرف على إيزابيل رومانو، توأم جوليا المتطابق، مصممة المجوهرات غريبة الأطوار، مثلية الميول.. والتي تختلف تماماً عن جوليا في كل سمة من سمات شخصيتها وطبيعة حياتها. ويرى القارئ الخطوط الدقيقة التي رسمت بها بيكولت التقارب بين التوأم جوليا وإيزابيل، وبين آنا وكيت. فرغم أن جوليا وإيزابيل نشأتا من بويضة واحدة، إلا أن اختلافهما لم يمنح مساحةً لأي تشابه بينهما، وإن كان تطابقاً في الشكل، بينما نجد اختلاف آنا وكيت لم يتجاوز السطح، أو هو كما وصفته آنا: أنا وكيت توأمان سياميان، غير أنك لا تستطيع أن ترى موضع ارتباطنا، مما يجعل انفصالنا عن بعضنا أصعب . ربما، لأن جوليا وإيزابيل عاشا حرية صنع القرار، بينما انتظمت كيت وآنا في عقد واحد، دون خيار.
إنها تمطر… اسأل أي طفل أنهى صفه الرابع الابتدائي، وسيخبرك: الماء لا يتوقف عن الحركة. يهطل المطر، ويجري نزولاً من على سفوح الجبال ليصب في مجرى النهر. ومن النهر، يجد الماء طريقه إلى المحيط، حيث يتبخر، ليتحول إلى سحاب. وعندها، مثل كل شي آخر، يبدأ الأمر من جديد . آنا فيتزجرالد
تمضي أيام المحاكمة، وتقاوم آنا بكل قوة طلب كامبيل صعودها إلى منصة الشهادة، ولكنها تقرر في النهاية، عند سماعها لتقييم وصيتها جوليا، أن تبوح بالحقيقة التي تؤرقها وتكشف الستار عن نسيج إنساني صادق ومؤثر.. وتدفع القاضي إلى الحكم لصالحها. ولكن الرواية لا تنتهي في قاعة المحكمة، ومفاجآت بيكولت لا تنتهي أيضاً هنا، ففي الصفحات العشر المتبقية على نهاية الرواية، تفسح الروائية المجال لمفاجأة أخيرة، تعتبرها الوسيلة الوحيدة التي تنقذ عائلة الفيتزجرالد من الدائرة الذاتية المدمرة، والتي دار فيها أفراد العائلة لسنوات وسنوات.. دون أن يستطيع أحد منهم الخروج منها، وإن حاول.
صفحات الرواية مليئة بالأمل الهادئ، وانكساره على حد سواء، وهي سمة من سمات روايات بيكولت، التي اعتادت أن تعالج في رواياتها قضايا الأسرة بطريقة شاعرية إن جاز لنا التعبير.
إنها رواية ناجحة في إجبار القارئ على التسليم بوجود اللون الرمادي، بدلاً من التمييز السهل بين الأبيض والأسود. وعلى مدار الرواية، يحاول القارئ أن يجد من يلومه، ويعلّق حمله العاطفي عليه، ولكن من دون فائدة. فلكل شخصية من شخصيات الرواية زاوية تنظر من خلالها إلى الأمور، وقد تتشوش الرؤية في بعض المواقف، إلا أن ما يشوشها هو الحب، والنوايا الطيبة الخالصة.. لا شيء آخر. الناحية الأخلاقية في قضية الأطفال المصممين جينياً شغلت المجتمعات الغربية في السنوات الماضية، وما زالت، في ظل الإمكانات والاحتمالات التي يطرحها تطور كهذا. فهل يجوز للإنسان، والداً كان أم عالماً في مختبر، أن يتحكم بصفات مولود قادم، وبمصيره، مهما كان الدافع؟ تناول بيكولت لقضية مثيرة للجدل الأخلاقي والعاطفي الشخصي مثل هذه القضية، أتى ليطرح الأسئلة، لا ليعطي إجاباتها، وليترك القارئ مع أسئلته حتى بعد انتهاء الرواية بمفاجأتها التي ابتعدت عن الطرح النظري الفلسفي، لتلمس مشاعر غاية في العمق والرقة بدون صخب أو مبالغة.
