يكاد الكمان أن يكون أحجية متعددة الجوانب, لا لتاريخه وأصله فحسب, بل أيضاً لكونه الآلة الموسيقية الوحيدة التي اقتحمت الحياة الثقافية والفنية أينما كان في العالم, حتى أن شكلها الخارجي صار تحدياً تاريخياً للرسامين, فكيف الحال إذن فيما يتعلق بدورها في تاريخ الموسيقى, مهمتها الأساس؟
مكتب القافلة في بيروت وبالاعتماد أساساً على المعلومات العلمية والتاريخية التي أسهم بها البروفيسور سليم سعد, يفتح هنا ملف الكمان, الذي وإن بدا للبعض من معالم الموسيقى الغربية, فهو في الواقع سليل الربابة العربية التي وصلت إلى أوروبا من طريق الأندلس, وعاد حفيدها الكمان إلينا بدءاً من القرن التاسع عشر.
آلة موسيقية أم أحجية حضارية؟
الكمان بشكله المعروف اليوم هو آلة موسيقية عريقة وقديمة, تضرب جذورها عميقاً في تاريخ البشرية, واتخذت سابقاً أشكالاً مختلفة رافقت مختلف العصور بتنوعها واختلافاتها الحضارية.
وإن لم يكن الكمان هو الأحب إلى أذن المستمع وعواطفه بشكل مطلق, فإنه بلا شك من أكثر الآلات الموسيقية قدرة على تحريك عواطف المستمع, وكوامن الشجن فيها إلى جانب سائر ضروب المشاعر الإنسانية.
وقد لا ينافس الكمان في تحريك أعماق العواطف البشرية سوى آلة الناي في الموسيقى العربية. غير أن اعتماد الكمان في تطوير الموسيقى الأوروبية والموسيقى العربية على السواء, أوجد بين المستمع وآلة الكمان علاقة أرحب مساحة وأوسع أفقاً وأعمق تأثيراً من علاقة المستمع بأية آلة موسيقية أخرى.
وقبل الدخول في تاريخ الكمان وصناعته والدور الذي لعبه في عالم الموسيقى والثقافة عموماً, لا بد من التوقف أمام طابعه وتمييزه عن باقي الآلات الموسيقية في صوته.
صوت الكمان الأقرب إلى صوت الإنسان
تعود فرادة صوت الكمان إلى التقنية المميزة التي يصدر بها هذا الصوت, والتي لا تشارك بها هذه الآلة سوى عدد محدود من الآلات الموسيقية من ذوات القربى، أي آلات السحب بالقوس, مثل الكمان الصداح والكمان الجهير والكمان الوسطي الألتو.
يصدر صوت الكمان بفعل احتكاك شعر الخيل على وتر من الجلد يصنع عادة من مصارين الحيوانات أو المعدن. فشعر الخيل ليس أملس تماماً كما يبدو للعين المجردة, بل متعرج السياق, وكأنه مزود أسناناً أو تضاريس مجهرية. وكلما علقت سن من هذه الأسنان بالوتر ثم أطلقته، صدر عن الوتر صوت محدد بفعل ارتجافه بعد إطلاقه. ومسار جملة هذه الأسنان في شَعر الخيل على الوتر هو الذي يُصدر النغم الجميل.
وجمال صوت الكمان يعود أساساً إلى قربه الشديد من الصوت البشري على مستويين اثنين: مستوى الخامة, ومستوى الامتداد الزمني.
فالخامة الصوتية لدى الإنسان تصدر عن وترين في الحنجرة, وكذلك الخامة الصوتية للكمان تصدر بدورها عن اهتزاز الوتر. ووتر الحنجرة البشرية هو من الجلد كما هو حال وتر الكمان. وهذا يجعل صوت الكمان من جهة الخامة شبيهاً بصوت الإنسان. أما من ناحية الامتداد الزمني, فالصوتان يتشابهان أيضاً, وهذا يزيد قدرة هذه الآلة, ويجعلها تتفوق على الآلات الموسيقية الأخرى، من هذه الزاوية.
طبعاً, هناك آلات موسيقية يشبه صوتها الصوت البشري من ناحية الامتداد الصوتي, مثل الناي وكل آلات النفخ. ولكن هذا التشابه ينحصر بجوانب جمالية ولا يشمل الخامة التي ينفرد بها الكمان.
نشوء الكمان وتاريخه
تختلف المراجع في تحديد نشأة الكمان من حيث المكان والزمان, وأيضاً من حيث التطور السيّار المتنقل بين قارة وأخرى. فهناك من يرد نشوءه إلى الجزيرة العربية, أو إلى أحد بلدان المشرق قديماً أو حتى إلى الهند. ولكن المؤكد أن أول آلة موسيقية قامت على سحب قوس من شَعر الخيل (أو ماشابه) على وتر, كانت آلة الربابة العربية.
رافقت الربابة الرعاة في البراري والوجهاء في احتفالاتهم والشعراء خلال إلقاء قصائدهم. وإذا ضاعت في غياهب التاريخ الوقائع التي تؤرخ أول ظهور لهذه الآلة, فقد وصلتنا أخبار كثيرة عن حضورها في قلب الفن الموسيقي والمسموع بشكل عام. فكانت رفيقة الغناء والشعر, وكل أشكال الحفلات الاجتماعية مثل الأعياد الشعبية والأعراس, وحتى النواح على المفقودين أو المتوفين.
وهناك ما يشبه الإجماع عند المؤرخين على أن الكمان آلة شرقية المنشأ. ظهرت أولاً في سورية وبلاد ما بين النهرين, وانتشرت لاحقاً عبر مدينة الحيرة إلى الحجاز, ووصلت من العراق إلى بلاد فارس مع فتوحات ملكة أشور سميراميس التي احتلت القوقاز وصولاً إلى تركيا وإيران في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. ولم تصل إلى أوروبا إلا عبر الأندلس خلال القرن الثامن الميلادي, بعد الفتوحات العربية.
وتعود أولى الوثائق حول وجود الكمان إلى غرناطة في الأندلس. ومن هناك, أدهشت هذه الآلة الأوروبيين بصوتها الشجي. فاتسعت دائرة حضورها وانتشارها. إذ سارع الأوروبيون إلى تلقف هذه الآلة التي وصلت إليهم مع الفتوحات العربية, وراحوا يعملون على تطويرها خطوة خطوة.
كانت في بادئ الأمر ذات وتر واحد, ثم اثنين, ثم ثلاثة, وأخيراً أربعة. وبعدما كان العازف يسند هذه الآلة إلى قدمه ثم إلى ركبته, انتقل مركز إسنادها إلى الصدر فوق الكتف اليسرى. وهكذا أصبحت الربابة كماناً.
