في عالم الروائيين العرب، هناك حفنة منهم ممن زرعوا البهجة في قلوب القرَّاء بحنينهم الجارف إلى الريف وبساطته، فأضفى هذا الحنين على كتاباتهم لمسة تكاد تجمعهم في مدرسة روائية مستقلة.
هشام بن الشاوي يقرأ لنا رواية الأديب المصري محمد البساطي جوع التي كانت قد وصلت إلى القائمة القصيرة للروايات المرشحة لنيل جائزة بوكر (Booker) العربية.
في رواية «جوع»، يعود محمد البساطي إلى بئره الأول، القرية، مستودع الحكايا الآسرة، منحازاً إلى عالمها الأثير، عالم الهوامش البشرية.. راصداً معاناة أسرة مصرية بعيداً عن الكتابة الميلودرامية.
يكتب البساطي برهافة سردية عن عالم قاسٍ هو عالم الجوع، وعن البطش وقسوة الفوارق الاجتماعية.. يكتب عن جوع أسرة إلى الخبز وحاجتها إليه وإلى المعرفة والحب والأمان. والمتابع لكتابات الأستاذ محمد البساطي سيلاحظ بأن المكان في أعماله الإبداعية ليس مجرد خلفية أو ديكور، وإنما «شخصية روائية» رئيسة وفاعلة.
المكان وأبطاله
تبدأ الرواية بالآية القرآنية: «ادخلوها بسلام آمنين»، التي تزيِّن عادة البيوت الريفية في مصر بعد عودة أصحابها من الحج. وهي هنا لا تزال تزيِّن باباً من الخشب السميك.. «اللون مازال زاهياً، والكلمات رغم السنين مكتملة الأطراف. الولد الصغير في البيت كان يرعاها. هو لا يفك الخط، إنما أعجبه شكلها. منذ تفتحت عيناه على الدنيا يراها كلما هم بدخول البيت. كان يتسلق الباب لينظفها من الغبار ويغسلها بخرقة».
وبعدسة سردية محايدة، يصف الكاتب بؤس المكان من الداخل، بأقل الكلام. وليكسر هيمنة السارد العارف بكل شيء، ولينوع زوايا الرؤية، لجأ البساطي إلى تقسيم السرد إلى ثلاثة مشاهد-حركات: من وجهة نظر الزوج زغلول، ووجهة نظر الزوجة سكينة وأخيراً الابن الأكبر زاهر.
جوع وترقب الفرج
نرى الأسرة التي تستيقظ فجراً، وهي تتضور جوعاً.. سكينة تجلس على المصطبة والصغير رجب ينام على ساقها. ينتظران بزوغ الشمس، طلوع النهار، (معادل جمالي وموضوعي لانتظار الفرج والأمل في يوم جديد…)، لكي تذهب عند إحدى جاراتها تستلف رغيف الخبز. وزغلول «يسلِّك أسنانه» لينبهها إلى ضرورة البحث عما يسد الرمق.
ومن خلال تدفق السرد نعرف بأن زوجها كسول «يعمل يوماً ويبطل عشرة». تماماً مثل شخصية الأب في رواية «لحس العتب» لخيري شلبي.. ورغم الفاقة يهوى زغلول السهر في «المعزى»، يساعد في جمع الكراسي ويتطوع لحمل أفرشة العرسان.
وتتذكر سكينة حادثة تحطم (الدولاب)، والذي اعتبره العريس المتطير فألاً غير حسن. ولا ينسى الكاتب اقتناص بعض الحوادث الطريفة، فبعد أن امتنع الحمالون الأربعة عن حمل (الدولاب) خشية أن يتحطم وتتكرر المأساة، تطوع زغلول لحمله بعد أن خلع جلبابه، وسرواله ممزق من الخلف. حاولت زوجته تنبيهه والبعض يداري ابتسامته، فابتعدت غارقة في خجلها.. ولا يبدو على زغلول التعب والتوجع إلا حين يعود إلى البيت، تسأله سكينة عن الأجرة:
«- وعلى كده قبضت حاجة؟
– أستغفر الله. ثواب يا ولية. ثواب.
– ثواب؟ يعنى مافيش حاجة؟
– حاجة إيه يا ولية. بقول لك ثواب.
