تقف على الشاطئ، أي شاطئ، وتتطلع، فترى مساحة رتيبة تمتد حتى آخر ما يطاله نظرك.. قد تكون هذه المساحة ساكنة، أو مائجة قليلاً أو كثيراً، ولكنها تبقى هي نفسها هنا وهناك وهنالك.. حتى تبدو وكأنها تخلو من أي متغير أو طارئ أو خطاب. ومع ذلك، فعلى هذه الصفحة الزرقاء التي لا يدرك البصر نهايتها كُتب القسم الأكبر من تاريخ الإنسانية وليس من معالم ثقافتها وحضارتها وتطورها فقط. حتى أن كلمة «البحر» أصبحت مرادفاً للضخامة، ضخامة العدد، ضخامة المساحة، وللإشارة إلى كل ما يصعب قياسه أو حصره. فهل يمكن لـ فريق القافلة أن يحصر في هذا الملف بصفحاته المحدودة كل هذا العالم الشاسع وحضوره الكبير في تاريخ الإنسانية وثقافتها؟ إنها مجرد وقفة تأمل على الشاطئ.
يقول الروائي إبراهيم الكوني في «خماسية الخسوف» إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا بجوار البحر، سواء أكان هذا البحر من الماء أو من الرمال. ولأن النوع الأول من البحار هو موضوعنا في هذا الملف، فإننا بلحظة تأمل سريعة نستطيع أن نتأكد من صحة هذا القول.
فقد قامت المجتمعات البدائية في العصور الحجرية القديمة على ضفاف الأنهر. ولكن الحضارات الكبرى قامت لاحقاً على شواطئ البحار أو في مناطق داخل اليابسة ذات منفذ على البحر. وكأن هذا البحر الذي كان موطن الخلايا الحية الأولى قبل 3500 مليون سنة يبقى شرطاً ضرورياً لاستمرار الحياة وتطور الحضارة الإنسانية.
فقبل آلاف السنين اكتشف الإنسان في البحر مصدراً للطعام. فلم يبتعد عنه حتى عصرنا هذا الذي نصطاد فيه أكثر من 90 مليون طن من الأسماك سنوياً. وخيرات البحر لا تقتصر على الأسماك، بل تشمل ما يستحيل إحصاؤه بين اللآلئ الصغيرة وحقول النفط العملاقة. وكلاهما معروفان بتاريخهما وحاضرهما في منطقة الخليج.
وقبل آلاف السنين اكتشف الإنسان أن البحر يمكنه أن يكون سبيلاً للسفر أسهل من الطرق البرية الوعرة، فصنع زوارقه الخشبية البدائية والبسيطة. واليوم، يستمر الإنسان في تطوير وسائل النقل هذه مسخراً لها كل ما توصلت إليه العلوم والصناعات وصولاً إلى الأقمار الاصصناعية وأكثر برامج الكمبيوتر تطوراً.
ولأن البحر هو مورد رزق وهو صلة الوصل بين الحضارات والمجتمعات والثقافات (أو الميدان الفاصل ما بينها)، فقد صاغ، عبر آلاف السنين هذه، أنماط العيش على شواطئه. فكان شأناً يومياً في حياة المتعاملين معه مباشرة مثل البحارة والصيادين، وكان أيضاً الميدان التاريخي الذي قضى على بعض الحضارات، وأقام أخرى بدلاً منها. وما بين هذا وذاك، يتغلغل البحر عميقاً في تأثيراته داخل اليابسة حتى يصل إلى الحياة اليومية لأي إنسان في أي مكان من العالم تقريباً. سواءً تمثل هذا التأثير في «علبة سردين» أو في استعمال الوقود الذي شحن من منابعه بواسطة الناقلات البحرية.
سقنا هذه المقدمة الطويلة للتأكيد على استحالة الإحاطة بكل ما يمكن أن يكون البحر قد تركه من بصمات على الثقافة الإنسانية عبر التاريخ، وبالتالي فإن كل العناوين الفرعية في هذا الملف هي مجرد نقاط من بحر.
البحر.. من هنا وحتى المجهول
تُظهر الصور الفوتوغرافية التي التقطت للأرض من الفضاء أن اللون الطاغي على كوكبنا هو الأزرق، لأن 71 في المئة من الكرة الأرضية مغطاة بالبحار والمحيطات، ولا تحتل اليابسة سوى 29 في المئة فقط من مساحتها.
وعندما نتصفح الموسوعات بحثاً عن عالم البحار نطالع مصطلح «المحيط العالمي» الذي يضم كل المسطحات المائية الكبيرة على وجه الأرض من محيطات وبحار متفاوتة الأحجام. غير أن المدهش هو الاختلاف الكبير في ترسيم حدود هذه المحيطات والبحار.
ففي بعض المصادر، تحدد مساحة المحيط الهادئ أكبر محيطات العالم، بنحو 155 مليون كلم مربع، وفي مصادر أخرى بنحو 181 مليوناً. ومرد هذا الفرق إلى خلافات حول تصنيف البحار الفرعية كجزء من المحيط أم كبحار مستقلة. حتى المحيط المتجمد الشمالي، هناك من يعده جزءاً من المحيط الأطلسي وليس محيطاً مستقلاً. إذ إن بعض البحار ينفتح بشكل كبير على المحيط كما هو حال بحر العرب مع المحيط الهندي، في حين أن بعضها يقتصر في اتصاله بالمحيط على مضيق ضيق كما هو حال البحر الأبيض المتوسط الذي لا يتصل بالمحيط الأطلسي إلا عبر مضيق جبل طارق الضيق، وبالبحر الأحمر عبر قناة من صنع الإنسان هي قناة السويس.
ولكن البحر في وجدان الإنسان لا يخضع لتصنيف الموسوعات والقواميس.. إنه تلك المساحة الزرقاء الممتدة أمامه وهو يقف على الشاطئ حتى كل شواطئ العالم التي لا يعرف أين هي ولا أين تقع ويعجز أن يرسم في خياله صورة ولو جزئية عنها.. إنه الممتد من هنا وحتى المجهول.
حياة صاخبة.. لا نسمع صوتها
من النادر أن ترى العين أثراً لحياة حيوانية أو نباتية على سطح البحر الرتيب. ولكن، تحت سطح الماء مباشرة، يضج البحر بالحياة النباتية والحيوانية التي خصها العلماء بتصنيفات مختلفة تماماً عن تصنيفات الحياة على اليابسة. فهناك العوالق المكونة من كائنات نباتية أو حيوانية تنجرف مع التيارات، وهناك السوابح المكونة من حيوانات تسبح وفق مشيئتها مثل الأسماك والحبار والثدييات البحرية، وهناك القاعيات التي تضم بعض النباتات التي تعيش في القاع وأيضاً بعض الحيوانات مثل السرطانات والكركند ونجمة البحر والديدان وما إلى ذلك.. أما أحجام هذه المخلوقات فتختلف ما بين المجهري منها مثل البكتيريا والقرش الحوتي الذي يصل طوله إلى 18 متراً.. ولإدراك حجم التنوع الحيواني في البحار نكتفي بالإشارة إلى أن الأسماك التي تعرَّف الإنسان إلى أنواعها تبلغ 13,300 نوع. وكل هذه المخلوقات الحيوانية تتغذى على بعضها فتعيش في صراع دائم إما للدفاع عن نفسها ضد المفترسين أو للإيقاع بفريسة ضرورية لتغذيتها. إنه عالم وحشي وقاسٍ وعنيف تخبئه عن عيوننا صفحة الماء الزرقاء. ولكنه أيضاً عالم بالغ الروعة. إذ من بين كل الأفلام الوثائقية، تبقى مشاهد أعماق البحار الأكثر إبهاراً للعين.
