قد تتكرّر الأسئلة حول سفراتك في اللقاءات والاجتماعات، وعلى الرغم من كثرة سفرنا وتنقلنا في عصر السرعة، ما زلنا نتفاعل مع هذا الكائن الحي، أي السفر، بجمود واضح.
من ملامح السفر، أن يخلو من شعائر الشوق في الذهاب ويكتظ بها في الإياب. في عودتي أفتقد أمي -رحمها الله- التي لن يقرّبها الشوق ولن يبعدها أيضاً عني. اعتدت أن أستحضر صوتها الدافئ وسؤالها المسهب أثناء رحلة العودة وأنا على مقعد الطائرة، لكنني أفتقد كل هذا الآن.
سافرتُ كثيراً، بروحي قبل جسمي، أو إن شئتَ، بروحي دون جسمي، بيد أن مرافقة الجسم للروح تجعل الأثر أقوى، ومن الصعب نسيانه.
كم من المدن حزنتُ لفراقها، وكم منها سعدتُ لنسيانها، بعضها يرحب بك بهدوء، وبعضها يستقبلك بغموض لا يلبث أن يتكشّف عن روح طفولية جميلة، وبعضها يندفع في الترحيب بك وسرعان ما تبرد عاطفتها من حيث لم تتوقع، وتبقى مدينةٌ ملكت الروح بكل تفاصيلها منوّرةً طيّبة، تحتل الفكر والوجدان وحدها دون سائر المدن، حين نقول بكل بساطة: المدينة المنوّرة.
كثيراً ما كنت أخاطب المكان شاعراً، لكن بعيداً عن مجازات الشعر. هل للمكان قلبٌ ينبض فيبث ما فيه من أحاسيس داخلنا؟
ذات صباح، وفي أحد الأحياء العتيقة بمدينة فيرونا، كان مرقد جولييت التي اختارت الموت من أجل حبيبها روميو، اعتقاداً منها أن لا حياة بعده! وغير بعيد عن مرقدها يكمن منزلها الذي احتضن قلبها النابض، كقبرها الذي يحتضن جسدها.
كان البؤس فارداً جناحيه هناك، أكاد أجزم أن جميع حراس المنزل كانوا على وشك البكاء! هل هو المكان الذي شهد الحرمان والنهاية غير السعيدة؟ أم هي روح جولييت التي ترى أنها لم توصِل رسالتها لكل محبَّين؟ أم هي نبضات قلبي خلعَها على الوجود من حوله هناك؟
أحببت كثيراً من الأماكن التي سألتني بشغف، البندقية كانت مكاناً مفعماً بالشجن، لم تكتف بالحديث والأسئلة، ولكنها اكتست أيضاً ملامح من أُحِب، في عطائها وجمالها وعنادها وقوتها وعمقها!
في رحلتي الأخيرة كسرت حاجز الشهر، اكتشفت في داخلي زاويةً مخيفة، وهي أنني أستطيع الصبر هذه المدة عن أشياء كثيرة، ربما أصبح الأمر منطقياً بعد أن فقدتُ أشياء أكثر أهمية قبلها، لكن الأمر حصل بسرعة على أية حال.
الأماكن التي تتنفس داخلنا جديرة بالوقوف عندها ملياً، لكن لا أدري إن كانت جديرة بالعودة إليها مجدداً أم لا!
في السفر لحظات خالدة مع المكان، لحظة اللقاء الأول، لحظة التعارف، لحظة اكتشاف سر جديد، لحظة الصُدفة التي لم نستعد لها، وتأتي لحظة الوداع محمَّلة بكثيرٍ من الأسئلة التي لا إجابة لها….
«فتيل الأسئلة»
وغداً سيبدأ موعدُ
وسينتهي أمدٌ قريبٌ مُبعَدُ!
سأودّع المدن التي احتضنت رفاتاً ذاهلاً
وتسامحت لما ذوى أمسٌ خليٌ مسعِدُ
أتعودُ..
هل هذا الخيارُ الأوحدُ؟
ما زال في جنبيكَ صوتٌ بالتغرب يُرعِدُ!
كل القطارات التي لاقيتَها
كل المسارات التي صافحتَها
كل الخيارات التي أخطأتها..
صححتَها ..
نقط تلاقت دون قصدٍ
كلها لم تحكِ أن العَود عودٌ يحمدُ!
*****
لو كان من شأن النوافذ أن تقص على الملأ
أو أن تذكّرنا بما قد مرّ في نور العيونْ
لو كان من شأن السحابِ يعدّ لي ما قد تدفق من خطىً
أو أن يرافقني إلى وطن الحنينْ
لو كان من شأن الوجوه ترمّم النسيانَ
أو حتى تقود إلى النجاةِ التائهينْ
لو كان ذلك ..
كله أو بعضهُ
لانزاحت الأسفار عن كتف السنينْ
ولصار حتماً أن يفوز الراحلونْ!
*****
لِمَ لانلاقي من نُحبّ على سوى نبضِ السفرْ؟
لِمَ كل من ودعتُ ما ردَّ السلامَ ولا اعتبرْ؟
لِمَ ذا الفراغُ اكتظّ حين حسبته قد ذابَ في شوق البصر؟
لِمَ عَمّ صمتٌ في المباني ..
هل يريح الصمتُ أشلاءَ الحجرْ؟
لِمَ داخلي شيءٌ يقول: أننتظرْ؟
لِمَ بائعُ الأزهار غاب عن النظرْ؟
*****
أنا عائدٌ..
لكن تُرى
ما الجزءُ مِّني قد تبقَّى للزمنْ؟
ما الكلُ منِّي قد تحفَّز للوطنْ؟
ما الشِعر بي لولا مراودة الوهنْ؟!
لا تسألوا ماذا اكتسبتَ من الترحّل واسألوا:
ماذا تركتَ هناك منكَ
وما تُرى..
كان الثمنْ؟
..في سطور
هو ماهر بن مهل الرحيلي، ولد في عام 1977م في المدينة المنوّرة، وعلى الرغم من صغر سنّه أصدر عدداً من الأبحاث والدراسات والكتب والمجموعات الشعرية، قبل وبعد أن حاز شهادة الدكتوراة في الأدب والبلاغة من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطبع، ثم عيِّن أستاذاً مشاركاً في الجامعة نفسها.
ناقش وأشرف مراراً على الرسائل العلمية في الدراسات العليا. وكان عضواً في لجان التحكيم لعدة مسابقات شعرية على مستوى الكليات بالجامعة الإسلامية.
في النشاط العلمي والأدبي كان قد شارك في عدة ملتقيات نقدية، منها ملتقى كرسي الأدب السعودي بعنوان «القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً في الأدب السعودي». والملتقى النقدي الخامس بنادي الرياض الأدبي حول «النقد الروائي في المملكة العربية السعودية»، وملتقى كرسي الأدب السعودي بعنوان «استلهام التراث في الأدب السعودي».
صدر له ديوان شعر بعنوان «مداي» وآخر بعنوان «ما بعد السكون» و«في سكون الليل»، وله كتاب بعنوان «التجربة الشعرية بين أحمد شوقي وأحمد الغزاوي»، وآخر بعنوان «المعارضات في الشعر السعودي». وهو ممن شارك في إعداد «قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية»، الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز في الرياض.