– وأولادك برضه ثواب.
– ولادي؟ مالهم ولادي يا بنت الـ…».
رغم أن الزوج يجيد عدة مهن هامشية، فإنه لا يستقر في عمله. يغادر المقهى، بعد أن يشتمه أحد الزبائن أو صاحب المقهى. وبوصول بعض الطلبة إلى القرية في الأجازة سيعجب بأحاديثهم، ويتبعهم منصتاً إليهم. إنه الفلاح الساذج الأمي الذي يذهب إلى لقاء الشيخ رضوان أستاذ الفقه والشريعة بالجامعة، وصاحب محل القماش ومشاريع أخرى، والذي يمثل قلة مرفهة ترفل في النعيم… لكن زغلولاً رغم فقره المدقع يتمتع بنقاء داخلي، لا يحقد على أحد ولا يفكر في التكسب بطريقة غير مشروعة.. إنه يبحث فقط عن إجابات لأسئلة تؤرقه تتعلق بالإيمان لدى الشيخ رضوان.. يتحدث ساهياً وهو ينبش الأرض بعود قش، (إشارة إلى نبش المسكوت عنه)، ولم يحس إلا والشيخ يفاجئه برفسة، والكثيرون يتطوعون للمشاركة في حفلة الضرب.
«جذبه الشيخ وكفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة فى ضوء الشمس، وهمست المرأة المليحة وكانت تقف بباب المحل:
– ذهب عيار 24. لمعته. أعرفه ولو على بعد مترين».
بمهارة قناص، يشير محمد البساطي إلى الكف الممتلئة والخاتم الذهبي الذي يلمع، ثم الصدر الأعجف والجلباب البالي. ولم يهتم زغلول بالضرب والألم. فقط كان يصيح منبهاً إلى أن جلبابه سيتقطع… ويغادر المكان رافضاً بكبرياء وأنفة قطعة الثوب.
وحين رأى الحاج عبدالرحيم -والاسم غني بالدلالات- وهو يكاد يقع من فوق البغل بسبب سمنته الشديدة ساعده، رأى في الواقع فرصة لأمل يشرق على حياته… ويشترك الحاج عبدالرحيم مع خديجة، التي تمتهن دق الطبول، في إحساسهما الحاد بالوحدة وحاجتهما إلى البوح، ويتميز عنها بطفولة قلبه وعفويته اللتين تفيضان عند وقوفهما بجوار شجرة التوت:
«- التوت .آخر مرة أكلته كان عمري عشر سنين.
قفز زغلول وتسلق ساق الشجرة، وصاح الحاج:
– طب خد منديل.
أخذ زغلول المنديل منه وعاد للصعود، راح يتنقل في خفة بين الفروع والحاج يرقبه والضحك على وجهه، رجع زغلول بالمنديل ممتلئاً، ورفعه مفتوحاً إلى الحاج الذي قال:
– آكل النص. وأنت النص.
– تاكله كله. أنا ياما كلت منه.
– طيب. أسيب لك حبتين بس.
كان يضحك ويهز قدميه مغتبطاً، وبعد أن انتهى قال:
– ارم المنديل. بقع التوت. لو شافته العجوز موش حانخلص من لسانها».
المشهد الثاني..
سكينة وديون الرغيف
عند موت الحاج عبدالرحيم، تمنع العجوز زغلول من رؤيته. تعود الأسرة إلى الجوع والحرمان، ويبدأ المشهد الثاني. ينطلق هذا المشهد من نفس اللقطة الانتظارية. فيتعرف القارئ على سكينة التي تتحمل أعباء أسرتها المهمومة بديون الرغيف. ها هي تراقب البيت الكبير وتهفو إلى دخوله، وتذكرنا معاناتها بالرواية الفاتنة لمحمد البساطي «فردوس» (هذه الرواية التي تتناص مع رواية «امتداح الخالة»، وفي ترجمة أخرى: «في مديح زوجة الأب» للبيروفي ماريو بارغاس يوسا)، تلك المرأة الجميلة التي تكابد في صمت… لكن معاناتها لم تكن الجوع والفقر وإنما الحرمان العاطفي، بعد أن احتكرت ضرتها القبيحة الزوج، وهي التي تفتن كل الأهالي بأناقتها وجمالها، ولكن زوجها هجرها لأنها لم تنجب بعد سنوات خمس من الزواج.
