عين وعدسة

مشروع جزيرة جربة التونسية

100 فنان يحوِّلون القرية إلى متحف عملاق

Djarba-1بعدما لعب الفنان مهدي بن شيخ دوراً مهماً في الارتقاء بفن الشوارع في باريس وتحويله إلى فن يحظى بالتقدير والاحترام، قرر أن ينقل تجربته إلى موطنه الأصلي، تونس. حيث اختار قرية صغيرة تُدعى الرياض في جزيرة جربة. وكانت النتيجة مدهشة.

خلال السنوات الماضية، تحوّل فن الغرافيتي، أو فن الشوارع، من ممارسة منفرة غالباً ما تكون خارجة عن القانون، مرتبطة بانحطاط بعض المناطق الحضرية، إلى فن رائج يعكس الإبداع والحيوية المدنية. ومن أبرز الأشخاص المسؤولين عن هذا التغيير مهدي بن شيخ، الفنان الفرنسي الجنسية ذي الأصل التونسي، الذي سعى إلى إيصال فن الشوارع إلى الجميع. وبالفعل، نجح في ذلك خاصة بعدما أسس في عام 2004م معرض «إيتينرانس» في باريس المخصص لفن الغرافيتي، وبعدما حوَّل مع مائة فنان من العالم، أحد المباني الباريسية المهجورة المؤلفة من تسعة طوابق و36 شقة إلى صرح عالمي يحوي معرضاً رائعاً لفن الشوارع لم يسبق له مثيل في العالم. ومع ذلك، بقي حلم بن شيخ القيام بمشروع مميز لبلده الأم تونس. وقد أراد بذلك أن يوجد متحفاً متحركاً ومفتوحاً ومجانياً للجميع له نفس مزايا المتحفَ العادي لكنه في الهواء الطلق غير محصور في مكان ضيق، على أن يتحوَّل إلى جسر ثقافي يربط الغرب بالعالم العربي.

اختيار المكان
Djarba-2وبعد البحث عن المكان الأنسب لإقامة مشروعه وجد ضالته في قرية الرياض على جزيرة جربة التونسية، المعروفة بجزيرة الأحلام الواقعة في البحر الأبيض المتوسط التي تتمتع بطبيعة ساحرة، تتناثر فيها أشجار النخيل والزيتون، كما تتميز بطقس متوسطي وهندسة معمارية أندلسية رائعة. واستقطب بن شيخ إلى تلك الجزيرة حوالي مائة فنان من أكثر من 30 بلداً في العالم بمن فيهم 12 من تونس نفسها. وانكب هؤلاء الفنانون يرسمون على جدران القرية وأنتجوا أكثر من 200 عمل فني، دون تقاضي أي أجر مادي، تماشياً مع المبادئ الأساسية لفن الشوارع. إلا أن بعض الشركات رعت هذا المشروع، ووفرت لهؤلاء الفنانين كل مستلزمات السفر والإقامة على جزيرة جربة الرائعة.

إلى جانب طبيعتها الجميلة، كان من بين العوامل التي جذبت مهدي بن شيخ لاختياره هذه الجزيرة، كونها إحدى الوجهات السياحية المفضلة لآلاف السياح العرب والأوروبيين، إضافة إلى حفاظها على التقاليد والعراقة، لا سيما التسامح بين سكانها الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة. كما أن معظم جدرانها مدهونة بطلاء أبيض أو أصفر فاتح مما يمكِّن من الرسم عليها بسهولة.

بعد حصول مهدي على رخصة من وزارة السياحة ومحافظ جربة بدأت مفاوضاته مع الأهالي. في البداية اصطدم مشروع مهدي وفريقه الطموح بتعنت بعض أهالي القرية الذين لم يفهموا المغزى الحقيقي لهذه الرسومات الغريبة عن ثقافتهم. أما الأعداد القليلة التي وافقت على الرسم على جدران منازلها وقّعت على وثائق تشترط استخدام جدرانها لسنة واحدة فقط ومن بعدها يمكن تغطيتها من جديد. ولكن بعدما شاهد بقية السكان الرسومات على الجدران الأخرى اشتد حماسهم، وطالبوا بمثلها على منازلهم وانطلق المشروع بقوة.

كان مبنى فندق «دار الضيافة» من أول المباني التي احتضنت الرسومات الفنية، فضمَّ جداريتين اثنتين، واحدة بريشة الفنان الفرنسي زيفا، وهي من رسوماته لفن الخط المنتشر في مختلف أرجاء القرية. وبالمناسبة عبّر أحد المسنين في القرية عن سروره لانتشار فن الخط هذا في البلدة، لأنه يعيد إحياء هذا الفن الذي كان من الفنون العربية القديمة الرائجة، وشبَّه الأمر بأشجار الزيتون التونسية القديمة التي عادت إلى الحياة والاخضرار من جديد.

