حياتنا اليوم

المزارع المدعومة من المجتمع

1قبل ثلاثة عقود من الزمن، بدأت في الدول المتقدمة محاولات البحث عن سبل ترفع العمل الزراعي إلى مستوى يؤهله إلى التغلب على التحديات التي يواجهها ومخاطر تعاظمها مستقبلاً. فكانت ∩المزارع المدعومة من المجتمع∪ التي ظهرت أولاً في اليابان وألمانيا وسويسرا، وتفشَّت لاحقاً في بلدان عديدة. ويبدو أن هذا النمط الزراعي الجديد يتضمَّن حلولاً لقضايا تتجاوز إلى حد بعيد قضية كمية الإنتاج المقلقة بحد ذاتها.

تقول منظمة الزراعة والأغذية الدولية (الفاو) إن على القطاع الزراعي في العالم أن يضاعف إنتاجه الغذائي في 2050م، لتلبية احتياجات أعداد السكان المتزايدة. ومع محدودية موارد الأراضي الزراعية، ومع التغييرات المناخيّة الحاصلة وارتفاع حرارة الأرض وازدياد تكاليف الزراعات المختلفة، أصبح الاستثمار الزراعي يواجه صعوبات كبيرة. ولهذه الأسباب تحوّل المزارعون الصغار، الذين يشكِّلون ثلثي فقراء العالم، إلى أشخاص منهكين بالديون يواجهون تحديات استثمارية كبيرة. وهذا ما دفع عديداً منهم إلى ترك أراضيهم الريفية، من أجل البحث عن أعمال أخرى في المدن. وبالتالي، أصبح نصف سكان العالم الآن يعيشون في المدن، وبحلول 2049م من المتوقع أن تزداد هذه النسبة إلى %65، وهي النسبة التي كانت تمثل سكان الأرياف في عام 1961م. وبذلك أصبحت الزراعة أكثر بعداً عن حياة الإنسان المعاصر وصارت هناك صعوبة في إمداد الناس بالغذاء الصحي المزروع في ظروف بيئية سليمة.

وبما أن وجودنا معتمد على الزراعة من أجل البقاء، لجأ عديد من الدول في العالم إلى سياسات مختلفة تساعد على دعم الزراعة، سواء من خلال المنح المادية أو القروض أو المساعدة في تحمل التكاليف الزراعية. هذا على صعيد الدول، ولكن على الصعيدين الفردي والمجتمعي ظهرت هناك حركة اجتماعية حديثة أدركت أنه لا يمكن توكيل مهمة الإنتاج الغذائي إلى المزارعين وحدهم الذين أصبحوا يشكِّلون نسبة متضائلة من عدد السكان. لذلك أبدى عديد من الأشخاص في بلدان العالم المتقدِّم الاستعداد لمشاركة المسؤولية مع المزارعين، ومن هنا نشأت فكرة المزارع المدعومة من المجتمع.

كانت بداية المزارع المدعومة من المجتمع في ألمانيا وسويسرا في ثمانينيات القرن الماضي، متأثرة بالأفكار التي أطلقها الفيلسوف النمساوي، رودولف شتاينر، حول الزراعة الحيوية أو العضوية. وفي اليابان انطلقت فكرة مزارع الـ «سيكيو» أو المزارع المدعومة من المجتمع في عام 1965م من قِبل مجموعة من الأمهات بسبب قلقهن من زيادة الأطعمة الغذائية المستوردة وخسارة الأراضي الزراعية وحرصهن على سلامة الغذاء.