كانت سكينة (اسمها يشي باستسلامها وقدريتها)، تتوق إلى دخول البيت الكبير. وحين أفلحت في اقتحامه، وقع غطاء المصباح الزجاجي أرضاً، وهي تساعد الخادمتين في حمل (البوفيه). لم تهتم بالدم النازف من إصبعها، وفوجئت وهي ترمي شظايا الزجاج بجوار الحائط في الخارج بالباب يغلق، ونظرت غير فاهمة قائلة: «مفيش وراهم غير قفل الباب».
وفي معزى البيت الكبير بعد وفاة السيدة، تطوع زغلول للخدمة، وطلبت منه السيدة وداد أن يبلغ رسالة شفوية همساً إلى رجل كان خطيبها. ولما اعترض زغلول على طلب الرجل منه نقل كلام إليها وطلب منه أن يبلغها كلامه بنفسه، فاجأه الرجل المحترم بصفعة وغادر. أما سكينة فقد عاملتها الخادمتان كما لو كانتا من أصحاب البيت، تقوم بكل أشغالهما، وهما تستمعان إلى الأغاني وتأكلان متقمصتين دور «السيدة».
تنتقل سكينة مع أسرتها لتعيش في البيت الكبير. لأن الحاج هاشم، كان يحتاج إلى من يرعاه بعد رحيل الزوجة وإحساسه بالوحدة. وتنعم أسرتها بأكل وفراش نظيف… ومثلما انتهى المشهد الأول بموت السيد، وقبل أن يغادرا البيت، تقول سكينة لزغلول بعد تفكير: «كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج».
الانتظار أيضاً للبدء
بتجربة الابن زاهر
وتعود كاميرا السرد إلى وضعية الأسرة نفسها وهي تنتظر طلوع النهار على المصطبة، يبدأ (فلاش باك) آخر مع تجربة الابن زاهر، والأم تتحسر على أيام البيت الكبير والإهمال الذي طاله بعد رحيل أصحابه.
زاهر سيرث الفقر، الجهل وهموم البحث عن لقمة عيش… فبعد عجز سكينة عن سداد الدين ها هي ترسله إلى فرن عباس لإحضار «العيش الميري». وفي أول زيارة للفرن، طلب عبده الفران من زاهر أن يكنس الفرن ثم يأخذ ما يريد من كسر الخبز المعوجة أو التي احترق جانب منها. فيملأ حجر جلبابه بالأرغفة ويهرول بها في اتجاه البيت. وبسبب العيش الذي يعطيه عبده الفران للنسوة المعدمات، يعنفه المعلم عباس صاحب الفرن. فيقرر عبده الفران أن يغادر القرية.. أما صديقه عبدالله فكان يدلي له الطعام من فوق السطح.. لكن زاهراً لم يكن يعلن عن بهجته بالأكل، مثلما يفعل سعد في «فردوس»، حين يعثر على الطعام في بيت زوجة أبيه فردوس، بعد أن صارت أخواته يلتهمن نصيبه من الطعام في الليل.. فيتسلل إلى بيتها، وتفلت منه الصيحة حين يعثر على الطعام:
– «مهلبية يا خالة.مهلبية. وثلاثة أطباق. يا قوة الله».
ويجهز على أكلها الذي تخزنه لليوم التالي، حتى تستريح من الطبخ.. وزاهر يكتفي بوضع ما يعطيه صديقه عبدالله في جيبه، ويتلمسها بيده وهو في الطريق، ولا يأكله إلا بعد ابتعاده، بيد أن والد صديقه حين يرى زاهراً يعنفه ويصفعه أمام أهل الحارة، ويحذره من الاقتراب من البيت، وهو ما يعتبر أقسى نوع من الإقصاء الاجتماعي. وتتكرر مأساة امتهان الكرامة، ويتمزق جلباب زاهر بسهولة، ويطلب إحضار جلباب له:
«رماه الأب على كتف زاهر:
– خد. بدل الخرقة اللي انت لابسها.
وتراجع خطوتين ونفض جلبابه. وكان يتأهب للعودة حين رمى زاهر الجلباب على الأرض وابتعد، ولاحقه صوت الأب:
– شوفوا ابن …».