ويتجمع القسم الأكبر من الكائنات البحرية (النباتية والحيوانية) قريباً من الشواطئ، أي في المياه التي لا تزيد أعماقها عن 100 إلى 150 متراً، أي المياه التي تخترقها أشعة الشمس. غير أن بعض الحيوانات البحرية تعيش على أعماق أكبر بكثير ولا تقترب من المياه الضحلة إلا بحثاً عن الغذاء.
الاستثناء الوحيد في هذا المجال هو البحر الميت. ذلك أن هذا البحر الذي يحده من الشرق الأردن ومن الغرب فلسطين، إنما سمي ميتاً لأن ملوحته عالية إلى درجة لا تسمح لحياة بحرية فيه. كما أن استهلاك المياه من روافده ازداد في السنوات الأخيرة، مما جعله يجف شيئاً فشيئاً، على نحو ينبئ بأنه قد يصبح اسماً على مسمى، فيموت فعلاً ويزول عن سطح الأرض موقع تاريخي لا يعوَّض. ولا تقتصر فرادة البحر الميت على كونه أشد البحار ملوحة في العالم، بل أيضاً لأن موقعه هو أعمق موقع على اليابسة أيضاً.
البحر لحياة اليابسة
من دون الغوص في الجغرافيا وعلوم البحار التي تضيق بها آلاف المجلدات، نقول إنه لولا البحر لما كانت هناك حياة على اليابسة. فالبحر المالح هو مصدر الماء العذب الذي نشربه، لأن تبخر مائه يولد السحب الممطرة. والبحر هو المحدد لأحوال المناخ في كل بقاع الأرض من خلال حركة تياراته. والبحر هو مصدر للثروات الطبيعية الحيوانية والمعدنية. وإن كانت بعض هذه الأوجه للبحر قد لا تخطر مباشرة على بال الواقف على الشاطئ، فمما لا شك فيه أنها منطبعة في أعماقه وفي لا وعيه، وتزيد من مهابة هذا البحر الذي به يرتبط كل شيء مهما كان موغلاً في أعماق اليابسة.
البحر منشئ الدول ومبيدها
ولأن البحر كان في أحيان كثيرة المجال الفاصل ما بين بعض الدول عن بعضها، كان من الطبيعي أن يتحول إلى ميدان للصراع. ومنذ أن أتقن الإنسان فن الملاحة للنقل أو للتجارة، انتبه إلى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الزوارق والسفن المسلحة في حسم الصراعات.
إن أقدم معركة بحرية وصلتنا أخبارها هي تلك التي هزم فيها الحثيون القبارصة قبالة جزيرة قبرص في عام 1210 ق.م. ومنذ ذلك التاريخ وحتى شهر أغسطس من العام الماضي، عندما واجه الأسطول الروسي البحرية الجورجية قبالة أبخازيا، تعدد الموسوعات أكثر من 850 معركة بحرية بين أساطيل دول العالم المختلفة.
بعض هذه المعارك كان محدود النتائج. غير أن بعضها غيَّر وجه التاريخ. مثل معركة «أكثيوم» البحرية التي دارت رحاها بتاريخ 2 سبتمبر من العام 31 ق.م. قبالة المستعمرة الرومانية في اليونان اكثيوم بين الأسطول التابع للقائد الروماني أوكتافيان وأسطول تحالف كليوباترة ملكة مصر مع مارك أنطونيو. وشكَّلت هزيمة الأسطول الثاني نهاية الجمهورية الرومانية وبداية عصر الإمبراطورية، وأيضاً نهاية المرحلة الهلنستية في مصر وبداية زوال ما تبقى من آثار حضارتها وثقافتها الفرعونية. وخلال حصار العثمانيين لمدينة القسطنطينية في العام 1453م، لجأ السلطان العثماني محمد الفاتح إلى مناورة بحرية فريدة من نوعها غيَّرت مجرى التاريخ. إذ بعدما عجزت سفنه من إحكام الحصار على المدينة في المنطقة المعروفة باسم القرن الذهبي، لوجود سلاسل معدنية عملاقة تسد الطريق عليها، أمر بشق طريق بري ونقل السفن براً على مزالج خشبية، وإنزالها في الماء قبالة الموقع المطلوب لإحكام الحصار. مما أدى إلى حسم المعركة لصالحه، وتغير تاريخ آسيا الوسطى برمته بزوال الإمبراطورية البيزنطية.
أما معركة «الأرمادا» فتبدو مدهشة إذا ما قرأناها بشيء من التدقيق. فهذه المعركة التي جرت بين الأسطولين الإسباني والإنجليزي في أغسطس من العام 1589م، عندما حاول الأول غزو إنجلترا، انتهت بهزيمة الإسبان الذين خسروا نحو 600 قتيل و800 جريح، وأصيبت خمس من سفنهم بأضرار (علماً بأن أسطولهم كان مؤلفاً من 22 سفينة حربية و108 سفن تجارية مسلحة). أما الإنجليز فلم يتكبدوا أكثر من 50 إلى 100 قتيل وثماني سفن صغيرة. الأرقام تبدو متواضعة جداً إذا ما قيست بضحايا الحروب. ولكن المؤرخين يعتبرون هذه المعركة البحرية بداية كسوف الزعامة الإسبانية في أوروبا، وظهور بريطانيا كقوة بحرية أولى في العالم، ستزحف لاحقاً لاحتلال بقاع كثيرة في المشارق والمغارب على حد سواء.
وفي التاريخ العربي، لعبت الأساطيل البحرية دوراً كبيراً في الفتوحات وفي الدفاع عنها، وطوال القرون السبعة الأولى بعد الهجرة كانت البحرية العربية ذات شأن يحسب حسابه على الصعيد العسكري.
كان الانتصار العربي الأول على البيزنطيين في «ذات الصواري» عام 655م. وفي عام 698م، هزم العرب اليونانيين في معركة قرطاجة، وهزموا الفرنكيين في عام 820م قبالة سردينيا، والبنادقة عام 841م قبالة تارانتو. وتمكنوا في العام 965م من تدمير الأسطول البيزنطي قرب كالابريا (إيطاليا) غير أن البيزنطيين هزموا الأسطول المصري في السنة نفسها قبالة قبرص. وحتى في دولة المماليك ظل كبار السلاطين يولون البحرية أهمية كبيرة، كما كان حال الظاهر بيبرس. غير أن أهمية البحرية العربية راحت تتضاءل شيئاً فشيئاً بفعل الوهن الذي كان يتزايد في كافة مرافق الحياة السياسية، مقارنة بالنهضة السياسية والاقتصادية والثقافية، وحكماً البحرية، التي كانت تزداد رسوخاً ونمواً في أوروبا. ولكن ماذا عن العرب والبحر بعيداً عن المعارك؟
البحر عند المسلمين والعرب
ذكر القرآن الكريم كلمة البحر ومشتقاتها 42 مرة: بحر والبحران والبحرين والبحار وأبحر وبحيرة. وقد نزلت آيات بهذه الكلمات، في سور: البقرة والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وإبراهيم والنحل والإسراء والكهف وطه والحج والنور والشعراء والنمل والروم ولقمان والشورى والدخان والجاثية والطور والرحمن وفاطر والفرقان والتكوير والانفطار.
ففي سورة البقرة قوله تعالى: }وَإذ فَرقنا بِكُم البَحرَ فَأنجَيناكُم وأغرَقنا آلَ فِرعَون{ (البقرة، 50)، وفي سورة الكهف قوله العزيز: }أمَّا السَّفينَةُ فكانَتْ لِمَساكينَ يعمَلونَ في البحر{ (الكهف، 79)، وفي سورة لقمان: }أَلَم تََرَ أنَّ الفُلكَ تجري في البَحرِ بِنِعمَةِ الله{ (الكهف، 31). وقال تعالى في سورة فاطر: }ومَا يَستَوي البَحرانِ هَذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُه وَهَذا مِلحٌ أُجاجٌ{ (فاطر، 12). وفي سورة الرحمن: }مَرَجَ البَحرَينِ يلتَقِيانِ بَينَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان{ (الرحمن، 19-20). وذكر القرآن الكريم كلمة اليَمّ، وهي مرادف للبحر، ثماني مرات، في سور: الأعراف وطه والقصص والذاريات. ومنها قوله تعالى: }فَانتَقمنَا مِنهُم فَأَغرَقناهُم في اليَمِّ بِأَنّهُم كَذّبُوا بِآياتِنا{ (الأعراف، 136).