أما الجدارية الثانية فهي مزيج من فن الخط وفن الرسم، ومثلها مثل الأعمال الفنية الأخرى فقد استخدمت الهندسة المعمارية المحلية كجزء من طابعها الفني. فقد رسم الفنان اللبناني يزن حلواني ضمن إطار أحد الأبواب الخارجية للفندق فتاة صغيرة وهي تنفخ على زهرة الهندباء لتتطاير في الهواء وتتحول بذورها إلى أمنيات للسلام والازدهار كتبت باللغة العربية وامتدت على الجدار المجاور، إضافة إلى أعمال فن الخط العديدة التي رسمها حلواني لتزيين أحد الشوارع الهادئة الأخرى، إلى جانب رسم مبدع لوجه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

وهناك أيضاً بعض الأعمال الأخرى التي تميزت بالدرامية والتي امتدت على عدة أمتار على طول واجهات الأبنية. من أبرزها تلك التي رسمها الفنانون التونسيون، ومنها الوردة الزرقاء التي رسمها الفنان إينكمان باللون الأزرق الفاتح والداكن، ورائعة الفنان شوف لفن الخط باللونين الأبيض والأسود، ورسومات الفنان الفرنسي-التونسي السيد التي امتدت من مبنى إلى آخر والتي أطلق عليها اسم «الكليغرافيتي». ومن بين الأعمال الأخرى رسومات لفنانين من فلسطين وليبيا بالإضافة إلى مساهمة لعمل أخّاذ من الخط للفنان السعودي ضياء صاحب الأعمال العديدة المعروضة في بلاده، وعمل لافت للفنان العراقي-البريطاني المعروف بـ «ماين أنديورز» لسيدة تحمل زهرة اللوتس بالإشارة إلى «جزيرة آكلي اللوتس» أو جزيرة جربة المذكورة بملحمة هوميروس الشعرية «الأوديسة». حيث إن هناك واقعة في الأسطورة تروي كيف أنه عندما رسا أوليس، بطل الملحمة، في جزيرة جربة وبعث ببعض رجاله لاستكشاف معالمها، قدّم إليهم سكان جربة ثمرة اللوتس وهي ثمار، حسب الأسطورة، تنسي آكلها وطنه وتجعله يرغب في البقاء على الجزيرة.

من مميزات المشروع
التنوع والتهذيب والأناقة

ما يميز مشروع جربة، هو الأسلوب المتبع في معظم الرسومات حيث يتجلَّى التهذيب والأناقة خلافاً لكثير من الأعمال الغرافيتية في المدن الأوروبية وغيرها. كما أنه ذو تنوع فريد يهدف إلى تلبية مختلف الأذواق. فهناك رسومات مستوحاة من تقاليد الجزيرة مثل تلك التي تصوِّر شخصيات تقليدية من الرجال والنساء، كرسم لموسيقي مسنّ وراعي أغنام وهما يواجهان هبوب الرياح. وهنالك أيضاً رسومات لفرسان تذكِّر بفتح شمالي إفريقيا من قبل الرومان ومن ثم بني هلال وقبائل عربية أخرى. كما لا تخلو بعض الأعمال من المشاهد الكوميدية والساخرة أحياناً بالإضافة إلى مخلوقات خيالية مثل رسمة وحيد القرن الهائل الذي يبدو وكأنه يحرس المبنى المهجور الذي رسم عليه. ولا يمكن إغفال الرسومات الصغيرة بتفاصيلها الدقيقة الرائعة التي انتشرت في مختلف أنحاء البلدة لا سيما على علب البريد التقليدية باللون الأصفر. وهناك أعمال تشير إلى الحياة على الجزيرة. منها على سبيل المثال، رسم لدرَّاجة نارية متدلية بين شجرتي صبار إلى جانب محل لتصليح الدرَّاجات النارية بشكل يظهر تناقضاً غريباً بين الواقع والفن في بلدة تُعد الدرَّاجات النارية، إلى جانب الدرَّاجات العادية، أهم وسائل النقل فيها.