وتتضاعف خسارة زاهر.. يفقد الأمل بفقدانه عبده الفران وصديقه عبدالله دفعة واحدة، مثلما حدث لوالده وأمه برحيل الحاج عبدالرحيم والحاج هاشم.. ويختم السارد روايته بتسليط عدسته السردية على سكينة في وضعيتها نفسها، فوق المصطبة، وأشعة الشمس تلوح في الأفق والندى بدأ يجف، وزاهر يتجنب النظر ناحيتها، حتى لا تطلب منه إحضار العيش من الفرن بعد رحيل عبده الفران. وزغلول يمص عود القش، والصغير في حضنها.
الماضي والحاضر
متعاقبان كالليل والنهار
«جوع» رواية تنحاز إلى عالم الهوامش البشرية، وترصد ما تكابده الطبقات المسحوقة من امتهان لكرامتها وآدميتها في سبيل الحصول على لقمة العيش في مجتمع قمعي طبقي وظالم.. ولأن الكاتب غير مولع بلعبة الشكل، على غرار ما يعتقده القائلون إن الرواية استنفدت كل أغراضها، فقد حاكى الشفهي والشعبي، بلغة دقيقة مكثفة إيحائية، تبتعد عن البهارات والزخارف، تتخللها كلمات من العامية المصرية وظفها باحترافية. واستخدم المونولوج والتداعي الحر المتداخلين مع السرد والوصف والحوار.. للتعبير عن الشرخ الداخلي للشخوص، وللانتقال السلس بين المشاهد السردية، كما وظف ببراعة وتناغم تقاطع الزمن الماضي مع الزمن الحاضر. الزمن الماضي ممثلاً في الاسترجاعات التي تكسر خطية السرد، والزمن الحاضر الذي يمتد منذ استيقاظ الأسرة فجراً حتى طلوع النهار، ولم يلجأ إلى التلاعب بهما وخلط أوراقهما، بل جعلهما يتعاقبان مثل الليل والنهار، ينسابان في هدوء في مجرى المحكي، وهي التقنية الأجمل في المعمار الروائي لهذه الرواية الفاتنة كسائر رواياته.
جـــــــوع..
مقتطفات من الرواية
الزوجة…
سكينة في قعدتها على المصطبة، ضاقت من انتظار طلعة النهار، الشمس بانت والناس ما زالوا نياماً، ولا دبّة قدم واحدة في الحارة، هي لا تستطيع أن تنتظر، مغص الجوع خفّت وطأته، يشتد في البداية، مثل ما يجري في شهر الصوم، تتحمّل الأيام الأولى في صعوبة، وجع البطن ودوخة، يومان أو ثلاثة وتروح الأوجاع، الواحد وما يتعوّد، وأكثر أيام رمضان تصومها دون سحور، ما يقلقها الولد الكبير، الصغير من نظرة واحدة تعرف ما يعانيه، وحتى من غير نظرة، كلما قرصه الجوع لبد فيها، تتحرك وهو يكاد يلتصق بها، وعندما يراها تقعد يحوم حولها ثم يتمدد ورأسه على ساقها، الكبير احتارت معه، من شهور ووجهه يتلون، يوماً ذابل، ويوماً يسترد عافيته، ما عاد يقترب منها ويتمسّح فيها حين يشتد به الجوع كما كان يفعل. وفي قعدته يشرد، تناديه مرتين أو ثلاثاً إلى أن ينتبه لها، وأوقات وهو في شروده يسيل اللعاب من ركن فمه، وتقول ربما عنده ديدان في بطنه، ولو كان ظنها صحيحاً لن يصبر على الجوع، الديدان حين لا تجد ما تأكله تنهش مصارينه. وزغلول في دنيا أخرى، والكلام معه لا يفيد، هو في قعدته بالطرف الآخر من المصطبة كفّ عن تسليك أسنانه، والآن يمصّ عود القش.
سمعت صرير باب، تعرف الصوت ومن أين يأتي، البيت الكبير، في هذا الوقت الباكر تحضر البنتان، كبيرتان بما يكفي للعمل في البيت. لا تعرفهما، تعيشان في الطرف الآخر من البلدة، تراهما لحظة دخولهما وتسمع ضحكتهما ثم يغلق الباب.
