فوجئت عندما التقيت وزيراً عربياً خلال قمة أوبك، التي عقدت في الرياض في نوفمبر عام 2007م، بأنه كان ينحني وهو يكلمني. كان يتحدث وهو يحملق في السجادة. تكاد عيناه تسقطان على الأرض من فرط تحديقه بها. امتلأت ولعاً بهذا الوزير قبل أن أنصرف عنه. فأخذت أشنف مسمعي بحديثه، وأتأمل طريقته الاستثنائية في الإنصات والاحترام. أسرني تواضعه وبساطته. انطلقت أمتدحه وأغدقه إطراءً سراً وجهراً، مساءً ونهاراً. أمام أمي وأبي، وزوجتي وأخوتي، وأصدقائي وزملائي. وصفته بأعظم الصفات وأرقها. ونعته بالوزير اللامع المتواضع. رجل الكياسة والسياسة. ولم أقلع عن الإشادة به إلا بعد أن التقيت صدفة مدير مكتبه في أحد المطارات الدولية، ورويت على مسامعه قصة لقائي برئيسه وماجرى فيه من انحناء واحتفاء. وقبل أن اختتم روايتي انفجر مدير مكتب الوزير ضحكاً حتى كاد أن يغشى عليه. وبعد أن هدأ روعه ومسح دمعه، سألته عن سر هذا الضحك الهستيري. فأجابني ووجهه يفيض انشراحاً: «يا سيدي.. وزيري لم يكن ينحني تواضعاً عندما كان يتحدث معك، بل كان منشغلاً بالعلكة (اللبان) التي نشبت في حذائه وأنت معه».
ولم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل هذا الموقف، الذي يجعلني أغير انطباعي وأسحب أقوالي حول إحدى الشخصيات العامة. فقد تعرضت لموقف مشابه عندما زرت مسؤولاً رفيعاً في منزله؛ لإجراء حوار صحافي معه. فوجدته هو من يصنع الشاي والقهوة، وهو من يقدمها بنفسه دون مساعدة أحد. وقد زاد إعجابي به عندما أخبرني أنه ليس لديه خدم ولا حشم. فشعرت بسعادة غامرة جعلتني أشيد بزهده وورعه، وعدم اتكاليته. ولم يوقفني عن مدحه إلا جاره، الذي أخبرني أن غياب خدمه وحشمه كان طارئاً، لأنهم كانوا يرافقون زوجته وابنته خلال رحلتهم إلى أحد منتجعات سويسرا أثناء زيارتي له.
ولست الوحيد الذي تورَّط في الانطباعات الأولى. فالشيخ علي الطنطاوي -يرحمه الله- تذكر في إحدى حلقات برنامجه الشهير «على مائدة الإفطار»، الذي كان يعرض على شاشة القناة السعودية الأولى، قصة مماثلة. فقد كان -يرحمه الله- يثني على قاض في محكمة دمشق لا يخرج من مكتبه إلا متأخراً ويستشهد بإخلاصه في كل مجلس يرتاده. وقد نما إلى علم القاضي مدح الطنطاوي له في الذهاب والإياب. فزار الطنطاوي في مكتبه وشكره على كلماته ودعواته، وأكد له أن بقاءه في المحكمة إلى وقت متأخر لا يعود لكونه مخلصاً أكثر من غيره بل لأنه ينتظر يومياً ابنه في المحكمة حتى يفرغ من محاضراته في الجامعة ليذهبا معاً إلى المنزل.
وسبق أن سخر الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون من الصحافة الألمانية، التي أشادت بلطفه أثناء إقامته في أحد فنادق برلين عام 1994م. فقد امتدح عدد من مراسليها تلويح الرئيس الأسبق الدائم لنزلاء الفندق عبر نافذة جناحه. وكان مصدر سخرية كلينتون أنه لم يكن يقصد التلويح عندما كان يرفع يديه مراراً باتجاه النافذة، بل كان يمارس تمارين رياضية، وقتئذ، تتطلب أن يوجه يديه إلى الأعلى على نحو متقطع لمدة نصف ساعة.
إذن، علينا ألاَّ نستعجل في إصدار أحكامنا على الأشخاص جرَّاء موقف واحد. علينا أن نتروى جيداً قبل أن نرشقه أو نرشقها بالورود والعبارات التي تحمر على إثرها الخدود.