الفيولا ابنة الربابة وأم الكمان
أول آلة اشتقت من الربابة الشرقية هي آلة الكمان الصدّاح (viola), وقد عرفت أوروبا أربعة أنواع منها هي: فيولا الحب التي راجت خلال القرون الوسطى في الأوساط الشعبية, و الفيولا الاحتفالية الكبيرة الحجم التي صنعت أول مرة عام 1724م بناءً على طلب الموسيقار الشهير يوهان سيباستيان باخ, و فيولا الركبة التي كان العازف يسندها إلى ركبته اليسرى. و فيولا غامبا التي كانت تحمل حتى سبعة أوتار ومن أشهر الذين عزفوا عليها الموسيقار يوزف هايدن.
ومنذ عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر, شهدت كل الفنون في أوروبا تطوراً متسارعاً. وكان الذوّاقة يزدادون تطلباً في شتى الحقول. فنشأ الغناء الأوبرالي المحترف, وتحوَّل الفن عموماً بما فيه الموسيقى إلى اهتمام رئيسي عند الملوك والحكام والأمراء وأبناء القصور والنبلاء. فكان على الفنانين أن يتميَّزوا بما يلائم الأذواق التي تزداد تنوعاً وتطوراً, ولكي يتمكنوا أيضاً من إرضاء السادة ويدخلوا دائرة الفنانين المقبولين عند الملوك والساسة وعلية القوم.
لقيـــت الربــــــابــــة المحــــدثة (الفيـــولا) رواجاً كبيراً آنذاك. ونتيجة لإعجاب الكثيرين بخامتها الصوتية القريبة من خامة الصوت البشري, كثر المؤلفون الموسيقيون الذين كتبوا معزوفات خاصة لهذه الآلة. ولكي تستجيب هذه الآلة لتعدد ميول المؤلفين وتلون معزوفاتهم, راحت تخضع للتغيير المتتالي. فعُدِّلت مقاساتها الخارجية باتجاه التصغير, وأضيفت إليها أوتار دقيقة وحادة الصوت. ولكي نختصر قصة التطور التي انتهت بالكمان, نكتفي بالقول إن دوزان الفيولا التي تعرفها اليوم هو من الغليظ إلى الحاد: دو-صول-ري-لا. ولما ظهرت الحاجة إلى إضافة وتر مي من الأعلى وكان يتعذر أن تحمل هذه الآلة الأوتار الخمسة المذكورة, أزيل الوتر الأغلظ فيها (دو), فأصبحت بأوتار أربعة هي من الغليظ إلى الحاد: صول-ري-لا-مي . وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الفيولا, هو الذي اتخذ اسم الكمان (violin).
صناعة الكمان.. مواطنها وأعلامها
تختلف صناعة الكمان عن صناعة أي آلة أخرى بكونها تتطلَّب إضافة إلى الدراية العلمية والمهارة اليدوية, مزاجاً بالغ الحساسية والدقة. حتى أن بعض صنَّاع الكمان ارتقوا في نظر المستمعين والذوَّاقة إلى مصاف عمالقة الفنانين والمبدعين.
يتكون الكمان من الرأس الذي يحمل المفاتيح, ثم الرقبة التي ترتكز على كف اليد اليسرى, ثم الزند أو الملمس حيث تتنقل أصابع اليد اليسرى, ثم جسم الكمان الذي يتكون بدوره من الوجه والظهر والجوانب.
وتصنع آلات الكمان من خشب القيقب أو الإسفندان, ما عدا وجهه الذي يصنع من خشب الشوح. ويعود هذا التنويع إلى مميِّزات كل خشب على حدة. فالإسفندان أصلب بكثير من الشوح. أما الشوح فيجعل الصوت رخيماً وأقوى عند خروجه من باطن الآلة.
وتصنع الساق من خشب الأبنوس الأسود, وهو النوع الأصلب, إذ يتحمل ضغط الأصابع سنين طويلة قبل أن تؤثر فيه وتعطله.
يُصنع الكمان على مراحل, لا دفعة واحدة. إذ تنحت أجزاؤه واحداً واحداً. وقد يبدأ العمل بنحت الرأس والرقبة من قطعة خشب واحدة, يليها الظهر أو الغطاء السفلي للآلة من قطعة واحدة من خشب الإسفندان, أو من نصفين يُجمعان بشكل فني يظهر توازناً في المنظر حول خط النصف الطولي الفاصل بينهما. ثم تصنع الجوانب من ست قطع قشرية مستقلة: ثلاث قطع للجهة اليمنى, وثلاث لليسرى.
وقبل أن تجمع هذه الأجزاء, يضبط الصانع صوت خشبة الظهر (دوزان) على نوتة محدَّدة. هذا الضبط هو أحد أسرار الصوت الجميل المميَّز لكل كمان على حدة.
ولأن إيطاليا كانت كما نعرف رائدة النهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر, فقد كانت السباقة إلى احتضان أمهر الحرفيين في صناعة الكمان وأشهرهم.
ازدهرت صناعة الكمان أولاً في بداية القرن السادس في مدينتي كريمونا وبريشا حسبما يؤكده المؤرخون, وذلك لوفرة أشجار الشوح والإسفندان في محيطهما. ثم انتشرت هذه الصناعة حتى عمت سبعاً من المدن الإيطالية الكبرى وهي: روما وفلورنسا وميلانو ونابولي والبندقية إضافة إلى كريمونا وبريشا.
ومنذ مطلع القرن السابع عشر راح تلاميذ الحرفيين الإيطاليين من فرنسيين ونمسويين يؤسسون في بلدانهم محترفات لإنتاج كمانات نافست في جودتها إنتاج أساتذتهم.
أعلام صناعة الكمان..
وأسطورة ستراديفاري
ارتقى المهرة في صناعة الكمان إلى مستوى عباقرة الفن, وحفظ التاريخ أسماءهم في سجل الخالدين. ومن أبرز هؤلاء في إيطاليا أندريه أماتي (1535-1611), وابناه أنطونيو وهيرونيمو. وتميَّز هذا الأخير بآلته الممتازة الباهظة الثمن. ومن تلاميذ هيرونيمو آماتي خرج أنطونيو ستراديفاري الذي أصبح أهم صانع للكمان في العالم, وارتقت شهرته إلى مستوى الأسطورة. إذ يبلغ اليوم سعر آلة كمان من صنع ستراديفاري ما بين مليون ومليوني دولار أمريكي. مع العلم أن أي آلة تعود إلى أحد صانعي الكمان في المدرسة الإيطالية نفسها لا يقل سعرها عن خمسين ألف دولار.