لا يبعد البيت الكبير كثيراً عن بيتها، ثلاثين خطوة، وحوله خلاء واسع أوقف زحف بيوت الأهالي الصغيرة باتجاهه، كما لو أن هناك خطّاً غير مرئي لا يجوز أن تتخطاه، برضاها أو رغماً عنها لا أحد يعرف، ويقال إن الحاج هاشم صاحب البيت الكبير يملك الأرض الخلاء، اشتراها يوم اشترى أرض البيت، قطعة واحدة، شيّد البيت وسطها. ومن وقت لآخر يأتي من يكنس الخلاء ويرشه بالماء.
أصحاب البيوت الصغيرة يزهون بالاقتراب منه، تزاحموا في الصفوف الأولى دون أن يتركوا فراغاً كافياً بين البيوت، مجرّد ممرات ضيقة يسع الواحد منها الحمار لو رفع راكبه ساقيه فوقه، يتمتعون بالخلاء والنسمة الطرية التي تأتي منه حتى في عز الصيف، كما يسمح لهم موقعهم الأمامي بمشاهدة زوّار البيت الكبير من أهل المدن، أحياناً سيارات، وحناطير إذا جاؤوا من المراكز القريبة والنساء يلبسن فساتين قصيرة وأحذية بكعب ورؤوسهنّ عارية من غير طرحة. (…)
بيت سكينة في الوسط، اختارت مكاناً على المصطبة لقعدتها حيث يتخذ الفراغ في الصفوف الأولى من البيوت خطاً مستقيماً بامتداد بصرها، فترى واجهة البيت الكبير، والباب، والداخل والخارج.
البيت بلون وردي، اللون الذي تستريح له سكينة عن أي لون آخر، وتمنّت أن يكون لها لباس منه، وفي بالها عندما يتوفر قرشان في يدها أن تشتري القماش وتفصله.
رأت سكينة البيت عندما كان داراً واحداً وعلى جانبيه صفّان من أشجار الكافور العالية، ثم تتكاثف في الخلاء وراءه. الآن أصبح دورين، الدور الثاني لم يأخذ وقتاً طويلاً في بنائه، بدا مهيباً بعد أن اكتمل، لونها الوردي الذي تحبه كان زاهياً في الفضاء لا يحجبه شيء عن عينيها، ويحلو لها ساعة المغربية أن تنظر إليه وظلال أشجار الكافور تتحرك فوقه.
انتظرت بعد أن انتهى بناؤه أن ترى وجوهاً في شرفته الكبيرة أو نوافذه العريضة الخضراء، فلم ترَ أحداً، وتمضي الأيام والشهور ولا أحد. ظلّ خالياً. هم في البيت الكبير على ما يبدو اعتادوا المعيشة بالدور الأرضي؛ حتى البنتين والولد – والذي أضيف الدور الثاني لإقامتهم حين يأتون في الإجازات، كانوا يفضّلون حجراتهم التي عرفوها من صغرهم.
ما تعرفه عن البيت عرفته بالسمع. حوش كبير، أرضه مدكوكة على جانبه خمس حجرات. حجرة الخزين، وحجرة للولد، هو لم يعد ولداً، يعمل مهندساً، وتزوج ويقيم في إحدى المدن على مسافة مائتي كيلومتر، وحجرة لكل من البنتين، هما أيضاً تزوجتا، واحدة طبيبة والأخرى مدرِّسة في الثانوي، والاثنتان تقيمان في مدينتين مختلفتين، الحجرة الخامسة للست الكبيرة. الحوش يفتح عن طريق ممر صغير على صالة واسعة لقعدة الزوّار، أرضها من البلاط الملوّن وبطرفها المنحني حجرة الحاج.
من دخلن البيت يحكين ما رأينه من فرش ومقاعد ودواليب وأسرّة من النحاس، ولا يحكين عن أهله. بائعة البيض. وتاجرة القماش التي تأتي بطلبات خاصة للست الكبيرة، وأم خالد أيضاً، تقوم بخدمات لنسوان الأعيان والموظفين، تنظّف أجسادهنّ من الشعر، تظهر أمام البيت الكبير حين تأتي بنتا الحاج وزوجة الابن في إجازة.