وقد يسأل سائلٌ: كيف يكون البحر سائغاً شرابه؟ إذ يعتقد الكثيرون أن البحر هو المالح وحده. لكن المعاجم العربية تسمي البحر: الماء الكثير، سواء أكان مالحاً أو غير مالح. وكان قدامى العرب على نحو ما في القرآن الكريم، يسمون المالح: الأُجاج، وغير المالح: الفُرات، ومن ذلك سمي اسم النهر العظيم الذي ينبع في تركيا ويمر بسوريا وينتهي إلى العراق، فشط العرب، ليصب في الخليج. وفي مصر يسمّون نهر النيل البحر أيضاً، مع انهم حين يقسمون البلاد قسمين: بحري وقِبلي، فإنما يعنون بالبحري ناحية البحر الأبيض المتوسط، أي شمال مصر، وبالقبلي ناحية القِبلة التي هي بمثابة الجنوب في مصر، إذ ان مكة المكرمة في خطوط العرض تستوي وأقصى حدود مصر الجنوبية مع السودان. فالبحر عندهم هو البحر والنهر كلاهما.
وقديماً جداً في وادي الرافدين، كان السومريون في عقيدتهم الوثنية، يعتقدون أن الخليقة بدأت حين كان الماء يملأ الكون، ففصل الآلهة الماء المالح عن الماء العذب ليُوسِعوا للأرض. وكانوا يعتقدون كذلك أن ملتقى الماءين المالح والعذب هو في موطن الآلهة، دِلمون. ودِلمون هذه ليست سوى البحرين اليوم. وكانت دِلمون حضارة تشمل مناطق واسعة من الخليج، ازدهرت قبل ستة آلاف سنة، وسبقت ظهور حضارة السومريين بألف عام. ويرى بعض المؤرخين أن أصل تسمية البحرين هي هذا المعتقد السومري القديم. فقد كان البحارة والغطاسون الباحثون عن اللؤلؤ وهم في قاع البحر قرب شواطئ البحرين والقطيف على الناحية الغربية من الخليج، يستطعمون ماء عذباً ينبع من قاع البحر. فظن السومريون أن التقاء البحرين هنا موضعه، وأن ابتداء الخليقة إذن كان هنا.
ويسمي الجغرافيون اليوم البحر الممتد بين شرق إفريقيا وشاطئ اليمن حتى الهند، بحر العرب. ذلك أن هذا البحر، وهو جزء من المحيط الهندي، إنما كان موطناً لطرق سفن العرب، التي كانت تأتي بتجارة الهند والصين وشرق إفريقيا، إلى اليمن، حتى تنقلها القوافل المكية القرشية، إلى بلاد الشام، حيث تتولى السفن تسويقها في البحر الأبيض المتوسط. وكان بحارة عُمان أشهر من تولى مهنة البحر في العصور السابقة للإسلام في بحر العرب. ويقول علماء تاريخ إن العرب كانت لهم مستعمرة في سومطرة بإندونيسيا، في بداية التقويم الميلادي، أي منذ ألفي سنة، بل ان العرب تاجروا بين مدغشقر وإندونيسيا منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وكانوا يسيرون سفنهم الشراعية في هذا البحر بالرياح الموسمية التي كانوا يعرفونها تمام المعرفة. وقد ذكرهم بليني المؤرخ الروماني. وقال أغاثارخيدس، رئيس مكتبة الإسكندر ذي القرنين وكاتب رحلة لامبولوس، إن العرب كانوا تجار المحيط الهندي وبحارته. ويرى المؤرخ فون فيسمان، أن الحميَريين اليمنيين ملكوا أفضل أساطيل البحر في المحيط الهندي قبل الإسلام، وكانوا يديرون بأنفسهم أسطول الإمبراطورية الساسانية.
ومعرفة العرب البحر ظاهرة ولا شك في الشعر الجاهلي، ومنه قول طرفة بن العبد، الذي عاش أواخر القرن الميلادي السادس، في معلقته الشهيرة:
كـأنَّ حُـدوجَ الـمـالـكـيةِ غُـدوَةً
خـلايا سفينٍ بالنواصفِ مـن دَدِ
عَدوليةٌ أو من سفينِ ابنِ يامـنٍ
يجوزُ بها الملاّحُ طوراً ويهتدي
يشقُّ عُبابَ الماءِ حَيزومُها بها
كـما قسـمَ التـُّربَ المُفَايِـلُ باليد
الحُدوج هي الإبِل، والنواصف مجاري الماء في الوادي، والدد هو اللهو واللعب، والعدولية هي السفن الآتية من عدوليس الحبشية، وابن يامن صانع سفن عماني كان شهيراً، (وقد ذكره امرؤ القيس أيضاً في قصيدته التي تبدأ بقوله: سَما لكَ شوق)، والحيزوم هو صدر السفينة أي مقدمها، والمفايل هو الولد يلعب بالحصى. شبّه طرفة الإبل بالسفن، وهي تشق البحر، مثلما يشق الولد التراب وهو يلعب بالحصى.
كذلك حدثنا عمرو بن كلثوم في بعض شعره الجاهلي عن نشاط بحري للعرب، قبل الإسلام، إذ يقول:
ملأنا البرَّ حتى ضاقَ عنّا
وظهرُ البحرِ نملؤهُ سَفينا
وفيما ينكر بعض المؤرخين الغربيين المشكوك في حوافزهم تفوق البحارة العرب في الطرق البحرية التي كانوا يذرعونها بين جنوب شبه الجزيرة وشرق إفريقيا والهند، يدحض المنصفون منهم، وتدحض الحقائق التاريخية الشكوك ببساطة تامة. ذلك أن الإسكندر ذا القرنين اجتاح المنطقة بأسباب أحد أهمها بلوغ شواطئ بحر العرب، ليتجنب دفع مكوس لتجار اللبان والحرير والتوابل والفضة الآتية من سفن كانت تأتي بها عبر الخليج والبحر الأحمر والقوافل الصحراوية. وقد ورثت روما ثم بيزنطة فيما بعد هذه المشكلة الجغرافية السياسية، وحكمت سياستها قروناً طويلة.
السفن العربية
كان سر تفوق العرب أسلوب صنعهم السفن المبحرة في بحرهم. إذ ان السفن كانت تتحرك بقوة الريح، ولذا كانت الأشرعة بمثابة المحرك في السفينة. وكان ثمة عنصران طبيعيان أساسيان في السفر إلى المحيط الهندي: الرياح الشمالية التي كانت تسيطر على البحر الأحمر طول السنة، والرياح الموسمية التي كانت تتحرك بها السفن في المحيط الهندي وبحر العرب. لم تكن رياح البحر الأحمر التي تهب طول السنة من الشمال، تساعد البحارة الذين يستفيدون في رحلة الذهاب جنوباً ولا يستطيعون العودة شمالاً. أما في المحيط الهندي فكانت المشكلة مختلفة. فالرياح الموسمية تتجه في الصيف من الغرب إلى الشرق، وهي عاتية وشديدة الخطر. أما في الشتاء فهي تتجه من الشرق إلى الغرب، لكنها لطيفة وممتازة للإبحار. المشكلة هي أن السفن تستطيع أن تأتي من الهند في الشتاء بيسر، لكن كيف تذهب إليها صيفاً في محيط عاصف؟
لحل هاتين المشكلتين، ابتكر العرب شراعاً لم يدرك سره الغرب، إلا متأخراً. كان العرب يصنعون سفناً في الخليج وعُمان، لا تزال معروفة إلى يومنا هذا، تسمى: الدّو، وهي مصنوعة من خشب يُربَط بألياف، لا تثقل السفينة. عيب هذه السفن أنها لا تحتمل الرياح القوية العاتية، التي كانت تستطيع السفن الغربية الكبيرة الثقيلة المشدودة بالمسامير أن تحتملها. لكن هذا العيب كان صناع الأشرعة العرب يعالجونه بذلك الشراع العجيب الذي حيّر الغرب طويلاً. كان الشراع الذي يستعملونه مثلثاً عريض القاعدة، وزاويته في أعلى الساري، فيما كانت أشرعة السفن الرومانية ثم البيزنطية مربعة الشكل. وكان هذا النوع العربي المثلث من الأشرعة يستطيع أن يستقبل من أعلاه الريح الآتية من ناحية السفينة الأمامية، فيلتقط دفق الهواء ويحوله إلى بطن الشراع. فتكاد السفينة أن تبحر برياح معاكسة لوجهتها.