وفي البحث عن أسرار جودة الصوت في آلات الكمان التي صنعها ستراديفاري, يذهب الباحثون اليوم إلى دراسة حالة الطقس التي سادت منطقة بريشا في زمن هذا الحرفي, لمعرفة ما إذا كان لذلك من أثر في نوع الأشجار وخشبها الذي استعمله ستراديفاري, في صناعة هذه التحف التي لا تزال تؤدي وظيفتها على أفضل وجه في الحفلات الموسيقية, رغم احتلالها مكانها الخاص في المتاحف.
ومن الذين برزوا في صناعة الكمان في إيطاليا أيضاً نذكر على سبيل المثال لا الحصر: أندريه غوارنيري, فرانشيسكو رودجاري, وبارتولوميو ديل جيزو غوارنيري الذي نافست آلاته آلات ستراديفاري, ودومينيكو مونتانيانو وأليكسندر غاليانو وغيرهم كثيرون.
وفي فرنسا برز نيكولو ليوبو (1758-1824) الذي لقب بستراديفاري فرنسا, وأوغوست برنارديل في القرن التاسع عشر وأبناؤه شانو, فرنسيس, جورج, ونيكولا أنطوان.
وفي منطقة التيرول النمسوية برز جاكوب شتاينر (1621-1683), وماتاس ألبان الذي قلّد في آلاته شتاينر.
قائد الأوركسترا ليوبولد ستوكوفسكي يتفحَّص بعض آلات الكمان النادرة.
في هذه الصورة يبدو قائد أوركسترا فيلادلفيا الشهير وهو ينظر مدققاً إلى آلات كمان إيطالية نادرة في مجموعة كان يملكها رودمان واناميكر. وهو يحمل بين يديه سوان ، آخر كمان صنعه ستراديفاري سنة 1737م، قبيل وفاته. دفع واناميكر ثمناً لهذا الكمان 55 ألف دولار. وتقدَّر قيمة المجموعة الظاهرة في الصورة بربع مليون دولار. ومع سوان هنا ثلاث آلات صنعها ستراديفاري، وواحدة صنعها مونتاجوانا، وأخرى جوفتيلر، وفيولا صنعها جواداجيني. وعلى جانبي آلات الكمان آلتا كمان جهير (تشيلو) صنعهما روجير وتيوسلر. واختبر عازفون في فرقة ستوكوفسكي صوت هذه الآلات أمام قائدهم
مدارس العزف على الكمان
كان الإيطالي جيمينياني أول من وضع كتاباً لتعليم العزف على الكمان. وطبع هذا الكتاب في لندن خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر. وأضاف إيطالي آخر يدعى لوكاتيللي تجديداً جذرياً وواسعاً في تقنية العزف مستحدثاً طريقة للعزف باليد اليسرى من خلال تنقل أصابعها على كل المقامات, كما حدّث معظم حركات اليد اليمنى.
أما أمهر عازف على الكمان عرفه التاريخ فهو نيكولو باجانيني, الذي وصلت أخباره إلى مستويات الخرافات غير القابلة للتصديق. ومنها ما يتعلق بقدرته الفريدة في العزف الفوري والمرتجل. إذ يُروى أن أحدهم تآمر عليه قبل بدء حفلة عزف منفرد, فقطع أوتار كمانه بالسكين خلسة ما عدا واحداً. ولكن باجانيني تمكن من عزف كامل القطعة الموسيقية المعلنة في برنامج الحفلة على الوتر الوحيد الباقي على الآلة, وهو الأغلظ (أي وتر صول). مما دفع المتآمر إلى الهروب من القاعة, والامتناع عن العزف في أي مكان وجد فيه باجانيني. وإضافة إلى ما كان يجري في إيطاليا, أسس ليوبولد موزار والد المؤلف الموسيقي الشهير فولفجانج موزار أول مدرسة ألمانية للكمان. ووطدت هذه المدرسة تقنيات أساسية ما زالت معتمدة في عزف الكمان حتى يومنا هذا. ومن أهم ممثلي هذه المدرسة جوزف يواكيم الهنغاري الأصل الذي أصبح مديراً للمدرسة الموسيقية العليا في برلين عام 1868م, ووضع مناهج تعليم العزف على الكمان.
أما المدرسة الفرنسية – البلجيكية فقد قامت على عدد من جهابذة العازفين وأشهرهم روديه, بايو, وكرويتسر. وقد خرَّجت هذه المدرسة عدداً كبيراً من الأساتذة المرموقين.
وفي نهاية القرن التاسع عشر, تأسست المدرسة الروسية التي جاءت على المستوى المرموق نفسه الذي ميّز المدارس الآنفة الذكر. وشكلت هذه المدرسة الجديدة ظاهرة عالمية لقدرتها التي لا تنافسها فيها أية مدرسة أخرى في العالم حتى اليوم. ومن أهم أعلامها ومؤسسيها ليوبولد آوير وهنريك فينيافسكي.
خصوصيات
حضن الكمان
يتميز الكمان عن غيره من الآلات الموسيقية بصعوبة احتضانه في يد العازف. واختصاراً للموضوع نشير إلى خمسٍ من هذه المصاعب:
1 وضع الكمان على الكتف اليسرى,
والعزف عليه باليد اليمنى.
2 العزف برفع اليدين عن وضعهما الحركي المألوف.
3 صغر الزند الذي تلعب عليه اليد اليسرى.
4 وضع اليد اليسرى المعاكس لحركتها الطبيعية.
5 إصدار الصوت بجر القوس على الوتر.
وهذه المصاعب غير موجودة في التعاطي مع أي آلة موسيقية أخرى. لذلك فإن تعلم العزف على الكمان يستغرق زمناً أطول بكثير من تعلم العزف على أية آلة أخرى.
والواقع أن احتضان الكمان بهذا الشكل الخاص يتجاوز في آثاره مستلزمات العزف. إذ يضع هذه الآلة في مكان قريب جداً من أذن العازف وقلبه. فيبدو العازف وكمانه واحداً. وكأن الكمان مجرد مترجم موسيقي لما في قلب العازف. وقد أعطى هذا الأمر الآلة الموسيقية أبعاداً إنسانية نقلتها من عالم الموسيقى إلى عالم الثقافة الإنسانية, فدخل الكمان في نسيج فنون عديدة غير الموسيقى, مثل الرسم والشعر والسينما…
عودته إلى الوطن الأم
الكمان في الموسيقى العربية
بعدما سقطت بغداد تحت وطأة الهمجية المغولية في العام 1258م، توزعت فوائد الإنتاج العلمي والفني العربي في أوروبا، فمهَّدت للنهضة الثقافية والحضارية الأوروبية، التي بلغت ذروتها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. وكان من ثمارها العديدة تطوير الربابة العربية إلى الكمان بشكله النهائي.