ودّت سكينة أن تدخل البيت وترى بعينيها ما سمعت به، وفكّرت في ألف سبب وسبب، وكل مرة تكون في الخلاء تذهب وتأتي أمام الباب المغلق. حاولت مع البنتين اللتين تعملان هناك، اعترضت طريقهما أكثر من مرة أثناء عودتهما، وفتحت معهما الكلام، والبنتان تتمهلان قليلاً، وتنظران إليها وتواصلان طريقهما دون أن تردّا، وبعدها كانتا حين تلمحانها مقبلة عليهما تدخلان أول حارة تقابلهما وهما تضجان بالضحك.
واحدة منهما تخرج كل يومين أو ثلاثة في الضحى وبيدها ربطة كبيرة، سكينة تعرف الربطة، رأتها أكثر من مرة، خرقة ممتلئة بالكراكيب، وتتعجّب من كثرة ما يرمونه، تمضي البنت بالربطة الى كومة هدم خارج الخلاء وتفرغ الربطة، وتعود والخرقة بيدها، وتكون سكينة نادت على ابنها الصغير، وما إن تدخل البنت البيت وتغلق الباب حتى تطلقه الى كومة الهدم:
– بص كده. رموا إيه النهاردة.
ويمضي الولد، ويعود بزجاجات وبرطمانات فارغة، وحين تتجمّع كمية منها ترسله بها الى السوق، هناك دائماً من يشتريها.
ويوماً رجع من تفتيش الكراكيب ومعه مكحلة خالية، كان شكلها جميلاً لم تر مثلها من قبل، احتارت أن تبيعها أو تحتفظ بها. هي لا تتكحّل، وخطر لها أن تعيدها للبيت الكبير، لا بدّ أنها سقطت سهواً وسط الكراكيب. الخاطر يلحّ عليها، لفّت الطرحة حول رأسها وذهبت، فتحت واحدة من البنتين الباب، الأخرى جاءت متمهلة، مدّت سكينة رأسها ونظرت مبهورة إلى الداخل، أشياء كثيرة هنا وهناك، لا تستطيع في نظرة خاطفة أن تلّم بها، وانتبهت على سؤال البنت عمّا تريده؟
قالت سكينة إنها تريد أن ترى الست هانم.
– وعايزاها في إيه؟
– عايزاها في حاجة.
مال رأس البنت جانباً، وبانت في عينيها نظرة غير مريحة. قالت:
– حاجة إيه.
وسكينة لا تريد أن تعادي البنتين، فتحت قبضتها عن المكحلة وقالت:
– كانت بين الكراكيب.
– آه. ما أنا اللي رميتها. مخرومة.
– رميتيها؟ افتكرت راحت غلط. طيب.
وعادت بنظراتها إلى داخل الحوش، ولم تمهلها البنت، قالت بغلظة:
– انت بقى اللي بتفتشي الكراكيب كل مرة.
–
أبداً. ولا بشوفها. هي المرة اللي كنت هناك وشفت المكحلة.
أغلق الباب وراءها. غير أن البنت كشفت نفسها، لا بدّ أنها توصي أحداً من بيتها ليقّلب في الكراكيب، وعندما يذهب لا يجد ما يستحق، يسبقه دائماً ابن سكينة، البنتان تخرجان دائماً وأيديهما فارغة، لا تريدان أن تحملا معهما شيئاً حتى لو كان مكسوراً أو عديم الفائدة، فقد يظن أحد في البيت أنهما تخفيان شيئاً ذا قيمة، فكّرت سكينة وفكّرت.. ما أسهل أن يدسّا بين الكراكيب ما ترغبان فيه، ستنبّه على ابنها أن يفتشها مرتين وثلاث، وربما راحت إليها بنفسها، وكانت على يقين من أن المكحلة سليمة، وفي البيت ملأتها بالماء، ورأت غير مصدّقة الماء ينبثق من خرم بها.
– طيب. حتى لو مخرومة. نسّد الخرم بأي حاجة.
ورمتها في ركن الحوش بين أشياء أخرى.