ما هو وجه العظمة في هذا الاختراع؟
كانت هذه الأشرعة تمكن السفينة من الإبحار نحو الهند في الشتاء، حين تكون الرياح لطيفة، لكن اتجاهها غير مؤات. ولما كانت وجهة السفر إلى الشواطئ الهندية من عمان أو اليمن جنوبية شرقية، ورياح الشتاء الموسمية الآتية من الهند شمالية شرقية، كان يمكن للسفن العربية أن تبحر نحو الهند. أما الأشرعة المربعة، فلم يكن في استطاعتها دفع السفن الرومانية إلا بالرياح الموسمية الصيفية العاتية. وكان هذا ميزة حاسمة للبحارة العرب، لأنهم كانوا يستطيعون أن يأمنوا في سفرهم البحر، في رياح الشتاء اللطيفة، ويحجمون عن السفر مع رياح الصيف العاتية.
البحر ألوان
البحر أزرق!
كلنا يعلم هذا.. لكن البحر في أحيان يبدو مائلاً إلى اللون الأخضر، ذلك في المناطق الضحلة قرب الصخور والشطآن. وفي أحيان يكتسي بالبياض، لدى انقلاب الموج عند الشواطئ، أو يبدو هذا البياض عند غضب الرياح واشتداد الأنواء، فيلبس رداء الزبد الهائج. وكم مرة بدا لنا البحر أسود قاتماً، في حلكة الليل، أو حتى في حلكة موجة حزن أو ألم، وكأن ذلك اللون حالة وجدان، تتبدل مع تبدل ما في قلوبنا.
ما الذي يجعل البحر أزرق؟
يقول لنا العلماء إن الشعاع الآتي إلينا من الشمس يبدو لنا أبيض، لأنه يخلط في حزمته كل ألوان طيف الضوء، من الأحمر إلى الأزرق. وإن موجة الضوء الأزرق قصيرة، وموجة اللون الأحمر طويلة. والموجة الطويلة قادرة على اختراق الهواء مسافة أطول من المسافة التي يستطيعها الضوء الأزرق. لذا يبعثر الهواء الضوء الأزرق، فيلوّن البحر والهواء بلونه.
ولإثبات هذا، يضيف العلماء أن الشمس عند الشروق أو عند الأصيل، تبدو أشد احمراراً. ذلك أن شعاع الشمس في أول النهار أو آخره، يجتاز مسافة أطول في هواء الأرض، فيصل إلينا الشعاع، وقد صُفّيت منه الأشعة الزرقاء وبقيت الأشعة الحمراء.
وهذا بالضبط ما يحدث في البحر أيضاً. إذ ان مياهه لا تكتفي باتخاذ الزرقة من الهواء، بل ان المياه نفسها تفعل في الأشعة ما يفعله الهواء، فتبعثر الضوء الأزرق، لنراه بعيوننا مرتداً إلينا، وتمتص الألوان الأخرى، فتختفي عن ناظرينا.
إلاّ أن البشر لم يأخذوا ألوان البحر على مظهره الأول. فهناك البحر الأحمر بين مصر والسودان غرباً وشبه الجزيرة العربية شرقاً، وقد قيل الكثير في سبب تسميته بالأحمر. فمنهم من ردها إلى لون المرجان، ومنهم إلى بعض الطحالب البحرية، وآخرون ردوها إلى وعورة الملاحة فيه وكثرة الدماء التي أريقت فيه قديماً. أما البحر الأسود فيتوسط تركيا وروسيا وأكرانيا ورومانيا وبلغاريا. ولا تفسير لتلك التسمية، سوى أنه غني بكبريتيد الهيدروجين الأسود اللون، أو احتمال أن يكون بحارة اختاروا هذا الاسم في الزمان الغابر، في أيام عاصفة تكفهر بها السماء. وتطل الصين من شرقها على البحر الأصفر، الذي اتخذ اسمه هذا من اصفرار مياهه التي تصب فيها أنهار عظيمة تحمل الطمي إليه.
وقد يتخيّل المرء أن تلك الألوان تبدو واضحة حين نطل على هذه البحار. لكن المشاهد، حين ينظر إليها، فنادراً ما يلاحظ أي لون غير الأزرق.
يقول الفنان الإيطالي ليوناردو دا فنشي في لون البحر: «ليس للبحر المائج لون واحد في كل الدنيا. لكن من يراه من اليابسة، يراه قاتم اللون، ويزداد قتامة كلما اقترب الأفق. لكنه يرى أيضاً بياضاً أو لمعاناً يتحرك ببطء، أشبه بتحرك غنمة في قطيعها… فمن الشاطئ يمكن أن ترى الموج وهو يعكس لون اليابسة القاتم، وفي أعالي البحار ترى في الموج الهواء الأزرق ينعكس على وجه الماء.
في الرواية والسينما..
من سندباد إلى التيتانيك
عندما ظهرت السينما في القرن العشرين، وجدت نفسها أمام تراث روائي عريق وضخم يتناول البحر موضوعاً وميداناً لأحداثه. وبدا هذا التراث جذاباً جداً لهذه الصناعة الناشئة لجهة قدرته على شد جمهور المشاهدين الحالم بالمغامرات البحرية من دون أن يجرؤ على خوضها فعلاً. وربما كان الأمر نفسه هو وراء شغف الروائيين الذين عرفوا البحر عن قرب في كتابة أعمال أدبية لا تحصى حول البحر والحياة البحرية ومغامراتها. ومهما حاولنا الاختصار في هذا المجال لا بد من التوقف أمام بعض العناوين الخالدة في أدب البحر.
السندباد البحري
السندباد البحري هو بحار من البصرة عاش في عصر الخلافة العباسية، وتروي حكايته (أو حكاياته) مغامراته في الرحلات البحرية السبع التي قام بها في المحيط الهندي ما بين شواطئ إفريقيا وشرق آسيا. ويزعم بعض المؤرخين أن لحكاياته أصلاً فارسياً، فيما يرى آخرون، ومن دون الزعم أن أصلها سنسكريتي، أن مؤلف نواتها الأولى كان على اطلاع على فن السرد الهندي. ولكن المؤكد أن أقدم نسخة من حكاياته موجودة اليوم هي عربية خالصة.
والمدهش في حكايات سندباد التي تجمع الخيال الجامح إلى أحداث حقيقية مستقاة من مغامرات البحارة في المحيط الهندي ومشاهداتهم، هو أنها موضع خلاف حول ما إذا كانت جزءاً أصيلاً من «ألف ليلة وليلة» التي تُضم في بعض نسخها، أم أنها عمل متكامل مستقل.