وأدى نمو الدولة العثمانية وتوسعها في مناطق أوروبية عديدة إلى عودة التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من أن البلاد العربية تأخرت عن أسطنبول في جني ثمار هذا التفاعل، فإن الأمر قد حصل بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
التحقت آلة الكمان سريعاً، التحاقاً طبيعياً، بمسيرة النهضة الأولى للموسيقى العربية المعاصرة، في القرن التاسع عشر، فأصبحت عضواً أساسياً في التخت الموسيقي العربي (عماد النهضة الأولى)، إلى جانب العود والقانون والناي والرق.
ويذكر التاريخ فضل الريادة في هذا المجال للعازف العربي السوري الأصل أنطوان الشوا، والد العازفين الكبيرين سامي الشوا وفاضل الشوا. وفي عصر عبده الحمولي ومحمد عثمان وسلامة حجازي برز عازف نابه على آلة الكمان، هو إبراهيم سهلون.
أما في القرن العشرين، وبعد ثورة التجديد التي أطلقها سيد درويش، وتابعها من بعده جيل العباقرة الأول (محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي)، كان طبيعياً أن تكون آلة الكمان العصب الأساسي لتوسيع الأوركسترا العربية، التي راحت تتوسع مع اتساع آفاق تطور الفكر الموسيقي لدى الموسيقيين المجددين. لذلك رأينا تزايد عدد عازفي الكمان في الأوركسترا التي تنفذ أعمال كبار الموسيقيين العرب المجددين في النصف الأول من القرن العشرين، وبعد ذلك.
كذلك كان بديهياً أن يبرز في هذا السياق الحضاري عباقرة العزف المنفرد على آلة الكمان، الذين تميز منهم من أبناء الجيل الأول جميل عويس ويعقوب طاطيوس وعطية شرارة وأنور منسي وأحمد الحفناوي، ثم عبود عبدالعال ومحمود الجرشة وسعد حسن وعبده داغر وجهاد عقل، من أبناء الأجيال التالية.
وقد أصبح المستمع العربي ينتظر مع كل عمل موسيقي جديد وكبير، الأدوار التي يمنحها كبار المبدعين الموسيقيين العرب لعباقرة العزف المنفرد على آلة الكمان، التي من أشهرها من مؤلفات عبدالوهاب في معزوفات مثل المماليك و ليالي الجزائر و من الشرق و المعادي ، ومقدمات أغنيات الفن والحبيب المجهول والنهر الخالد. كذلك كانت ألحان رياض السنباطي المسرحية لأم كلثوم حافلة بالجمل الموسيقية المكتوبة خصيصاً لعبقري الكمان المنفرد أحمد الحفناوي، مثل ذكريات وشمس الأصيل وجددت حبك وعودت عيني وسواها.
الآلة الموسيقية التي تحدَّت الرسامين مرتين
لم يواجه الرسامون تحدياً في نقل صورة شيء جامد مثل التحدي الذي مثله الكمان, حتى أن كبار أساتذة فن الرسم وحدهم تجرأوا على التنطح لهذا التحدي, أو وحدهم استطاعوا أن ينجحوا في ذلك, فيما بقيت آلاف اللوحات الزيتية التي تمثل كماناً أو يظهر فيها الكمان في الظل. ولفهم صعوبة هذا التحدي, يجب أن نعود إلى شكل الكمان نفسه.
يتألف الكمان بصرياً عند حوافه من نوعين من الأقواس, بعضها يتجه صوب الداخل, والآخر مفتوح على الخارج. أما وسطه المقبب قليلاً فتعلوه خطوط مستقيمة تنتهي بزخارف مستديرة أو بيضوية أو حلزونية الشكل عند أحد أطرافها, وتتقاطع عمودياً مع خطوط مستقيمة أخرى عند نهاية الأوتار في الطرف الآخر. وهذا الغنى في تنوع الخطوط كان يكفي وحده لأن يكون جذاباً للرسم. فكيف الحال إذا أضفنا إلى ذلك شخصية الكمان؟
تتميز آلات الكمان الجديدة المصنوعة يدوياً بنضوج شخصيتها منذ أكثر من أربعة قرون. ولكن هذه الكمانات ليست متشابهة إلا للوهلة الأولى. قد يكون الاختلاف مقتصراً في بعض الأحيان على ملليمترات قليلة في مقاييس هذا الجزء أو تلك الناحية من الكمان. ولكن هذا الفارق الذي لا يلحظ إلا بصعوبة بالعين المجردة, ينشئ اختلافاً في الصوت يعرف أهميته العازفون والذوّاقة من المستمعين. ولهذا هناك كمان يباع بالألوف وحتى ملايين الدولارات, وآخر لا يتجاوز العشرات أو بضع مئات الدولارات فقط. انطلاقاً من ذلك, يمكن اختصار ظهور الكمان في تاريخ اللوحة بثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: مجرد آلة جميلة
ظهر الكمان في اللوحة خلال القرن السادس عشر, أي القرن نفسه الذي شهد نضوج شخصية الآلة الموسيقية واتخاذها الشكل النهائي الذي نعرفه اليوم. ولكن هذا الظهور لم يتجاوز في الدوافع إليه غير الواقعية التي تفرض وجود هذه الآلة في المشهد الموسيقي, وأيضاً جاذبية خطوطها الخاصة, والمهارة التي يتطلبها رسمها بالأبعاد الثلاثة. ومن أشهر اللوحات التي يمكن تذكرها في هذا المجال عازف العود للإيطالي كارافاجيو حيث نرى كماناً بجانب العازف. وقد لقيت هذه اللوحة نجاحاً باهراً في عصرها. حتى أن الرسام نفسه أنجز ثلاث نسخ منها (موجودة اليوم في متحف المتروبوليتان في نيويورك, ومتحف اللوفر في فرنسا ومجموعة خاصة).
وحتى القرن الثامن عشر, استمر رسم الكمان من المنطلق نفسه. ففي لوحة الفنان شارل أندريه فان لو سلطان الأتراك في حفلة موسيقية نرى عدداً كبيراً من عازفي الكمان إلى جانب السلطان. وفي القرن التاسع عشر, لعب الكمان دوراً رمزياً وثقافياً عاماً دلالة عن الرقي الفني والثقافي كما في صورة فيرونيكا فيرونيز للفنان دانته غبريال روساتي.
ولكن إضافة إلى هذا الاتجاه الفني, ظهر اتجاه آخر اتخذ من الكمان بطلاً وحيداً في اللوحة.
المرحلة الثانية: الواقعية الدقيقة جداً
عندما انتشر الوعي في صفوف المثقفين والذواقة عموماً لأهمية شخصية كل كمان على حدة ولاختلافه عن غيره, ظهر اتجاه في الرسم يسعى إلى رسم هذه الشخصية بدقة كبيرة, بحيث إن مقياس نجاح اللوحة يكمن في معرفة صانع الكمان المرسوم الحقيقي, لا اسم الرسام فقط.
