البلاغة بمعناها الشامل الكامل مَلَكَةٌ يُؤثّرُ بها صاحبُها في عقول الناس وقلوبهم، من طريق الكتابة أو الكلام، وهذه المَلَكة إمّا طبعٌ موهوب، وغالباً ما يكون صاحبُ هذا الطبع ذا ذهنٍ ثابت وعاطفة جياشة قوية وخيالاً خصباً ثريّاً وأُذُناً تحسّ بجمال الجرْس وتلذّ بجمال الإيقاع، وإما علمٌ مُكتَسَبٌ من خلال القراءة وبخاصة في علوم اللغة مع معرفة بأحوال النفس البشرية وطبائعها وإلمام بما يحيط به من البيئة الطبيعية والاجتماعية.
ولا بُدّ للبليغ حتى يستحق هذا الوصف أن يجمع بين الأمرين، إذ لا يغني أحدهما عن الآخر، فلا الموهبة وحدها تكفي، ولا حفظ القواعد البلاغية وحدها يمكن أن يجعل صاحبها بليغاً.
وقد يعسُرُ على أحد المشتغلين بعلوم البلاغة وشُرّاح كُتبها أن يكتب كلمة لإلقائها في محْفَلٍ مّا، بينما نجد الكلمات البليغة والأقوال المؤثّرة تنساب على لسان من لا يعلم نفاسة ما يقوله ولا يقيم له وزْناً.
يُحكى عن الشاعر العباسي أبي تمام أنه توقف عند هذا الشطر من قصيدته البائية التي مدح فيها أبا دلف العجلي: «وأحْسنُ من نَوْرٍ يُفتِّحُه الصَّبا».. وظلّ يُردّده حتى وقف ببابه فجأةً سائلٌ يقول: «من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا». ففرح أبو تمام وأتمّ صدر البيت الذي كان يُردّده من كلام السائل بقوله: «بياضُ العطايا في سَوَادِ المطالبِ».
ويُذْكَرُ أنّ ابن الأثير سمع امرأة قد تُوفّي لها ولدٌ وهو بِكْرُها الذي هو أولُ أولادها، فقالت: كيف لا أحزن لذهابه وهو أوّلُ دِرْهمٍ وقع في الكيس؟ فأخذ المعنى وضمّنهُ كتاباً كتبَهُ إلى أحد إخوانه يُعزّيه في وفاة بِكْره من الأولاد قائلاً: وهو أوّلُ دِرْهمٍ ادّخرْتَهُ في كيس الادّخار، وأعْدَدْتَهُ لحوادث الليل والنهار.
وممّا ورَدَ من أخبار ابن الخشّاب البغدادي وكان إماماً في علم العربية وغيره أنه كان كثيراً ما يقف على حِلَق القُصّاص والمُشعْبذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلَّا هناك، فليمَ على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، فما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة؟ فقال: لو علمتم ما أعلم ما لُمْتُم، ولطالما استفدتُ من هؤلاء الجُهّال فوائد كثيرة، فإنه تجري ضمن هذيانهم معانٍ غريبة لطيفة، ولو أردتُ أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك.
إن المتتبّع لأقوال العامّة في مجالسهم وحواراتهم لا يعْدمُ مما يسمعه منهم عبارات بليغة وحِكَماً كثيرة، لو أراد صياغتها بلسانه لأعجزه ذلك.
من ذلك أنني دُعيتُ مرة إلى وليمة، وكان بين الحاضرين رجلٌ اشتُهِرَ بحديثه الفَكِه، وحين فرغنا من العَشَاء سمع صوت محرّك سيارة أخي، فقال من فَوْره: من الذي سرى يُدغْدغ هذه العجوز؟ ولا يخفى على أحد ما في القول السابق من بلاغة في تشبيه السيارة بالعجوز وصوت محرّكها بالدغدغة.
وقد وصف أحد العامّة طريقاً تكثرُ عليه حوادث السّيْر فقال عنه والبلاغة تجري على لسانه: الذاهب فيه مفقود، والعائد منه مولود.
كما يقولون في وصف المتعلّم الذي لا يعمل بما تعلمه: فلان يقرأ الحروف ويقفز الجروف، والجُرُوف جمعُ جُرف وهو ما أكل السيلُ من أسفل شقّ الوادي والنهر، وهذا القول قد جمع بين الصورة البيانية والفن البديعي.
ومن التشبيه والاستعارة قولهم: (فلان كالحيّة الرقطاء) لمن يسعى لنشر الفتنة، وبعضهم يقول إذا رأى شيئاً رديئاً: (كأنه حظّي) ويُكنّون عن كثرة العدد بقولهم: (فلانٌ مواشيه تسدّ مشرق الشمس). ومن البديع في كلامهم أيضاً: (لا همّ إلا همّ العُرْس ولا وجع إلا وجع الضّرْس) و(شهرٌ هلّ، عدّه زلّ) و(الدرب وإن طال، والرفيق وإن عال) والجناس في قولهم: (هذه الشياه لا حليب فيها ولا جَليب) والجَلُوبة: ما يُجلَبُ للبيع.
ما هذه إلا نماذج قليلة، ذكرتُها ليُسْتَدَلّ بها على أشباهها ونظائرها من سيرورة البلاغة أحياناً على ألسنة العامّة، ومن يجعل كدَّهُ في تتبّعها سيجد ما يُضاهي النماذج البلاغية المُدوّنة جمالاً.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه بإمكان معلّمي مادة البلاغة العربية الاستفادة من مثل هذه النماذج من الكلام الدارج وربطها بما يجدونه من شواهد بلاغية مُدوّنة في الكتب، ليستقرّ في أذهان الطلاب أنهم لا يدرسون لغة بعيدة عنهم، أو تكلُّفاتٍ لا صلة لها بواقعهم.