المهم في هذه الحكايات هو أنها تركت آثاراً وبصمات لا تُحصى في الثقافة العالمية. فقد تم تصويرها للسينما والتلفزيون 20 مرة ما بين العام 1947 وحتى العام 2007م. ونرى السندباد حاضراً في رواية «الكونت دي مونتي كريستو» حيث يظهر كاسم مستعار لادموند دانتيس. والشاعر إدغار ألن بو كتب قصة بعنوان «الليلة الثانية بعد الألف لشهرزاد» وفيها يروي قصة الرحلة الثامنة والأخيرة لسندباد. والشاعر البولوني بوليسلو ليسميان كتب مجموعة حكايات بعنوان «مغامرات السندباد البحري». وفي رواية جون بارث «الرحلة الأخيرة لواحد بحري» يشكل السندباد البحري ورحلاته الإطار لمجموعة الرحلات التي يقوم بها هذا المجهول المسمى «واحد بحري». وأيضاً نرى السندباد البحري في رواية آلان مور «عصبة السادة الخارقين». وفي أفلام صورت من هولندا إلى طوكيو مروراً ببوليود الهندية.
موبي ديك
نشر الروائي الأمريكي هيرمان ميلغيل روايته «موبي ديك» في العام 1851م. أولاً في لندن، ومن ثم في نيويورك. ورغم ظهور بعض الاختلاف في آراء النقاد، فقد حظيت هذه الرواية فور ظهورها بنصيب وافر من التقدير. غير أن إعادة طبعها واكتشافها مجدداً بعد الحرب العالمية أعطاها حق قدرها، فتم تصنيفها كواحدة من أفضل ما كتب في تاريخ الروايات الأمريكية على الإطلاق.
تحكي هذه الرواية قصة قبطان بحري يدعى آهاب سبق له أن تعرض لهجوم من حوت أبيض ضخم معروف من قبل البحارة باسم موبي ديك، وفقد من جراء ذلك ساقه، فيقرر الخروج في رحلة للبحث عن هذا الحوت وقتله انتقاماً. ومن ضمن مرافقي آهاب هناك إسماعيل المتعقل (الذي ينجو لوحده من الموت في نهاية الرواية)، وعدد من الشخصيات المختلفة.
تجمع هذه الرواية في أكثر من 800 صفحة الرومنطيقية، والواقعية المستقاة من خبرة الكاتب في البحر. غير أن قيمتها الرئيسة تكمن في غناها الذي لا مثيل له من حيث عدد القضايا التي تتطرق إليها بدءاً بالتراتبية الاجتماعية وصولاً إلى الدين والقيم الأخلاقية، وعلاقة الإنسان بالكون ككل. وهذا ما جعل عالم النقاد والقرَّاء يحتاجون إلى وقت طويل لاكتشافه، والإقرار بعبقرية هذا العمل الفريد. وقد ترجمت هذه الرواية إلى معظم لغات العالم، وترجمها إلى العربية الدكتور إحسان عباس، يرحمه الله.
الشيخ والبحر
هي قصة طويلة أو رواية قصيرة (127 صفحة) كتبها الروائي الأمريكي آرنست همنغواي في كوبا سنة 1951م، ونشرها في العام التالي. وكان لها الأثر الأكبر في فوزه بجائزة نوبل عام 1954م؛ «بسبب أستاذيته في فن السرد كما تجلَّى مؤخراً في الشيخ والبحر، وللأثر الكبير الذي تركه على الأسلوب الروائي المعاصر»، حسبما جاء في بيان اللجنة المانحة للجائزة.
تروي هذه القصة المواجهة الملحمية التي تدور بين صياد كبير في السن يدعى سانتياغو وسمكة «المارلين» العملاقة. فبعدما أبحر هذا الرجل لمدة 84 يوماً بحثاً عن هذه السمكة، عثر عليها في اليوم الخامس والثمانين، وعلقت السمكة بخيط الصنانير، غير أنها بدلاً من أن يجرها الزورق، راحت هي تجر الزورق وفق هواها، واستمر صراع الصياد معها ليومين وليلتين ذاق فيهما شتى ألوان الألم والعذاب. وبعدما استسلمت السمكة، واجه الصياد سرباً من أسماك القرش حامت حول الفريسة، فكان صراعه مع هذه الوحوش المفترسة أشد شراسة من صراعه الأول، وانتهى بالإفلات منها والعودة سالماً إلى الشاطئ، ولكن بعدما تركت أسماك القرش غنيمته مجرد هيكل عظمي مربوط إلى الزورق.
وتتميز هذه التحفة الأدبية عن باقي أعمال همنغواي بشاعريتها وجنوج الخيال فيها حتى اللا معقول. وهذا ماشكَّل مفاجأة بالنسبة إلى قرائه آنذاك لأنهم ألِفوا فيه كاتباً ينفر من المتخيل والوعظ ويسعى إلى أكبر حد من الالتزام بالواقع. أما في الشيخ والبحر فيجد القارئ نفسه فيما يشبه الأرجوحة بين أرق العواطف والأحاسيس الإنسانية من جهة وضراوة الصراع المتوحش من جهة أخرى. وهذا ما رفع هذه القصة إلى مستوى أرقى ما كُتب في الأدب العالمي خلال القرن العشرين.
والسينما تصور
صورت السينما «موبي ديك» عام 1956م، ولاحقاً «الشيخ والبحر» حيث قام الممثل المعروف أنطوني كوين بدور سانتياغو. وكذلك صورت عدة مرات رواية «20 ألف فرسخ تحت الماء» لجول فيرن التي تكاد تكون وملحقاتها المتعلقة بـ «الكابتن نيمو» أكثر الروايات البحرية تقديماً في السينما. وما من موسم سينمائي تقريباً يخلو من فلم بحري، بدءاً بحكاية سفينة «تيتانيك» التي أخرجها جيمس كاميرون عام 1997م وحظيت بشهرة عالمية، بعدما كانت قد صورت للسينما أكثر من 12 مرة سابقاً، وصولاً إلى قراصنة الكاراييب الذي ظهر منه جزءان من بطولة جوني ديب، وحصدا نجاحاً لافتاً أيضاً.
فالجمهور يحب أفلام المطاردات بين السفن «مطاردة أكتوبر الحمراء»، و«بورا بورا»، ويحب مغامرات القراصنة كما في «مغامرات البارون مونكهاوزن»، ويحب ثورة البحارة ضد سادتهم المتغطرسين مثل رائعة أيزنشتاين «الدارعة بوتمكين» والفلمين اللذين يرويان «العصيان على السفينة باونتي». ناهيك بجاذبية الأفلام الوثائقية عن عالم البحار والحياة في أعماقها.
ولا يختلف الأمر كثيراً في السينما العربية، فالفلم الكويتي الأول هو «بس يا بحر» (راجع الإطار). وحين أرادت السينما السورية أن تقتبس من الأدب التفتت أول ما التفتت إلى روايات حنا مينا البحرية «البازرلي»، «الشراع والعاصفة». إضافة إلى النجاحات اللافتة التي حققتها في السينما المصرية أفلام اسكندرانية وغيرها من الأفلام البحرية مثل «صراع في الميناء» و«حميدو» وغيرهما..
الحاضر دائماً في الفن
في الثالث من فبراير من العام 1598م، علِق حوت ضخم على شاطئ مدينة شيفينينغن الهولندية. وكان من ضمن الذين هرعوا إلى مشاهدته صاحب مطبعة يدعى هندريك غولتزيوس، الذي سارع إلى رسم مشهد الحوت، وطبعه بواسطة الحفر، وتوزيع الصورة على الفضوليين. فكان ذلك المشهد البحري الخالص الأول الذي يُرسم، والصورة الصحافية الأولى في التاريخ.