وذات يوم كانت في مشيتها هناك، لمحت الباب مفتوحاً، أسرعت ودخلت، فوجئت بعد أن تخطّت العتبة بالابنة الكبيرة، المدّرسة، عرفت أنها هي مما سمعته عنها، طويلة، شديدة النحول، جلد على عظم، والصدر، حبتا ليمون صغيرتان، ووجهها ممصوص، تلبس الروب فوق جلباب البيت، اضطربت سكينة من نظرتها. قالت:
– الباب مفتوح. قلت. أي خدمة يا ست هانم.
نظرت الابنة الى البنتين متسائلة، قالت واحدة منهما:
– ساكنة هناك.
وأشارت نحو البيوت.
وقالت الابنة: كترّ خيرك.
سكينة ظلّت واقفة كأنما صعب عليها أن تغادر بعد أن دخلت، عدّلت من وضع الطرحة حول رأسها، كانت تنظر إليهن ويبادلنها النظرات، استدارت في بطء، توقعت أثناء خروجها أن تسمع من يناديها، ولم تسمع غير صوت إغلاق الباب، وقالت لنفسها:
– دايماً كده، يقفلونه.
لم تتوقف محاولاتها، تحوم حوله، عندما يتوافر العيش بقفص الجريد عقب الخبيز، والكل شبعان، تخطف رجلها إلى هناك، تمشي قليلاً بين شجر الكافور، وتزيح بقدمها أوراق الشجر الجافة.
– ولا حدّ يكنسه.
وترمق الدور الثاني ونوافذه الخضراء المغلقة:
–
الواحد فوق يشوف البلد كلها، غير الهوا اللي يردّ الروح، ويسيبوه كده فاضي.
وتجمع أغصاناً صغيرة متساقطة ترمي بها جانباً، وتعود إلى بيتها.
ويوماً رأت الباب مفتوحاً، ترددت. الابنة الكبيرة سافرت! ظلت في ترددها ومشيتها المتمهلة، أصوات عالية تأتي من الداخل، وضحكات البنتين، غمغمت:
– هوه فيه إيه؟
مرت أمام الباب ونظرت، ما رأته جعلها تزيح الطرحة عن رأسها وتندفع الى الداخل وكلامها يسبقها:
– عنك أنت وهي، رجل البوفيه كده تنكسر.
البنتان تزيحان البوفيه الثقيل من مكانه، تحاولان نقله إلى ركن الحوش، والست الكبيرة واقفة ملتفة بروبها وشعرها الرمادي عقدته من الخلف بشريط أسود، وجهها هزيل تشوبه صفرة خفيفة.
سكينة في اندفاعها لمست بالكتف مصباحاً مطفأ كان على طاولة قريبة، ترنّح المصباح وكاد يسقط، لحقت يدها به، غير أن بنورته هوت وأحدث تهشمها صوتاً.
انحنت سكينة قائلة:
– خليك بعيد يا ست هانم. خليك بعيد.
راحت بكفها تكنس الزجاج المتناثر وتكوِّمه، القطع المدببة جرحت يدها وسالت منها قطرة دم، رمقتها خطفاً واستمرت تلم الزجاج ثم جرفته إلى حجرها، رفعت ذيل جلبابها وقالت:
– دقيقة أرميه.
خرجت. أفرغت حجرها بجوار الحائط، وكانت تنفضه حين سمعت صوت الباب يغلق، استدارت ونظرت نحو الباب غير فاهمة:
– مفيش وراهم غير قفل الباب.
بعدها خاصمت البيت الكبير، لم تعد تذهب إلى هناك، ولا ترقب بابه، واستمر خصامها لأكثر من شهر حتى جاء يوم سفر الخزين.
كانت تكنس الحوش وسمعت ضجة السيارات تدخل الخلاء. قالت:
– زغلول. الخزين يا زغلول.
وجاء زغلول من رقدته في المندرة، انحنى في وقفته على المصطبة حتى استطاع أن يلتقط خطاً مستقيماً من الفراغات بين البيوت، ورأى العربات الثلاث نصف النقل تقف وراء بعضها بعضاً أمام باب البيت الكبير.
سكينة أخذت قعدتها وقالت:
– هي العربيات نفسها.
وزغلول عاد الى الحوش، وسحب رغيفين كاملين من قفص الجريد، وتربّع في المكان الذي اختبر الرؤية منه، ووضع الرغيفين في حجره، وسكينة رأت الرغيفين ولم تبرطم كعادتها:
– ما كفاية رغيف … الأولاد!