بدأت هذه المرحلة في القرن السابع عشر عندما رسم إيفرت كوليه طبيعة صامتة محورها الكمان. وبلغت ذروتها في القرن التاسع عشر عندما رسم الأمريكي وليم هارنيت الكمان القديم في عام 1866م, وعدَّت لوحته آنذاك تحفة الخداع البصري, حتى أن زوَّار المعرض حاولوا لمس الكمان المرسوم لاعتقادهم أنه حقيقي قد عُلِّق على اللوحة. وحتى القرن العشرين, عندما رسم ماكغراث الأمريكي كماناً من صنع ستراديفاريوس, فإن أفضل مديح تلقاه, كان من شخص قال إنه شاهد الكمان المرسوم مطروحاً للبيع بالمزاد العلني بولاية فلوريدا, وأنه استطاع تمييزه بفضل اللوحة المطابقة تماماً للآلة الحقيقية.
المرحلة الثالثة: تفكيك شكل الكمان
في مطلع القرن العشرين رسم الفنان بول سيزان مجموعة مناظر طبيعية تميزت بأسلوب خاص يعتمد تفكيك وحدة المشهد الطبيعي إلى مجموعة أحجام صغيرة. وهذا ما طوره بسرعة صديقه الرسام جورج براك, الذي رأى أن كل شيء يتألف من مجموعة أحجام, ولا يقتصر دور الفنان على نقل صورتها كما هي وحيثما هي, بل ان مهمته دراستها وإعادة تركيبها في لوحة تتوازن فيها الأحجام والخطوط والمساحة اللونية. وهكذا ظهر فن التكعيب. ولما كان شكل الكمان يتمتع بمهابة فرضت احترامها على تاريخ الرسم كما رأينا سابقاً, كان طبيعياً أن تتجه حراب التكعيبيين صوبه.
في العام 1909م, رسم براك أول كمان بأسلوبه التكعيبي (متحف جاجنهايم, نيويورك). وكل ما نراه في هذه اللوحة هو مجموعة خطوط ومساحات, يحتاج الناظر إلى جهد لتمييز مصدرها (الكمان), ولم يكتف براك بلوحته هذه, بل راح خلال السنوات التالية يرسم الكمان بالأسلوب نفسه مرة تلو الأخرى. وفوراً انضم إليه بيكاسو في رسم الكمان مرات ومرات, في لوحات تستمد قيمتها الفنية من توازن الخطوط والألوان والأحجام, من دون اكتراث لشخصية الأصل, الذي يمكنه أن يكون كماناً رخيصاً غير صالح للعزف عليه.
وعلى الرغم من أن معظم رسامي النصف الأول من القرن العشرين رسموا آلات الكمان مثل ماتيس غرفة وكمان أو حتى غرفة وصندوق الكمان وراوول دوفي تكريماً لموزار , تبقى لوحات براك وبيكاسو المستوحاة من آلة الكمان, الأكثر والأشهر في المدرسة التكعيبية, حتى أن ما من متحف للفن الحديث يجرؤ على الزعم أن مجموعته متكاملة، إلا إذا تضمنت هذه المجموعة صورة كمان بريشة واحد من هذين الفنانين.
الكمان في السينما
الكمان آلة شديدة الخصوصية، شديدة الغموض والسرية، وهي إلى هذا شديدة الالتصاق بعازفها، إذ تلتحم به التحاماً عاطفياً تاماً. من هنا تكاد هذه الآلة أن تكون الأكثر رومنطيقية وتعبيراً عن وحدة العاشق وعن الأجواء الليلية. وكثيراً ما عبَّرت السينما عن هذا وإن في أشكال مواربة أحياناً، وإن كان ذلك في أفلام قليلة العدد مقارنة بحضور آلة البيانو الطاغي في أفلام الفن السابع.
ولعلنا لا نبتعد عن موضوعنا هنا إن أشرنا إلى أن آلة الكمان ارتبطت سينمائياً إلى حد بعيد بكل الفئات المشردة أو الهامشية، كالغجر على سبيل المثال. وفي هذا الإطار، نذكر حضور الكمان في بعض أجمل أفلام اليوغوسلافي أمير كوستوريشا، ولا سيما في رائعته زمن الغجر و قط أبيض قط أسود ، فهنا يلعب الكمان دوراً أساسياً إذ يكاد يهندس العلاقة العاطفية بين العازف والبيئة، ثم يشكِّل الخلفية العاطفية للمشاهد الحميمية أكثر.
ولكن على الرغم من حضور الغجر العاطفي في عالم كوستوريشا، وعلى الرغم من حسية هذا الحضور ودراميته في فلم آخر عن الغجر هو قابلت غجراً سعداء لإسكندر بونوفتش، فإن الفلم الأشهر في عالم الكمان يبقى عازف الكمان فوق السطح ، على الأقل في نسخته الثانية التي أنتجت عام 1971م، بعدما كان أنتج أول مرة عام 1929م.
قصة هذا الفلم مقتبسة عن رواية روسية تقود القارئ إلى نوع من الترجمة اللغوية للوحات الفنان مارك شاغال، الرسَّام الروسي الأصل. تجري أحداث هذا الفلم الأمريكي في قرية ريفية روسية في زمن سابق الثورة البولشفية، وهي تدور حول الكمان بوصفه آلة قومية لذلك الشعب الريفي البسيط الذي كان يعيش حياته وتقاليده غير راغب في أذية الآخرين، قبل أن تنقض عليه السياسة، من خلال شرطة القيصر السرية، فيسهم لاحقاً في الانقضاض على السياسة وعلى الشعوب الأخرى. لكن السياسة، ليست نقطة القوة في هذا الفلم الذي حققه نورمان جويسون. نقطة القوة هي الكمان وعازفها وموسيقاها، ولاسيما أغنيته لو كنت رجلاً غنياً التي طبقت الآفاق منفصلة عن الفلم نفسه، وهي تقدِّم عزف كمان متوتراً أحبه الناس جميعاً سواء وافقوا الفلم على موضوعه أو لم يوافقوه.