فصحيح أن البحر ظهر في اللوحات الإيطالية منذ مطلع القرن الخامس عشر. ولكنه ظل كخلفية في لوحات ذات موضوعات دينية. ولم يتحول إلى موضوع بحد ذاته إلا على أيدي الأساتذة الهولنديين منذ مطلع القرن السابع عشر. وفي نهاية القرن نفسه وبدايات القرن التالي، ظهرت بتأثير من الهولندي فان دي فيلديز مدرسة للرسم البحري في إنجلترا سرعان ما طغت على كل ما عداها من مدارس ازدهاراً وإنتاجاً.
وفي عصر سيادة بريطانيا على البحار، راح الرسامون الإنجليز يرسمون السفن والأساطيل وصوراً شخصية للأميرات والقادة. وتميزت هذه الصور بأمانتها الشديدة للواقع ودقتها في رسم التفاصيل، وكأن مهمتها كانت وثائقية بحتة. ومن الأسماء التي لمعت في هذا المجال نذكر دومينيك سيريس ونيكولاس بوكوك. ولكن أسماء كبيرة جداً في القرن الثامن عشر انضمت إلى رسامي المشاهد البحرية حتى شملت العملاقين جواشو رينولدز وجورج رومني.
وبشكل عام، كان ملوك أوروبا بأسرهم يطلبون من الرسامين لوحات تمثل أساطيلهم وانتصاراتهم البحرية. وبعد تراجع هذه الفئة من الزبائن استمر حضور البحر في اللوحة لألف سبب وسبب وصولاً إلى الاحتجاج على إهمال الدولة كما هو حال واحدة من أشهر لوحات المدرسة الرومنطيقية «الناجون من الميدوزا» التي رسمها الفرنسي تيودور جيريكو لإثارة الرأي العام ضد الحكومة التي تقاعست في بحثها عن الناجين من غرق إحدى البواخر. ومقابل ذلك، وبعد الرومنطيقية بقليل نجد الرسام أوجين بودان أحد مؤسسي الانطباعية يتردد أمام الإقامة في باريس للعمل كأحد كبار أساتذتها في فن الرسم، ويفضل على ذلك البقاء عند شاطئ بلدة تروفيل حيث كان يرسم البحر والأشرعة والمتنزهين، فترك لنا عشرات اللوحات في هذا المجال.
وحتى في القرن العشرين، لعبت اللوحات البحرية دوراً مفصلياً في تاريخ الفن. فقد كان الرسام الفرنسي هنري ماتيس ذا نظرية تأخذ على الرسم الكلاسيكي هوسه بالبعد الثالث الذي يشتت الانتباه عن اللون والخط. وارتأى ذات مرة في العام 1950م أن يجري تجربة ليس من خلال الرسم، بل من خلال قص الورق الملون وإلصاقه على اللوحة ليرى النتيجة. واختار الرسام موضوعاً هو «حيوانات البحر» (les bêtes de la mer)، وراح يقص الورق الملون على أشكال مستوحاة من الطحالب ونجوم البحر والأسماك والأصداف. فكانت النتيجة فتحاً جديداً في تاريخ الفن، وتأسيساً لمذهب فني جديد يعتمد «لصق الورق»، فانتهت لوحته التجريبية في متحف الناشيونال غاليري في واشنطن.
أسطورة أطلنتيس
استناداً إلى أفلاطون اليوناني، كانت هناك دولة ذات قوة بحرية كبيرة تدعى أطلنتيس، غزت قسماً كبيراً من غربي أوروبا وشمال إفريقيا قبل 9000 سنة من عهد صولون أي حوالي العام 9600 ق.م. ولكن هذه الحضارة العظيمة غرقت في البحر في «يوم وليلة من سوء الحظ» لم يكن هناك من تحدث عن هذه الحضارة غير أفلاطون. وكل حديث عنها لا يجد مصدراً غير ما قاله هذا الفيلسوف اليوناني. وخلال العصور القديمة نوقشت مسألة أطلنتيس ووجودها، غير أنها عادت ودخلت طي النسيان، حتى أعيد نبش ملفها في القرنين الماضيين.
رجَّح البعض أن يكون موقع هذه الحضارة في إحدى جزر بحر إيجه، وأن انفجاراً بركانياً وموجة تسونامي أغرقا الجزيرة. ورجح البعض أن يكون موقعها في مكان ما من المحيط الأطلسي، نظراً للتشابه ما بين الاسمين.. وعلى الرغم من بعض الجهود «العلمية» التي بذلت لاكتشافها، فإنها لا تزال حتى يومنا هذا لغزاً أو أسطورة من دون أساس، أو ذات أساس صغير ومختلف عن المحكي عنها. ولكن ديمومة هذه الأسطورة، ومساعي الكثيرين إلى التأكد من صحتها، تكشف رغبة ربما كانت هي نفسها الرغبة وراء ظهورها: تخيل حضارة كاملة وكبيرة حيث يستحيل بناء غرفة واحدة.. تحت سطح البحر.
بس يا بحر
هو عنوان فلم سينمائي كويتي أخرجه خالد الصديق، سنة 1972م. وهو ينظر نظرة غنية إلى البحر، فهو مصدر السمك واللؤلؤ وكثير من الخير، لكنه أيضاً مخيف يُزهق الأرواح، ومنها روح مساعد، الفتى صياد اللؤلؤ. ومع هذه النظرة الوجودية إلى البحر، إلا أن الفلم يغوص في بعض أسرار مهنة الغطس، وأسلوب الغطاسين. وقد حفل بكثير من أغاني الصيادين وضرب طبولهم. وفيه زفة عروس تقليدية، وبعض التقاليد الشعبية المتعلقة بالبحر، مثل إغراق هرّة فيه تسكيناً لغضب أمواجه. والمهم في هذا الفلم، أنه يبين بجدلية فنية، تلك المشاعر المختلطة حيال البحر. فهو مصدر الخير، إلا أن التجارب معه لا تخلو من المآسي.
البحر في الشعر..
خمس نقاط من بحر
نظراً لاستحالة حصر بحر القصائد التي قيلت في البحر في مختلف «بحور» الشعر، طلبت القافلة إلى الشاعر شوقي بزيع أن يختار خمس قصائد فقط من أفضل ما يعبِّر عن تفاعل الشعراء مع البحر. فاختار هذه النماذج الخمسة، وهي على التوالي للشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي حوَّل ديوانه الفريد «منارات» إلى عمل ملحمي غني بالصور والمفارقات ورأى في البحر انعكاساً لبحر الداخل الإنساني الذي لا حدود لتلاطمه، والشاعر الإسباني غارسيا لوركا الذي قارب البحر من خلال أسلوبه الحواري الشفاف والآسر والمفتوح على أسطرة الواقع المعيش، ومحمود درويش الذي احتفى بالبحر في الكثير من قصائده لكنه بعد خروج الفلسطينيين من بيروت رأى فيه وجهاً آخر من وجوه التشرد والمنفى، ونزار قباني الذي رأى في البحر وجهاً من وجوه ذكوريته الطاغية، وسعدي يوسف الذي يخاطب البحر بلغة المناشدة والرجاء وطلب المساعدة لاستعادة روح التمرد وألف الحياة المفقود.