جودي بيكولت
ولدت في لونج آيسلاند في الولايات المتحدة
الأمريكية عام 1967م. درست الكتابة الإبداعية في جامعة برينستون، ونُشرت لها قصتان قصيرتان في مجلة (سفنتين) بينما كانت طالبة.
تنقلت جودي بين عدة وظائف مكتبية قبل التحاقها بجامعة هارفارد لتحصل على ماجستير في التربية. وكتبت بعد ذلك أولى رواياتها أغنية الحوت
الأحدب . وتتالت رواياتها ليبلغ عددها ثلاث عشرة رواية، كان آخرها رواية الدائرة التاسعة .
تصدَّرت رواياتها قائمة مبيعات نيويورك تايمز ، وحصلت على جوائز عدة منها جائزة نيو انجلاند لأفضل الكتب مبيعاً عام 2003م.
تعيش جودي حالياً في نيوهامشير مع زوجها
وأولادها الثلاثة.
مقتطفات
من رواية الوديعة آنّـــــــا
اعتدت أن أدعي أن أسرة الفيتزجرالد قد استضافتني حتى أجد أسرتي الحقيقية.. ولم أكن مبالغة كثيراً في ذلك، فشقيقتي كيت نسخة أنثوية من والدي، بينما يمثل جس النسخة الذكرية لوالدتي، وأظل أنا.. مجموعة من الجينات المختارة بعناية في المختبر، من دون هوية. أتلفّت حولي وأراقب الأسر المجتمعة حول الطاولات عندما أجلس في كافتيريا المستشفى. ويروق لي أن أفكر أن أسرتي الحقيقية تجلس على بعد طاولة مني. بالتأكيد سيبكي والداي فرحاً لأنهما عثرا علي أخيراً بعد ضياع، وسيحملاني إلى قلعتنا في موناكو أو رومانيا، لتقوم على خدمتي هناك خادمة لها رائحة ملاءات السرير النظيفة. وعندما أود تسلق الجبل، سيرافقني كلبي، ولن أتحدث إلا عبر خطي التليفوني الخاص.
المشكلة، أن أول من سأفكر في الاتصال بها لأتباهى بثروتي الجديدة، هي كيت.
على كيت أن تستسلم لجلسات الغسيل الكلوي لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، كل منها تستمر لمدة ساعتين. ودم كيت -هو دمي إن أردت الدقة- يغادر جسمها عبر الإبرة لينقى، ثم يعود إلى جسمها عبر إبرة أخرى. تقول كيت إن هذه العملية ليست مؤلمة، بل مملة في أغلب الأحيان. ولهذا غالباً ما تحضر معها كتاباً أو مشغِّل الأقراص المدمجة. أحياناً، نلعب سوية. تطلب مني أن أذهب إلى قاعة الانتظار، وأحكي لها عن أول شاب وسيم أصادفه هناك، أو أن أتسلل إلى غرفة البواب الذي يتصفح الإنترنت، وأعرف أية صورة عارية يحملها جهازه وقتها. عندما تكون كيت مقيدة إلى سرير المستشفى ، أغدو لها عيناً وأذناً.
اليوم، كانت كيت تقرأ مجلة ألور المختصة بالأزياء والموضة. وكنت أتساءل إن كانت تعي أنها تتحسس نحور عارضات الأزياء العارية على صفحات المجلة، وتقارنها بصدرها الذي تخترقه الأنابيب. فجأة، ومن بدون مقدمات، لوحت والدتي بمطوية عنوانها أنت وكليتك الجديدة وهي تقول: هذا مثير للاهتمام! هل تعلمان أنهم لا ينزعون الكلية القديمة؟! هم فقط يزرعون الكلية الجديدة بجانبها . قالت كيت: هذا ليس مثيراً للاهتمام.. هذا مخيف! تخيلي أن الطبيب الشرعي يشق جسمي ليرى أن لدي ثلاث كلى بدلاً من اثنتين . فأجابتها والدتي: أعتقد أن سبب زرع الكلية من الأساس هو ألا يمسك مشرط الطبيب الشرعي عما قريب .