فلم آخر يمكن التوقف عنده في هذا المجال-مجال علاقة السينما بالكمان- هو فلم كل صباحات العالم للفرنسي آلان كورنو (1992م). هنا أيضاً يلعب الكمان دوراً رئيساً، ولكن في العودة إلى زمن سابق، إلى القرن السابع عشر في فرساي – فرنسا. أي إلى أجواء البلاط الملكي هناك. ففي هذه الأجواء تدور حكاية حب وذكريات، حول تأليف قطع موسيقية للكمان الذي يلعب هنا دوراً مزدوجاً: دور باعث ذكريات الموسيقي ماري ماريه (جيرار ديبارديو) عن زوجته الراحلة؛ ودور رابط العلاقة الجديدة التي تجمع هذا الموسيقي المكتهل إلى صبية حسناء مرشحة لأن تحل مكان الراحلة… ولكن عبر تعقيد، يستعيد فيه ماريه شبابه ليقرر في نهاية الأمر أنها منذ الآن هي غرامه. هذا الدور العاطفي للكمان يبدو خادعاً في فلم أخرجه فرنسي آخر هو فرانسوا جيران بعنوان الكمان الأحمر (1998م)… فهنا لدينا صورة أخرى -بل مفاجئة- للكمان من خلال آلة من هذا الصنف تعيش طول الفلم نحو ثلاثة قرون متنقلة من يد إلى يد، من دون أن يفوتها أن تكون لها حياتها الخاصة في لعبة الخلود هذه. تبدأ هذة الحكاية مع صانع آلات كمان هو نيكولو بدسوتي، يكون منهمكاً في إنجاز آلة رائعة من هذا النوع سنة 1692م، حين تموت زوجته الحبيبة ووليدها خلال الوضع.. فلا يكون منه، لشدة حزنه عليها إلاّ أن يضيف نقاطاً من دم الراحلين إلى الطلاء اللّماع الذي يشكّل آخر طبقة يطلي بها الكمان. وهكذا، بعدما كان أحدهم قد توقع حياة طويلة للزوجة الراحلة، يصبح تحقيق هذا التوقع مرهوناً بالحياة الطويلة التي يعيشها دمها من خلال تنقل آلة الكمان من بلد إلى بلد ومن قارة إلى أخرى.. ولكنه محاط دوماً بمخاطر وتهديدات تبدو غامضة وغير قابلة للتصديق أول الأمر، حتى نصل -مع الكمان- إلى مونريال في كندا في تسعينيات القرن العشرين، لنستعيد حكاية هذا الكمان الأحمر، من خلال المدعو تشارلز وايتنر الذي نلتقيه وهو يعدّ لبيع آلات موسيقية في مزاد علني… إنه في حاجة إلى ذلك البيع. ولكن هل تراه سيقبل حقاً أن يتخلى مقابل ملايين الدولارات عن تلك الآلة الأسطورية؟ وهل ستمضي الأمور على خير؟ لن نجيب طبعاً عن هذين السؤالين، لأن الجواب قد يفقد هذا الفلم سحره الخفي.. وربما الظاهر أيضاً، لكننا نقول فقط إن هذا الفلم يتعامل مع أنعم آلة موسيقية في التاريخ، تعامل ألفرد هتشكوك مع أنعم الحيوانات: الطيور الصغيرة في فلمه الطيور .
ما أشرنا إليه هنا ما هو إلا سمات متنوعة لاستخدام الكمان في السينما، من دون أن يعني الحديث أن حضور هذه الآلة اقتصر على هذه الأفلام، إذ ثمة بالتأكيد مئات الأفلام التي تناولت موضوعاتها الكمان، رومانطيقياً، تاريخياً، تقنياً وأيضاً في مجالات الرعب والترقب. وذلك منطقي بالتأكيد طالما أن آلة الكمان، عكس بقية الآلات التي تتخذ بعدها البصري الذي يجعل حضورها مرغوباً في الأفلام وذا رمز في موضوعاتها، تتخذ قوتها وقوة حضورها البصري، من خلال البعد الخيالي العاطفي، الذي توجده بصوتها الحنون، ما يدفع دائماً إلى ازدواجية لدى متفرج الفلم: إذ يعيش بكل جوارحه ما يراه أمامه على الشاشة، من ناحية، ويعيش في خياله تلك الصور المتنوعة التي توحي بها آلة كانت قيمتها دوماً تتجاوز بعدها الحسي وصوتها الرائع.
عند الغجر وفي الشوارع الشعبية.. مسألة وزن
أسهمت خفة وزن الكمان في خروجه من دائرة النخبة والذوّاقة عزفاً واستمتاعاً في القصور والمسارح إلى العامة في الهواء الطلق والشوارع.
فمنذ أن اتخذ الكمان شكله في القرن السادس عشر, تلقفه الغجر وفضلوه على غيره من الآلات الموسيقية, ولاغرابة في ذلك. فهؤلاء الرحَّل الذين يمضون حياتهم وهم يتنقلون من مكان إلى آخر من شرق أوروبا وحتى غربها, وجدوا في خفة وزن الكمان مايسهل عليهم حمله, للعزف عليه سواء في سهراتهم الاجتماعية, أو للعامة حيثما يحلّون لجمع النقود منهم. واستعاض هؤلاء عن الدراسة الأكاديمية بالتدرب الذاتي, وبرع الكثيرون منهم في تأدية مقطوعات كلاسيكية, على الرغم من أن السمة الأساسية لمعزوفات هؤلاء هي الموسيقى الغجرية الخاصة بهم، التي تشبه إلى حد ما الموسيقى الشعبية الإسبانية.
من جهة أخرى, لا بد لكل من زار إحدى العواصم الأوروبية, لا سيما خلال المواسم السياحية صيفاً, أن يكون قد لاحظ أحد عازفي الكمان, وقد وقف على أحد الأرصفة يؤدي مقطوعة معينة, وأمامه على الأرض صندوق الكمان المفتوح وقد حوى بعض القطع النقدية التي تبرع بها المارة.
قد يكون العازف طالباً في معهد موسيقي, وقد يكون هاوياً, أو عازفاً فشل في الانتقال إلى مستوى الاحتراف.. إذ ان المعادلة تقتصر على قليل من الألحان مقابل قليل من النقود. والكمان, بسبب خفة وزنه صالح لتطبيق هذه المعادلة.. فرجال الشرطة كثيراً ما يطبقون على العازف طالبين إليه أن يرحل من موقعه مع كمانه.
الآلة الوترية التي ألهبت مخيلات الشعراء تبكي على العرب الخارجين من الأندلس
ثمة شيء شاعري النبرة والمصدر في هذه الآلة التي تتدفق بالحنو والعاطفة والدفء، وبعلاقتها الحميمة مع العازف الذي يحتضنها، بما يجعلها في مكان وسط بين الرأس والقلب. وإذا كانت صلة الربابة، ذات الوتر الواحد، بالغجر هي صلة ثابتة ومؤكدة، فإن الكمنجة أيضاً ترتبط مع هذه القبائل الغامضة والغريبة بأكثر من رابط، بما يؤكده انتشار هذه الآلة في كل من المجر وإسبانيا حيث العديد من القبائل الغجرية التي رأى فيها الشعراء أمثال بوشكين وجارسيا لوركا وخليل حاوي تجسيداً حياً لسعي الشعر إلى استعادة نقاء العالم وحريته وفطريته.