لماذا المزارع المدعومة من المجتمع؟
أهم مساعدة تقدِّمها هذه المزارع للقطاع الزراعي، تكمن في نقطتين أساسيتين: أولاً، هي تعتمد في الأساس على الزراعة الحيوية أو العضوية، وثانياً، هي مزارع تشكِّل منظومة كاملة متكاملة مشتركة ما بين المزارعين والمستهلكين، تؤمن مصالح الجهتين في آن واحد. ومما لا شك فيه أن المزارع المدعومة من المجتمع التي تعتمد في الأساس على الزراعة العضوية، تلائم الشروط التي حددتها وزارة الصحة الأمريكية فيما يتعلق بهذه الزراعة لكونها «تحافظ على الموارد الطبيعية وتدعم المجتمع وتتميز بالقدرة على المنافسة التجارية وتضمن منتجات سليمة من الناحية الغذائية».

ويرتكز مفهوم هذه المزارع، التي عادة ما تكون لإنتاج الخضار والفاكهة والبيض ومنتجات الألبان واللحوم وحتى العسل، وقد تتضمن الأزهار والشتول التي تستخدم كزينة للمنازل، على إيجاد مجموعة من المستهلكين في مجتمع معين على استعداد لتمويل الاستثمار الزراعي في مساحة زراعية معينة، لموسم واحد على الأقل، للحصول على منتجات زراعية عالية الجودة. وبالتالي فهي، كبنية، تعتمد على ثلاث ميِّزات أساسية وهي: التشديد على المجتمع والإنتاج المحلي، الحصص والاشتراكات التي تباع في وقت يسبق الإنتاج، وتسليم البضائع للمشتركين أسبوعياً. وعلى الرغم من أن الزراعة المدعومة من المجتمع قد تطوّرت مع الزمن وأصبحت هناك اختلافات بين مزرعة وأخرى إلا أنّ هذه المميزات الثلاث بقيت ثابتة.

وفي تفاصيل طريقة عملها، يتم في البداية اختيار مجموعة من المزارعين للعمل في قطعة أرض معينة قابلة للاستثمار، أو حتى إن أفراد المجتمع أنفسهم يشاركون المزارعين في أعمالهم الزراعية. وهكذا تُبنى علاقة وثيقة بين المستهلكين والمنتجين وتتغير هذه العلاقة حسب الطريقة التي تتبع في إدارة هذه المزارع. وهناك ثلاثة أشكال رئيسة من الإدارة:
1 – مزارع بإدارة المنتسبين أو المساهمين، حيث يؤسس السكان المحليون المزرعة ويوظِّفون عدداً من المزارعين للاهتمام بها، فيما توكل للمساهمين وحدهم معظم الأمور الإدارية.
2 – مزارع بإدارة المزارعين وحدهم حيث يؤسس المزارعون المزرعة ومن ثم يبحثون عن المساهمين المحتملين.
3 – مزارع بإدارة جمعية تعاونية من المزارعين والمستهلكين حيث تؤسَّس المزرعة من قبل مجموعة من المزارعين والمساهمين معاً وتهتم لجنة من بينهم بشؤون إدارتها.

مزيد من التعاون الاجتماعي وتلبية احتياجات مختلفة
تُنمِّي الزراعة المدعومة من المجتمع في كل أشكالها الإحساس بالتعاون والتراصف المجتمعي، حيث تستبدل بالنظام الزراعي التقليدي شبكة من العلاقات الإنسانية تتشارك المسؤوليات، وتتقاسم الأعباء، وتتحمل المخاطر معاً. وفي كثير من الأحيان تُنظم رحلات جماعية لزيارة المزارع لتذوق المحاصيل والترفيه مما يُقرِّب الأشخاص من الأرض من حيث اطلاعهم على الأساليب الزراعية المتبعة ودورة الطبيعة، ويولّد ذلك لديهم الشعور بمسؤولية أكبر تجاه الأرض وتجاه العملية الزراعية بمجملها.