هذه الكلية الخيالية التي تتحدث عنها والدتي، تسكن حالياً في جسمي.
وأنا، أيضاً، قرأت تلك المطوية.
التبرع بالكلى يعتبر جراحة آمنة، ولكن إن سألتني عن رأيي فسأخبرك أنني متأكدة من أن كاتب المطوية كان يقارنها بعمليات أخرى عندما وصفها بالآمنة، كزرع قلب أو رئة، أو حتى إزالة ورم خبيث في الدماغ. الجراحة الآمنة هي تلك التي تذهب فيها إلى عيادة الطبيب، وتظل محتفظاً بوعيك طيلة مدة العملية التي تنتهي في خمس دقائق، كأن تزيل بثرة ما عن بشرتك، أو تسوس في أسنانك. أما إن كنت تخوض غمار التبرع بكليتك، فعليك أن تقضي ليلة كاملة قبل العملية صائماً عن الطعام والشراب، عدا المسهلات التي تضطر إلى تناولها، والتخدير الكامل الذي تقتضيه العملية، مما قد يعرضك إلى جلطة أو نوبة قلبية، أو حتى مشكلات في الرئة. العملية التي تستغرق أربع ساعات ليست أيضاً شيئاً سهلاً، فاحتمال موتك على طاولة العمليات قائم بنسبة واحد من ثلاثة آلاف. إن لم تفعلها وتمت، عليك أن تظل في المستشفى لمدة أربعة أيام قد تطول إلى سبعة، عدا تلك الأسابيع الإضافية التي تحتاجها لتشفى تماماً. هذا لا يتضمن التأثيرات الجانبية على المدى الطويل: زيادة احتمال إصابتك بضغط الدم العالي. المغامرة بالإصابة بتعقيدات أثناء الحمل. وتوصية الأطباء بعدم مشاركتك في أي نشاط قد يعرض كليتك الوحيدة للخطر.
ثم، مرة أخرى ، عندما تحتاج إلى عملية لإزالة البثور أو التسوس، فإن الشخص الوحيد الذي يستفيد من هذه العملية على المدى البعيد هو أنت. لا أحد سواك.
ثمة طرق على باب الغرفة، ثم أطل فيرن ستاكهاوس من فرجة الباب. فيرن يعمل ملازماً في الشرطة المحلية، وبالتالي هو عضو في جماعة الخدمة العامة كوالدي. اعتاد فيرن على زيارتنا في المنزل بين كل فترة وأخرى لإلقاء التحية، وللتهنئة بالأعياد. مؤخراً، زارنا ليعيد جس إلى المنزل بعد مشاجرة كادت أن تلقي به في السجن لولا تدخله كشرطي. عندما تكون جزءاً من أسرة ابنتها تموت، يتساهل الناس معك، وكأن ما تمر به يغنيك.
وقف فيرن متردداً أمام الباب، لا يدري إن كان من الصواب أن يدخل إلى الغرفة. قال محرجاً لوالدتي: مساء الخير يا سارة ، فوقفت والدتي متفاجئة وأجابت: فيرن! ما الذي تفعله هنا في المستشفى؟ هل كل شيء على ما يرام؟ تقدم خطوات باتجاهها، وأجاب: أوه.. نعم. أنا هنا في مهمة عمل . سألته: هل أتيت لتوصل أوراق دعوى قضائية لمريض؟! فمد يده جواباً عن سؤالها بأوراق الدعوى القضائية التي تسأل عنها قائلا بأسىً: أنا فعلاً آسف يا سارة .
غادر دمي جسمي، كما يغادر دم كيت جسمها. لم أستطع أن أتحرك وإن أردت ذلك.