ولما كان تاريخ الشعراء العشاق أو التروبادور في أوروبا القرون الوسطى مرتبطاً بآلة الكمان، التي كانوا يعزفون على أوتارها تحت شرفات حبيباتهم المتمنعات أعذب الألحان وألصقها بآلام الهيام والوجد، فإننا نستطيع بسهولة أن نربط بين الكمان والشعر والحب وأن نجعل من هذا الثالوث وجوهاً ثلاثة لحقيقة إنسانية واحدة.
لم يكن الكمان وحده بالطبع هو الآلة الوحيدة الحاضرة في وجدان الشعراء وتجاربهم بل ثمة قصائد كثيرة حوَّمت حول الناي -كما عند جلال الدين الرومي وجبران خليل جبران- وقصائد أخرى تحدثت عن الغيتار والبيانو والقانون. ولكن قلّ أن تناولت قصائد بكاملها هذه الآلة أو تلك بل كانت ترد على شكل استعارة وتشبيه وكناية ذات صلة بموضوع الحب، أو الترجيح الغنائي، أو الحنين إلى زمن آفل، أو الحوار مع الطبيعة كما يرد في قصيدة صخب للشاعر الإسباني جارسيا لوركا:
في دربٍ ما
يَمضي الموتُ مكللاً بأزهارٍ برتقاليةٍ ذاويةْ
أزهارٌ تُغَنّي على كمانِها الأبيضْ
ومع أن لوركا الذي ارتبط شعره بعالم الغجر الموزع بين الحرية والشهوة والموت كان يصغي بانتباه إلى صوت الغيتار ويستلهمه في معظم كتاباته إلاّ أنه لم يهمل في الوقت ذاته آلة الكمان التي تكررت في غير موضع من قصائده، وبخاصة في قصيدة البكاء المشبعة بالأسى والحزن الرومنسيَّيْن حيث يقول:
أغْلَقْتُ شُرفتي
لأني لا أودُّ أن أسمعَ البكاءَ
لكنَّ خلفَ الجدرانِِ الرماديَّةِ
لا شيءَ يُسمَعُ غيرُ البكاءِ
ألفُ كمانٍ يهتزّ في راحةِ يدي…
البكاءُ كمانٌ كبيرٌ والدموعُ تبرقعُِ الريحْ
وفيما ترتبط صورة الكمان عند لوركا بالحزن والموت اللذين وسما الكثير من عوالمه الشعرية، فإن هذه الصورة تبتدئ لدى صديقه الشاعر التشيلي المعروف بابلو نيرودا مرتبطة بالأنوثة والحب قبل أي شيء آخر. فدواوينه السياسية تكاد تخلو من الإشارة إلى هذه الآلة المفرطة في ذاتيّتها وعذوبتها بينما نجده يتحدث في ديوانه اللافت مئة قصيدة حب عن كمنجات الخريف الهارب والمرهف التي تعزف له ولحبيبته ماتيلدا أعذب الألحان. وهو في قصيدة أخرى يصيب أعمق ما يمثله الكمان من نقاء وطهارة أرضيين حين يقول في أحد المقاطع:
ستأتي أيامٌ ثانية
حيث نَسْمَعُ فيها صَمَْتَ النباتِ معَ الكواكبْ
وما أكثرَ ما سوفَ تَمُرُّ أشياءُ نقيةْ
وستكونُ للكمنجاتِ رائحةَ القمرْ
هكذا يصيب نيرودا من خلال حبه لماتيلدا أكثر من عصفور بِحَجَرِهِ الشِعْري الواحد، دامجاً بين الزمان والمكان ومؤالفاً بين المرئي والمسموع والمشموم في ضوء ذلك الإيقاع النقي الخارج من الكمنجات.
أما الشاعر الفرنسي بول إيلوار فهو في ديوانه خمسون قصيدة حب يخاطب حبيبته بقوله: يا من طيفها يهدهد الليل على نغم كمنجة ، موائماً كما فعل أترابه بين ظلال الأنوثة وترجيعات الكمان.
وكما في الشعر الغربي كذلك نجد، ولو بنسبة أقل،ترددات الآلات الموسيقية وأصداءها المختلفة في شعرنا العربي المعاصر بشكل خاص. لكن هذه الترددات تنحصر في الشعراء الغنائيين الذين نظروا إلى الشعر بوصفه فناً متصلاً بالإيقاع والعاطفة ولغة القلب لا بالفكر والتقصي الفلسفي وإعمال العقل. ففي شعر نزار قباني تتردد أسماء عدد من الآلات الموسيقية وحتى تلك التي لم تألفها اللغة الشعرية السائدة من قبل كالبيانو والترومبيت والأكورديون. أما الكمان فيمر مروراً عابراً كقوله عن العصفور: ربما لو شاء يوماً أن يغني / يطلع الورد على قوس كمانه وقوله في مكان آخر مخاطباً حبيبته:
إنني لا أستطيعُ أن أُفَضِّلَكِ على موسيقى تشايكوفسكي
أنتِ تنامينَ على صدرِ كلِّ الكمنجاتْ
وتستحمِّينَ في دموعِ كلِّ الأوتارْ
وإذا كنا نلمح في بعض قصائد الشعراء العرب إشارات مختلفة الى آلة الكمان أو الكمنجة، إلا أنها تظل مجرد إشارات عابرة وسريعة، ربما لأن معظم الشعراء العرب ظلوا برغم نزوعهم الغنائي محصورين في إطار الثقافة الشعرية دون سواهامن الفنون، خلافاً لما كان حال الشعراء الغربيين الذين خرجوا من معاطف الثورات الفكرية والمعرفية والفنية، فتجاور عندهم الشاعر مع الرسام والنحات مع الموسيقي والروائي مع المسرحي. أما عندنا فيكاد الشاعر لا يفهم شيئاً في الرسم والرسام لا يفهم شيئاً في الموسيقى، إلا في القليل النادر. لذلك تبدو قصيدة الكمنجات للشاعر الفلسطيني محمود درويش استثناءً في هذا السياق. وتتقاطع هذه القصيدة في بعض وجوهها مع قصيدة البكاء لجارسيا لوركا، ربما لأن درويش رأى في ضياع فلسطين صورة متأخرة عن ضياع الأندلس وحاول أن يتعقب في صوت الكمنجات، المفتوح على الفقدان، ملامح خساراته القومية والوطنية والشخصية. ولأن القصيدة تكتسب أهمية بالغة على المستويين الرمزي والجمالي فإننا نوردها كاملة ختاماً لهذا الفصل
الكمنجات
الكَمَنْجاتُ تَبْكي معَ الغجرِ الذاهبينَ إلى الأندلسْ
الكَمَنْجاتُ تَبْكي على العربِ الخارجينَ من الأندلسْ
الكَمَنْجاتُ تَبْكي على زمنٍ ضائعٍ لا يعودْ
الكَمَنْجاتُ تَبْكي على وطنٍ ضائعٍ قد يعودْ
الكَمَنْجاتُ تُحْرِقُ غاباتِ ذاك الظلامِ البعيدِ البعيد
الكَمَنْجاتُ تُدْمي المدى وتَشُمُ دمي في الوريد
الكََمَنْجاتُ خيلٌ على وترٍ مِنْ سرابٍ, وماءٍ يئنُّ
الكََمَنْجاتُ حقلٌ مِنَ الليلَكِ المتوحِّشِ ينأى ويدنو
الكََمَنْجاتُ وحشٌ يعذِّبهُ إظْفَرُ امرأةٍ مسَّه وابتعدْ
الكََمَنْجاتُ جيشٌ يعمِّر مَقْبَرَةً مِنْ رُخامٍ ومن نهوندْ
الكََمَنْجاتُ فَوْضى قلوبٍ تجنِّنها الريح في قدمِ الراقصةْ
الكََمَنْجاتُ أسرابُ طيرٍ تفِرُّ من الرايةِ الناقصةْ
الكََمَنْجاتُ شكوى الحريرِ المجعَّدِ في ليلةِ العاشقةْ
الكََمَنْجاتُ صوتُ النبيذِ البعيدِ على رغبةٍ سابقةْ
الكََمَنْجاتُ تتبعُني هنا وهناكَ لتسخرَ مني
الكََمَنْجاتُ تبحثُ عني لتقتُلَني أينما وجدتْني
أشهر عازفي الكمان من الشرق الى الغرب
أنـور منسي وأحمـد الحفـناوي
احتل المراتب العليا في قائمة عباقرة العزف المنفرد العرب على آلة الكمان في القرن العشرين العبقريان أنور منسي وأحمد الحفناوي.