يا بحر كلَِّ عمرٍ وكل اسم
أيها البحر الرحمّي لأحلامنا
والمسكون بالحلم الحق
أيها الجرح المنفتح في خاصرتنا
يا جوقة عتيقةً على بابنا
أنت الهجوم وأنت الألف
أنت الجنون كله والرغد كله
وأنت الحب وأنت الحقد الرحيم الجبار
من كل شيء نتعلم وفي كل شيء تصمت
في كل شيء تنهض ضد طعم الدموع
هل أنت أيها الهائم من سيسلّمنا هذا إلى شواطىء الواقع؟
(سان جون بيرس)
البحر يبتسم من على بعد
أسنان من زبد وشفاه من سماء
ماذا تبيعين أيتها الفتاة الماكرة وحضنك للهواء؟
أبيع أيها السيد ماء البحر
ماذا تحمل أيها الفتى الأسود ممزوجاً بدمك؟
أحمل أيها السيد ماء البحار
هذه الدموع الأجاج، من أين تأتي يا أماه
من بكاء ماء البحار
وهذه المرارة أيها القلب من أين تولد؟
من علقم ماء البحار
والبحر يبتسم من على بعد
أسنانٌ من زبد وشفاه من سماء
(فيديريكو غارسيا لوركا)
وسلاماً أيها البحر المريض
أيها البحر الذي أبحر من صور إلى إسبانيا
فوق السفن
أيها البحر الذي يسقط منا كالمدنْ
ألفْ شباكٍ على تابوتك الكحلي مفتوحٌ
ولا أبصر فيها شاعراً تسنده الفكرةُ،
أو ترفعه المرأةُ،
يا بحر البدايات إلى أين تعود؟
أيها البحر المحاصرْ
بين إسبانيا وصورْ
ها هي الأرض تدورْ
فلماذا لا تعود الآن من حيث أتيت؟
(محمود درويش)
كلما شمَّ البحر رائحة جسمك الحليبي
صهل كحصانٍ أزرق
وشاركني الصهيل
هكذا خلقني الله….
رجلاً على صورة بحر
بحراً على صورة رجل
فلا تناقشيني بمنطق زارعي العنب والحنطة
ودكاترة الطب النفسي
بل ناقشيني بمنطق البحر
حيث الأزرق يلغي الأزرق
والأشرعة تلغي الأفق
والقصيدة تلغي ورقة الكتابة
(نزار قباني)
يا بحر من بستانك الصدفي امنحني محارةْ
مرجانةً، شيئاً من الأعماق لوناً غير لؤلؤتي المحارةْ
يا بحر أغرقْني وأغرقْني
أكن للشوق شارةْ
هبْني ولو لمحاً من الرؤيا
خذ كلَّ ما أعطتنيَ الدنيا
اجعله قبراً لي واسدلْ فوقه حبي ستارةْ
أمس ارتجيتك أن تردَّ إلى تمرّدي اخضرارهْ
أن تغسل الأسماءَ
تمنحها الحقيقة والنضارةْ
يا بحرنا الأزليَّ إن تهنا فضيَّعناك حينا
فلأن شيئاً مات فينا…
يا بحر جئنا مرة أخرى فلا تكن الضنينا
(سعدي يوسف)
البحر في الأغنية
جمع الجَمال إلى الرهبة والأمل إلى الحزن
حظي البحر بكل ما فيه من عظمة وغموض ووعود بنصيب جيد من الأغاني والألحان في كل ثقافات العالم. ولو بدأنا بتناول بعض المعاني البحرية في الأغنية العربية للاحظنا أن السفر أو الهجرة من أبرزها. فقد غنَّى سيد درويش طقطوقة في تفضيله العيش في مصر على الهجرة بالوابور إلى أمريكا، وهي أغنية «سالمة يا سلامة» الشهيرة التي يقول فيها:
«صفَّر يا وابور واربط عندك
نزلني في البلد دي
بلا أمريكا بلا أوروبا
ما فيش أحسن من بلدي».
أما في الغناء اللبناني فقد كان البحر موضوعاً مشتركاً بين كل الأغنيات التي تتحدث عن هجرة اللبنانيين في حقبات شتى من القرن العشرين، وأشهرها للمطربة صباح في موالها الشهير «واقفة عالبحر بكاني السفر»، وأغنية كانت واسعة الانتشار في مطلع الخمسينيات للمطرب اللبناني القديم فؤاد زيدان ومطلعها:
عالشط قلبي راح مني وراء الأحباب
لما حبيبي بعد عني والمركب غاب
وعلى شاطئ بحر الهجرة نفسه وقف وديع الصافي في وداع الأحباب معاتباً صخرة الميناء في أغنيته الجميلة:
يا صخرة المينا لا تشمتي فينا
ياما على اعتابك بكيو حبايبنا بكيو أهالينا
وببلاغة عبَّر البعض عن مهابة البحر وأهواله، مثل محمد عبدالوهاب في مواله الشهير: «في البحر لم فتّكم في البر فتّوني». فالمخلص هو الذي لا يتخلى عن الحبيب في البحر على هوله، أما الآخر فقد تخلَّى في البر حيث لا أهوال.
وتوقف مغنون أمام حجم البحر الذي لا يقاس، مثل فيروز التي تغني:
شايف البحر شو كبير
قد البحر بحبك
أو غناء صباح:
قد البحر وموجاته
والطير وغنياته
وحرقة قلبي ونهداته
هالقد بحبك هالقد
واستمد آخرون من البحر عناصره الجمالية وأبرزها زرقته. كما هو الحال في قصيدة نزار قباني التي يغنيها عبدالحليم حافظ:
الموج الأزرق في عينيك
يناديني نحو الأعماق
وأنا ما عندي تجربة في الحب
ولا عندي زورق.
غناء بحارة الخليج
وحين يكون موضوع الغناء هو البحر فلا يجوز إغفال غناء بحارة الخليج، الذين يختزنون في غنائهم تراث الغطاسين الباحثين عن اللؤلؤ، وهو تراث يزيد عمراً على مئات السنين. وفي أغاني البحر في الخليج، كتب الباحث الموسيقي الكويتي خالد علي سيد حميد أطروحة دكتوراة، سنة 2005م، عنوانها: «الخصائص الفنية لبعض أغاني البحر بدولة الكويت». وقد استعرض حميد في أطروحته عدداً من أغنيات البحر، ظهر فيها أن الدور الذي يلعبه البحر في وجدان البحارة في الخليج، أشبه بدوره في معظم أغنيات البحر العربية الأخرى. فهو محط مشاعر رومانسية ومحرك عواطف الحب، مثلما يتضح في أغنيات: يا زين روض الوفا، أو نظرة الوجه الحسين، أو عيني على اللي، أو غزال الروم. وهو أيضاً الطريق إلى فرقة أليمة، مثلما تقول أغنية: ما أقوى على الفرقة. لكن في أغنيات البحر هذه معاني أخرى، كالتعاون في أغنية: مدّوا السواعد، نظراً للأهمية التي يمثلها تعاون البحارة على مواجهة صعاب الإبحار والغوص ومخاطرهما.
وفي الموسيقى الأوروبية
ومن أشهر من كتبوا عملاً موسيقياً مباشراً من وحي البحر في الغرب، المؤلف الموسيقي الفرنسي كلود دوبوسي (1862 – 1918م)، الذي ألف عندما كان في مراحل نضجه الموسيقي، قصيداً سمفونياً سمّاه «البحر». وكان دوبوسي آنذاك قد رسّخ أسلوبه الجديد الخاص في التأليف الموسيقي، فأطلق عليه النقاد اسم «الانطباعية الموسيقية»، وذلك تمشياً مع موجة الفن الانطباعي، الذي كان يسود في تلك المرحلة في مجال الفن التشكيلي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا على الأخص.
أما المؤلَّف الثاني الهام من وحي البحر، في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، فقد وضعه الموسيقار الروسي الشهير رمسكي – كورساكوف (1844-1908م)، وذلك في عمله الموسيقي الأشهر «شهرزاد». وموضوع شهرزاد مأخوذ أساساً من حكايات «ألف ليلة وليلة»، وحصة البحر في هذا العمل الموسيقي الشهير توزعت على الحركة الأولى، وعنوانها «البحر وسفينة سندباد»، ثم الحركة الرابعة التي حملت عنوانين، الثاني منهما: «البحر، غرق السفينة على الصخور». وقد أبدع كورساكوف بموهبته الموسيقية الفذة، وبراعته المشهودة في التوزيع الأوركسترالي الباذخ، بتصوير البحر في الحركتين، بمختلف حالاته المتفاوتة بين أقصى الهدوء، وأقصى الهيجان.