ويسمح هذا النمط من العمل الزراعي للمستهلكين بالإشراف عن قرب على نوعية المحاصيل التي يستهلكونها، وما إذا كانت عضوية أم لا، وما إذا كانت محسَّنة جينياً أم لا. وإضافة إلى ذلك، فإن الزراعة المدعومة من المجتمع تمثل نوعاً جديداً من الاقتصاد يعبِّر عن ميل المستهلكين للاعتماد على الأسواق المحلية. يقول نيكول نيزلرود، منسق البرامج في مركز «فولتون» للعيش المستدام: «لا شك في أن هناك ميلاً عاماً لدعم الإنتاج المحلي، وينطبق هذا الميل على المزارع المدعومة من المجتمع بشكل كبير، حيث وجد أفراد المجتمع طرقاً تقرّبهم وتوحِّدهم من أجل جعل تلك المزارع أكثر فاعلية». ومن الفوائد الإضافية لهذه المزارع، أنها تضمن للمزارعين مدخولاً مادياً منتظماً، لا يتأثر بالتغييرات المناخية ولا بالمشكلات المختلفة مثل الأمراض والحشرات وغيرها. ويسمح ذلك للمزارعين بالتركيز على المسائل الزراعية والتخطيط لها بطريقة صحيحة. كما أن المزارع المدعومة من المجتمع تساعد المزارعين على تخفيض النفقات، إذ يستطيعون البيع مباشرة إلى المستهلك دون وسيط، بالإضافة إلى أنهم ليسوا بحاجة إلى تكبد نفقات النقل الملحوظة وتخزينها لأوقات طويلة.

سلبياتها هي بعض ما تواجهه الزراعة التقليدية
tonmأما من حيث سلبيات هذه الزراعة فقد تحدث ظروف استثنائية غير متوقعة، مثل ظروف مناخية قاسية، أو انتشار مرض يفتك بالمحاصيل مما يوقع خسائر في المساهمات المالية للمستهلكين. ولكن ذلك يبقى وارداً وبشكل أقسى في الزراعة التقليدية. كما أنه عند الانتساب في المزارع المدعومة من المجتمع يحصل المشترك على سلة أسبوعية من الخضار والفاكهة والبيض واللحوم وغيرها، بشكل منتظم، وقد لا يجد الاستخدامات الملائمة لها في الوقت المناسب، مما يؤدي إلى إهدار البعض منها. هذا بالاضافة إلى أنه في حالات السفر والغياب عن المنزل يجب الالتزام باستلام الكميات المخصصة للشخص المنتسب.

ولكن على الرغم من هذه السلبيات ازدادت أعداد هذه المزارع في بلدان عديدة من العالم. إن كان في أمريكا أو في أوروبا حيث انتقلت أعداد هذه المزارع من بضعة عشرات في ثمانينيات القرن الماضي إلى الآلاف في الوقت الحالي. ولكن انتشارها بشكل واسع لا يزال مرهوناً بأفكار المشاركين فيها ومشاعرهم وإرادتهم. ومما لا شك فيه أنّه ليس هناك أي نقص في المهارات التقنية أو المعرفة المتخصصة المطلوبة لدعم مثل هذه المزارع المجتمعية. إذ إنّ تأسيسها أقل تعقيداً من إنشاء أي مؤسسة تجارية. كما أنّ إنشاء رابطة تعاونية بين المستهلكين والمزارعين من أجل الحصول على الاحتياجات الغذائية على مدار السنة ليس أصعب من إدارة أي شركة توزيع عادية.

ويبقى العائق الوحيد أمام هذا النوع من الزراعة الحديثة، حيث هناك توازن بين المصلحة الذاتية والمصالح المجتمعية وحيث لا يتم استغلال الموارد الطبيعية والبشرية بطريقة سيئة وحيث يغلب الإحساس بالروابط الاجتماعية حتى في القضايا الاقتصادية، في التخلي عن أساليب التفكير والسلوكيات القديمة فيما يتعلق بإنتاج المواد الغذائية وتوزيعها واستهلاكها. والتخلي عن الأساليب القديمة ليس بالأمر السهل، ولكنه ضروري لإيجاد أشكال اجتماعية واقتصادية وزراعية جديدة تلائم متطلبات العصر.

أضف تعليق

التعليقات