تميز أحمد الحفناوي بأنه أحد أعمق من أدى على آلة الكمان المقامات العربية الخالصة (كالصبا والبياتي والراست) بأحاسيسها الداخلية المرهفة والشفافة، كما كان أكثر عصرية من أسلافه العظام كسامي الشوا وجميل عويس، وأشد صفاءً منهما. لذلك لم يكن غريباً أن اختارته السيدة أم كلثوم عازف كمان أول دائماً في فرقتها (حتى مماتها).
أما أنور منسي فمع انه كان متمكناً أيضاً من أداء كل المقامات العربية، بتقنية عالية وإحساس رفيع، إلا أن تتلمذه على أستاذ روسي للكمان، جعله يتميز ويتفوق (شأن زميله عطية شرارة)، في أداء المؤلفات العربية المتأثرة بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، التي كان عبدالوهاب رائدها الأول مع زميله العبقري محمد القصبجي.
لكن عبدالوهاب مع ذلك، كان يختار الحفناوي لأداء المقامات العربية الخالصة، ويختار أنور منسي لأداء العزف المنفرد للجمل المشبعة بنكهة التأثر بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، كما في مقدمة لحن الفن ومقدمة لحن ماليش أمل (غناء ليلى مراد).
رحل أنور منسي شاباً في مطلع الستينيات، إثر سقوطه عن ظهر جواده، بينما رحل الحفناوي في مطلع عقد التسعينيات، بعد تقدمه في العمر.
استفان غارابيللي
حين يُذكَر الكمان, يذهب التفكير إلى الموسيقى الكلاسيكية وخاصة الرومانسية الحالمة. لذلك نجد عازف الكمان في فرقة لموسيقى الجاز مثلاً يشعر نفسه في موقع المتهم بأنه دخيل . وكان في طليعة هؤلاء عازف فرنسي من أبوين إيطاليين, اكتسب مكانة عالمية رفيعة ويعتبر جد عازفي الكمان في دنيا الجاز هو استفان غارابيللي. وهو يتذكر في مقابلة أجريت معه من طفولته في باريس أنه كان يجمع الطين لمجموعة فنانين يقطنون في بيت اسمه باتولافوار ليحصل على بعض القروش منهم وإذ به محترَف فنانين منهم جورج براك وبابلو بيكاسو وغيرهم من طليعيي الفن الحديث.
بدأ غارابيللي العزف وهو في سن الثانية عشرة. وانتقل للعزف في المقاهي وبعض المرابع الموسيقية إلى أن دخل عالم الجاز محققاً شهرة واسعة إذ كانت ألحانه تتمتع بسحر ويزيد تألقها كون الجاز يفسح المجال للتنويعات الحرة (التقاسيم), التي كان يؤديها بإنسيابية مذهلة ودون أي جهد. وحقق ذروة شهرته حين أسس مع عازف غيتار غجري فذ هو دانغو راينهارت ، أعظم عازف جيتار في تلك الحقبة، فرقة جاز رباعية وترية جالت في أوروبا والعالم واكتسبت شهرة وإعجاباً كبيرين في كل مكان. واللافت في هذا الأمر أنه حيث كانت الآلات الغالبة على فرقة الجاز هي آلات النفخ مثل الترامبت والساكسوفون إضافة إلى البيانو, فقد كانت هذه الفرقة وترية بالكامل! وربما يكون لهذه المبادرة الجريئة دور في تمهيد الطريق لآلة الكمان كي تنضم إلى فرق الموسيقى الغربية المعاصرة وتستمر في احتلال مكان مرموق حتى في موسيقى البوب وحتى أيامنا هذه.
دافيد أويستراخ
هو أحد أعظم عازفي كمان المدرسة السوفياتية، التي تفوقت في القرن العشرين. ولد في أوديسة (أوكرانية)، لوالد هاوٍ الموسيقى وأم مغنية أوبرا. في الخامسة من عمره بدأ يتعلَّم الكمان، وتولى تعليمه بيوتر ستوليارسكي، وصار عازفاً أول في الأوركسترا في سن باكرة جداً. بدأ جولاته الموسيقية في الثانية عشرة، وفي السادسة والعشرين صار أستاذاً في معهد موسكو الموسيقي. تزوج من تمارا ورزق ابناً هو إيجور الذي برز عازفاً للكمان أيضاً.
لم تعصَ على دافيد أويستراخ أي جوائز في العالم، الذي بدأ يجول فيه خارج الاتحاد السوفياتي، منذ سنة 1945م. وعقد صداقة عمر مع عبقري آخر على آلة الكمان، هو يهودي منوهين. وقاد الأوركسترا في أواخر عمره، وتوفي في أمستردام بنوبة قلب، سنة 1974م. تميز عزفه بالحرارة والعمق الوقور في معالجة النص الموسيقي.