وفي الغرب كما في الخليج العربي وأينما كان في العالم، فللبحارة أغانيهم الخاصة المميزة إيقاعاً ومضموناً، وظلت تؤدَّى حتى ظهور السفن الحديثة التي بددت الكثير من القلق القديم، وباتت تتطلب مجهوداً جسمانياً أقل، وتوفِّر لبحارتها مصادر تسلية مختلفة.
القرصنة
لفتت أعمال القرصنة التي تكاثرت قبالة الساحل الصومالي مؤخراً، انتباه العالم الذي يبدو وكأنه يستفيق مندهشاً من «انبعاث» هذه الظاهرة التي طالما أقلقت البحارة والمبحرين طوال التاريخ وروَّعتهم، الأمر الذي يدعونا إلى التوقف أمامها بقدر ما يسمح به المجال من التفصيل.
فقد نشأت القرصنة بنشوء الملاحة البحرية. والمؤكد بالوثائق أنها مورست منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد في بحر إيجة والبحر المتوسط. مارسها الإغريق والفينيقيون خلال رحلاتهم التجارية، فكانوا يستهدفون الأطفال والفتية لبيعهم في أسواق العبيد. ومنذ تلك الأزمنة لم تغب القرصنة عن بحار العالم، حتى بات لكل مجتمع أبطاله وضحاياه في هذا المجال.
تزدهر القرصنة بازدهار حركة الملاحة البحرية، ولذا بلغت ذروتها ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وعمَّت كل بحار العالم من دون استثناء. فكان لكل بحر قراصنته الذين يغيرون على السفن وينهبونها وأحياناً على البلدات الساحلية، حتى أن بعضهم أسس «جمهوريات» مثل جمهورية «زابوريزيان» في شرقي أوروبا التي أسسها قراصنة يطلقون على أنفسهم اسم «قوزاق»، ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.
ولكن قبل تلك الفترة كان «الفايكنغ» أبطال القرصنة ما بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر الميلادي. فروعوا بحار شمال أوروبا وشمال إفريقيا توغلاً في المتوسط حتى إيطاليا. ومنذ أواسط القرن التاسع، كان القراصنة العرب الذين اتخذوا من جنوب فرنسا والساحل الإيطالي مقراً لهم يغيرون على كل البحر المتوسط، حتى أنهم دخلوا روما ونهبوها في العام 846م. كما اتخذ بعضهم من جزيرة كريت مقراً لهم ما بين العامين 824 و961م.
الصين، الهند، الفلبين، جزر المحيط الهادي، إندونيسيا. كلها عانت من القرصنة التي كانت تنشط وتخفت ولكنها لم تختفِ يوماً عن بحارها. غير أن الذاكرة الشعبية في معظم أنحاء العالم تربط القرصنة بعصرها الكلاسيكي أي ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، وبشكل خاص قراصنة البحر الكاراييبي الذين ارتقى بعضهم إلى مصاف أبطال الروايات وحكايات الأطفال.
وللدلالة على حجم صناعة القرصنة، نذكر ما يقوله المؤرخ روبرت دايفيس بشأن القراصنة البربر الذين نشطوا في غربي المتوسط طوال العصر الكلاسيكي، أي ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، إذ يقدر أن هؤلاء تمكنوا خلال تلك الفترة من أسر ما بين مليون ومليون ونصف المليون أوروبي وبيعهم في أسواق العبيد في شمال إفريقيا وأنحاء السلطنة العثمانية. واستطراداً نشير إلى أن ما يقدر بأربعين في المئة من قراصنة الكاراييبي في الفترة الكلاسيكية كانوا من العبيد الذين تم أسرهم على أيدي القراصنة، فانضموا إليهم تخلصاً من جور أسيادهم.
القرصنة اليوم
لم تختف القرصنة قط حتى قبل نشاطها قبالة السواحل الصومالية. إذ بقيت موجودة في جزر شرقي آسيا والمحيط الهادئ، حيث كانت (وربما لا تزال) تستهدف يخوت الأثرياء إما للنهب أو للاحتجاز وطلب فدية. كما ظهر نوع جديد من القرصنة يقضي باحتلال سفينة وإخلائها من طاقمها وتحويلها بسرعة إلى أحد الموانئ لطليها وتغيير هويتها بالتعاون مع بعض المسؤولين الفاسدين.
وحيثما عصفت الفوضى الأمنية لسبب ما في مكان ما، يمكن للقرصنة أن تظهر فجأة. وهذا ما حصل خلال انسحاب الأمريكيين من فيتنام، إذ نشط قراصنة تايلند في اعتراض زوارق النازحين الفيتناميين لنهبهم وقتلهم واستعباد بعضهم.
ويقدر «مكتب الملاحة الدولي» عدد أعمال القرصنة في العام 2006م بنحو 239 عملية. وقد ارتفع هذا العدد بنسبة 10 في المئة في العام 2007م. كما أن العمليات المسلحة ارتفعت بنسبة 35 في المئة.
ويقول المحللون إن نهاية الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي أدت إلى تضاؤل الدوريات البحرية. ومن جهة أخرى انتعشت التجارة العالمية والنقل البحري بفعل معاهدة التجارة الدولية والرخاء الاقتصادي (الذي سبق الأزمة الحالية)، وهذا ما خلق الظروف المثالية لانتعاش القرصنة مجدداً.
الواقع والخيال
ألهبت القرصنة خيال الأدباء والفنانين الذين صاغوا لهؤلاء صوراً متخيلة بعيدة جداً عن الواقع. فصورة القرصان الذي يقتل من دون شفقة غير دقيقة تماماً. لأن غالبية القراصنة كانوا يعفون عن ضحاياهم إذا سلموا أموالهم وأمتعتهم من دون مقاومة، فيما يشبه التقليد الهادف إلى تشجيع المبحرين على عدم مقاومتهم.
كما أن صورة القرصان الغارق في الكنوز وصناديق المجوهرات غير دقيقة بدورها. إذ ان معظم هؤلاء كان يتغذى لأيام ولأسابيع على الموز والحمضيات.
وإظهار عالم القراصنة على أنه مجرد فوضى عارمة غير صحيح على الإطلاق. فقد نظَّمت هذه المجتمعات الصغيرة نفسها وفق تراتبية وأسس لا يتردد المحللون بوصفها «ديمقراطية»، تحقق نسبة من العدل والمساواة بين أفرادها أكبر مما كان سائداً في المجتمعات المستقرة. كما كانت لهم صناديق تعويضات سخية لمن يصاب بجروح في المعركة أو يفقد بعض أعضائه.
حتى علم القراصنة (جمجمة وسيفان متقاطعين على قماش أسود) المسمى «جولي روجر» لم يكن علماً عاماً كما توهمنا السينما، بل اقتصر استعماله على الأرجح على القرصان كاليكو جاك راكهام في القرن الثامن عشر الميلادي.
بحارة في
مصاف عظماء التاريخ
عندما نقارن أثر المنجزات الفردية على مسار التاريخ، يحتل البحارة مكانة متقدمة جداً، إن لم تكن الأولى.
فمن البحارة عظماء لا يمكن قياس فضلهم على الحضارة الإنسانية. منهم ماركو بولو (1245 – 1324م)، الذي كان صلة الوصل الأولى ما بين أوروبا الحديثة والصين وعرَّف الثقافتين على بعضهما. ومنهم أيضاً فرديناند ماجيلان (1480 – 1521م) أول من دار حول العالم وأثبت كروية الأرض (رغم مقتله في منتصف الطريق). والعالم بأسره يعرف كريستوف كولومبوس (1451 – 1506م) مكتشف أمريكا.
ولا يجوز في هذا الإطار إغفال اسم ابن ماجد، البحار العربي العُماني، الذي تُوفي عام 1489م، وكتب نحو أربعين كتاباً في علم البحار والإبحار.