سألت والدتي بصوت خافت: ما هذا..؟ فيرن، هل ادعى أحدٌ علي؟ أجابها: أنا لم أقرأ محتوى الأوراق. اسمك كان مكتوباً في قائمتي ولذلك أوصلتهم إليك. إن.. إن كان هناك أي شيء .. ولم يكمل جملته، خرج من الغرفة، واضعاً قبعته بين يديه.
سألت كيت وهي ترى والدتي تفض الأوراق المغلفة: ماذا يحدث يا أمي؟ ، فأجابتها والدتي: ليس لدي أية فكرة . ولكني كنت قريبة منها كفاية لأقرأ الأوراق من وراء كتفها.
ياللهول. أشعر بأن خَدَيَّ يحترقان، وبخفقات قلبي تتسارع. أشعر بذات المشاعر التي شعرت بها عندما أرسل مدير مدرستي مذكرة تأديبية إلى والدي لأني رسمت كاريكاتيراً ساخراً لمعلمتي الآنسة توهي في كتاب الرياضيات. لا. شعوري أسوأ من هذا بمليون مرة.
تطالب المدعية بالحصول على حقها في اتخاذ القرارات الطبية مستقبلاً.
تطالب المدعية بعدم إجبارها على الخضوع لأي علاج طبي ليس في مصلحتها وليس فيه فائدة مباشرة لها.
تطالب المدعية بعدم وضعها تحت أي علاج طبي لمصلحة أختها كيت.
رفعت والدتي وجهها عن الأوراق، ونظرت إلي. همست قائلة: آنا.. ما هذا الهراء؟ .
شعرت وقتها أن لكمةً سددت إلي. الآن، عندما حدث ما كنت أسعى إليه، ماذا بإمكاني أن أقول لها؟ خطت والدتي خطوة باتجاهي وهي تقول: آنا! ومن ورائها، صرخت كيت: أمي.. أشعر بالألم. استدعي الممرضة .
استدارت والدتي تجاه كيت المتكومة على السرير، وشعرها يغطي وجهها. من بين خصلات الشعر، أرى عينيها تنظران إلي، ولكني لست متأكدة. تأوهت كيت مرة أخرى وهي تقول: أمي.. أرجوك . وللحظة، وجدت والدتي ممزقة بيننا. تنظر إلي ثم تنظر إلى كيت، ثم تعود لتنظر إلي.
أختي يمزقها الألم، وأنا يغمرني الارتياح. أي أختٍ أكون؟
آخر ما أراه وأنا أفر من الغرفة هو يد والدتي التي تمتد لتضغط على زر استدعاء الممرضة مرةً بعد مرة، وكأنما هذا الزر هو زناد قنبلة ما.
لا أستطيع الاختباء في الكافتيريا أو في صالة الانتظار، أو في أي مكانٍ آخر يستطيعون التنبؤ بوجودي فيه. لهذا، وجدت نفسي أصعد إلى عنبر الولادة في الدور السادس من المستشفى. لا يوجد سوى هاتف واحد في الممر، والرجل الذي يتحدث عبره يبتسم ابتسامة واسعة تكاد تتشقق لها ملامحه، ويقول لمن يحادثه: بلغ وزن طفلتي ستة باوندات وإحدى عشر أونصة. ليس هناك من هي أجمل منها .
هل فعل والداي هذا عندما ولدت؟ هل علق والدي الزينات احتفالاً بمولدي؟ هل قبلت والدتي جبيني، ورفضت أن تسمح للممرضات بأخذي؟ أم أنها تخلت عني لهن دون اعتراض، ما دام الطبيب قد انتزع مني الحبل السري الذي كانت تسعى إليه، وانتهى الأمر؟
أنهى الأب الجديد المكالمة أخيراً، ضاحكاً من دون أي سبب. قلت له: مبروك . بينما في الحقيقة كنت أريد أن أطلب منه أن يحتضن طفلته بقوة بين ذراعيه، ويضع لها على طرف مهدها القمر، ويعلق اسمها بين النجوم، كي لا تضطر مطلقاً في يوم من الأيام، إلى أن تفعل به ما فعلته بوالديّ.