Djarba-5وارتبطت كل هذه الرسومات بالهندسة المعمارية بالجزيرة، وتفاعلت معها. فتحوَّلت الألوان، خاصة الأزرق والأبيض، التي تميِّز تونس عموماً وجزيرة جربة بشكل خاص، إلى عنصر يربط الفن بمحيطه. وعند اختيار الفنانين استخدام هذه الألوان، كانوا وكأنهم يلقون التحية على سكان القرية المحليين، حيث كانت هذه الألوان كمكمل لطلاء الأبواب وإطارات النوافذ الموجودة على الجزيرة. وقد استخدم العديد منها هذه الألوان مثل عمل ضخم من توقيع الفنان زيفا وهو مزيج من الأحرف العربية واللاتينية باللونين الأزرق والأسود. وهنالك في مقابل هذا العمل رسم بأسلوب فريد لزرافة تعلوها فراشة زرقاء من توقيع الفنان موسكو الفرنسي. كما أخذ الفنان المكسيكي كوريو رسومات فنية نابعة من الثقافة المكسيكية المحلية مثل الأزهار المنمقة والمخلوقات التي تشبه الحرباء وترجمها إلى لغة الألوان المحلية.

وفي أطراف البلدة النائية المهجورة بمعظمها، ساهمت تلك الرسومات في إعادة نبض الحياة إليها. فهناك حيث يقع سجن ومسلخ مهجور ومنازل مهدمة وبقايا قصر قديم، تخلت تلك المنطقة عن سكونها. إذ دبّت فيها الحياة من جديد عندما راح السيَّاح يأتون إليها لمشاهدة أعمال رائعة مثل رسم لثلاثة وجوه بتعابير فريدة للفنان التونسي وسام العبد، كان قد رسمها على حائط يقع بين أرض خراب ومبنى قديم. إضافة إلى أعمال لا تخلو من السوريالية لا سيما رسومات الفنان الألماني دوم بالأبيض والأسود التي تتميز بعناصر الميثولوجيا والخرافة. وعلى جدران منازل مهجورة رسم الفنان البلجيكي الشهير روا، لوحات لوحوش عملاقة وجماجم بشرية أضفت على المكان مسحة أسطورية لا تخلو من الجمالية. إلى جانب رسومات لعقرب ضخم يزحف على الحائط في مقابل حرباء بقرب خابيتين من الزيت تذكِّر بصناعة الزيت التقليدية على جزيرة جربة.

مساهمات المشروع
Djarba-4من أهم مساهمات هذا المشروع أنه ساعد على مزيد من انفتاح سكان هذه الجزيرة، لا سيما الأطفال منهم، على فنانين وأشخاص مختلفين استطاعوا التفاعل والتواصل معهم بطريقة سهلة. فغالباً ما كان الأطفال يتجمعون حول هؤلاء الفنانين لمراقبتهم أثناء عملهم. وبما أنّ معظمهم كان يتحدّث اللغة العربية أو الفرنسية، كان بالإمكان تبادل الأحاديث معهم حول مواضيع مختلفة. ما أثار فضول عديد منهم وساهم في توسيع آفاقهم. وقد أبدى عديد منهم اهتماماً بالفن وبالجغرافيا أيضاً لمعرفة أين تقع البيرو أو بورتوريكو، مثلاً، أو روسيا أو كينيا أو اليابان لأنهم ربطوا هذه البلدان بفنانين أو صور معينة.

Djarba-6وعلى الرغم من حرص مشروع جربة على البعد عن أي نوع من التعبير السياسي، فإن مجرد وجود عرض لفن الشوارع في تونس هو موقف سياسي بحد ذاته. فإلى وقت قريب كانت عقوبة ممارسة فن الغرافيتي أو الفن العام هنا السجن، لأنه كان يرتبط بالتمرد والتنظيم السياسي. وما يمكن قوله إنه بعيداً عن السياسة، أسهمت بعض التعابير والإشارات المتداخلة في رسومات بعض الفنانين في التعبير عن بعض الآراء الفكرية أو الفلسفية، مثل مزج الفنان الفرنسي شين هارت للونين الأبيض والأزرق الصارخ لكتابة تعابير مثل «بناء التفاؤل» و«عِش اللحظة» و«الإصغاء إلى الهدوء» باللغة الفرنسية، ورسم الفنان اليوت توباك من البيرو لكلمات «الحياة مجرد تنهيدة» في تصوير أزرق جميل فوق مدخل باب لمبنى شبه متهالك.

عندما سئل سكان الجزيرة عن رأيهم في هذا المشروع أجاب أحدهم أن معظمهم أبدى قلقاً من اقتحام خصوصيتهم، ومن وجود رسومات بعيدة عن ثقافتهم. وإنما ما حصل في الواقع، أنّ الفنانين قدموا بمجموعات، ولم يأتوا دفعة واحدة وتصرفوا بشكل جيد جداً. وكانت النتيجة أعمالاً فنية رائعة، زيَّنت جدران القرية وزادتها سحراً وجمالاً، مما جذب إليها مزيداً من السيَّاح الذين تركوا الشواطئ وجاؤوا ليستمتعوا بتفاصيل الفنون

أضف تعليق

التعليقات