انتظر حتى ابتعدت نظراتها عن الرغيفين، وامتدت يده وكسر واحداً في رفق فكتم صوت الكسر، خشي أن يسأل عن غموس ولم يبرد بعد أثر سحبه للرغيفين. هي قالت من نفسها:
– فيه حتّة خيار مخلّل. تلاقيها في الشبّاك.
قفز رافعاً حجره بالعيش، حفرة صغيرة مربعة في جدار الحوش مغلقة بباب من الخشب، فتحه وأخذ المخلل وكان ملفوفاً في ورقة، وتحسّس جوف الحفرة، أحياناً يكون به طبق فيه لحسة عسل أسود تخفيها للولدين، لمست يده ورقة أخرى بها فتات جبن نشفت أخذها أيضاً، وورقة ثالثة بها قليل من السكر المخلوط بالشاي، أعادها للحفرة. تحفظها لتعمل له كوب شاي حين لا تكون في غضبها.
عاد لقعدته بجوارها. المرة السادسة التي يشاهدان فيها سفر الخزين. كل أربعة أو خمسة شهور تسافر العربات الثلاث محملة إلى الولد والبنتين كل في مدينته. هو يعرف الكثير عما تحمله العربات، تصادف مرة وكان يمر من هناك أن ساعد في تحميلها.
رأيا العربة الأولى وقد أنزلوا جوانبها الثلاثة.
وقالت سكينة: تقول العربية دي لمين من الأولاد؟
– نشوف الحاجة اللي حاتشيلها الأول. وكله زي بعضه.
–
لأ. الولد بيفرق. فاكر؟ العسل الأبيض أكثر من البنتين، والحمام. شايف قفص الحمام؟ أول حاجة يحطّوها في العربية.
– يبقى دي عربية ابنه. عايز يشدّ حيله.
–
طب وأنت يا زغلول. عمرك ما أكلت حمام وحيلك مشدود على الآخر.
ومالت وضربته خفيفاً على كتفه. قال زغلول:
– وقفص بطّ. وفراخ. يا قوة الله. المرة دي قفص سمان.
– وعرفته إزاي؟
– شفته مرة، أصغر من الحمام.
– وأكلت منه؟
–
أبداً. اللي أكلوه بيحكوا. لحمه ناعم وحلو. وبيعمل في الراجل عمايل.
مالت قليلاً نحوه: بيعمل إيه؟
– وأقول لك ليه. كفاية اللي عندك.
(…)
ودفعته خفيفاً من كتفه. وقال زغلول:
–
وصفيحة الجبن. والعسل الأبيض. والعسل الأسود. كل واحد شايل صفيحة على كتفه. ويوم ما ساعدتهم شيلوني الصفيحتين. وزلعة السمن، والزبدة.
– وياكلوا الحاجات دي كلها. ده كام شهر. أربعة؟
–
هم وحبايبهم هناك. ودي صفيحة إيه؟ يمكن جبنة قديمة. وقفص مانجة، وجوافة.. وقفص إيه ده يا سكينة؟ حاجة ما أعرفهاش.
– ولا أنا أعرفها.
– وقفص جوّاه قش. دا البيض.
–
وشوال الرز أهه. المرة اللي فاتت جابوه في الأول. وشيكارة العدس. والفول المدشوش، الشيكارة مخروقة، والفول بيقع. كنت حاسة أنه الفول.
–
وقع كتير. طبعاً يرجّعوا. الكيس. حايخيّطوه، واحد بيلمّ اللي وقع في حجره، حايحطه في الكيس.
– ويعملوا إيه هناك بالفول المدشوش.
– بصارة. أهل البندر على ما أسمع يحبوها قوي.
– ويعرفوا يعملوها.
– عندهم بنت أخذوها من البلد.
–
والله وفكّروني. نفسي أعملها. آخر مرة كانت من سنة. ويومها أكلت لوحدك طبقين.
–
شفتي العربيتين بتوع البنتين؟ ولا قفص حمام. ولا سمان. يبقى الحاج موش راضي عن الراجلين.
– ويمكن موش راضي عن البنتين.
– آه يا سكينة. كل ده يطلع منك.
– أنا كنت قطة مغمضة لغاية ما عرفتك.