أمضى الكاتب النيوزيلندي سيلوين باركر نحو 20 عاماً يدرس وهو يستطلع الأزمة الاقتصادية العالمية التي وقعت في العام 1929م، وفيما كان يضع اللمسات الأخيرة على كتابه، وقعت الأزمة الحالية، لتضفي مزيداً من الأهمية على كتابه «الانهيار الكبير، كيف أغرق انهيار الأسهم عام 1929م العالم في الكساد». مهى قمر الدين تعرض أبرز ما جاء في هذا الكتاب.
يدقق سيلوين باركر في كتابه بالأسباب التي أدت إلى انهيار سوق الأسهم الأمريكية والكساد الاقتصادي العالمي الذي نتج عنه. كما أنه يكشف ما كان يقال في أروقة أماكن القرار والخطوات التي قام بها المصرفيون والحكومات، وما لم يقوموا به.. إلى أن ينهي كتابه بتناول بعض أوجه الشبه بين ذلك الانهيار، والأزمة الحالية التي بدأت عام 2008م، وكأنه يردد مقولة مارك توين الشهيرة: «إذا لم يعد التاريخ نفسه، فمن المؤكد أنه يحمل دائماً نفس النغم».
الازدهار الذي سبق الأزمة
كانت العشرينيات في أمريكا فترة ازدهار ونمو سريعين. فقد كان معدل دخل الفرد يزداد بنسبة 3.4 بالمئة سنوياً، والمصانع تنشأ هنا وهناك، حتى بلغ عدد المصانع التي أنشئت بين عامي 1925 و1929م نحو 22,800 مصنعاً جديداً. وحيال هذا الازدهار، لم يرَ الرئيس كالفن كوليج أي سبب للتدخل في مجريات السوق. فتضاعف عدد الشركات الاحتكارية، حتى أصبح تحريك الاقتصاد الأمريكي رهناً بمشيئة عدد محدَّد من الأشخاص. وبحلول عام 1929م، كان نصف ثروة أمريكا التجارية تحت سيطرة مئة شركة فقط.
أما رمز هذا الازدهار فكان سوق الأسهم في نيويورك. ففي أوائل عام 1929م، تضاعف مؤشر هذا السوق. وارتفعت الأسهم ارتفاعاً جنونياً، حتى أن سهم شركة الهاتف «آي تي آند تي» وصل إلى 304 دولارات، وسهم جنرال إلكتريك إلى 396 دولاراً. أما الريادة فكانت لأسهم الراديو الذي كان رمز التطور التكنولوجي آنذاك، إذ ارتفع سهمه من 1.5 دولار عام 1921م إلى 570 دولار في أبريل 1929م. وبهذا الشكل، اعتقد كثير من الأمريكيين أنهم اكتشفوا سر الثروة الحقيقية، وهرع الجميع إلى الاستثمار في سوق الأسهم.
الاستدانة المتعاظمة
إلا أنه بموازاة ذلك، كانت الاستدانة سيدة الموقف، حتى «أصبحت القروض من معالم التوسع في الاقتصاد الأمريكي». إذ كانت القروض سهلة المنال تقريباً لأي شيء بدءاً من توظيفها في سوق الأسهم إلى شراء العقارات والكماليات. فظهر عدد كبير من المؤسسات المالية المقرضة، التي تعمل وفق المبدأ القائل: «اشترِ الآن وادفع لاحقاً».
ومما زاد في جنون الأسهم، هو إصدار سندات الاستثمار التي لم يخل تداولها من الأرباح الوهمية وبعض التحايل على القانون والمستثمرين. وانضم الأوروبيون والبريطانيون إلى الأمريكيين في الاستثمار بسوق نيويورك بينما كانت تلك الدول بأمس الحاجة إلى هذه الأموال لإعادة بناء ما تهدَّم في الحرب العالمية الأولى. فانهارت في بريطانيا امبراطورية المتموّل كلارنس هاتري، مما أثر سلباً على «وول ستريت» وكان مؤشراً إلى بدء الجفاف في السيولة.
من التحذيرات إلى الانهيار
ارتفعت أصوات تحذِّر من أن هذا الوضع سيؤدي إلى انهيار حتمي. وقال المصرفي البارز بول وربورغ إنه «من غير المسموح إطلاق العنان لهذه المضاربة الجنونية في البورصة، لأن انهيارها لن يؤثر فقط على المستثمرين فيها، وإنما سيؤدي إلى كساد اقتصادي كبير في جميع أنحاء البلاد».
عندما وصل الرئيس هوفر إلى الحكم عام 1929م، أدرك إلى أين كان سيؤدي كل ذلك. فحثَّ البنك المركزي على التدخل لرفع الفائدة بغية تقليص الاستدانة في البلاد. ولكن مصرفيي وول ستريت كانوا يسيطرون على فرع البنك المركزي في نيويورك، أي إنهم كانوا أصحاب الصوت الأقوى. وهكذا وجد الرئيس هوفر نفسه وكأنه يتعامل مع مؤامرة غير معلنة.
بوصول الأوضاع إلى حافة الهاوية كان يمكن لتصريح واحد أن يدفعه إليها. وهذا ما حصل عندما صدر عن رئيس البنك البريطاني فيليب سنودن تعليق كان له الأثر المباشر على السوق. إذ حذَّر من المضاربة العمياء في سوق نيويورك ومن أن الانهيار بات حتمياً، وفي اليوم التالي حصلت عمليات بيع كبيرة، وفي اليوم الذي بعده صدرت صحيفة «الواشنطن بوست» بعنوان يقول: «انهارت أسعار الأسهم بسبب البيع الجنوني». واستمر التدهور إلى يوم الإثنين 21 أكتوبر حين تم بيع 6 ملايين سهم في أكبر تداول شهدته البورصة في تاريخها. فخسر الأمريكيون قسماً كبيراً من أموالهم، وانسحب الأوروبيون بما تبقى لهم من أموال.
نظريات وتوقعات وجهود
تطلع العالم إلى هذا الانهيار الحاصل في أسواق الأسهم بمشاعر تمتزج بين الدهشة والخوف والشعور بالانفراج. إذ علّقت مجلة «الإيكونوميست» قائلة إن «تنفيس بالون الأسهم الأمريكية المنتفخ بشكل مضخم سيكون له أثره الجيد على العالم». أما في الولايات المتحدة فانقسمت الآراء ما بين مؤيد التدخل لإنقاذ الوضع وآخر يدعو إلى ترك الأمور تحل نفسها بنفسها.
كانت هناك نظرية الاقتصادي الشهير جوزف شومبتر التي قالت «بالهدم البنَّاء». كان شومبتر مرجعاً بالنسبة للدورة الاقتصادية وكان يعتقد بأن الرأسمالية لا يمكن أن تسير في مسار ثابت. إذ لا بد من أن تتعرض للعواصف والتقلبات. واعتبر أن الانهيار هو أحد المحطات الطبيعية للدورة الاقتصادية. ومن بين الذين تبنوا هذه النظرية هناك أندرو ميلون، الذي كان وزيراً للخزانة في عهد الرئيس هوفر. وقد قال الرئيس هوفر إن هذا الانهيار «سيطهر النظام من الفساد وستنخفض كلفة المعيشة، سيعمل الناس بجهد أكبر، وسيحيا الناس حياة أكثر استقامة. كما أن القيم سوف تتعدَّل وسيأخذ المبادرة أشخاص أكفاء بدل الأشخاص الفاشلين».
أما ردة فعل اليابان على الانكماش الاقتصادي العالمي فقد كانت سريعة. إذ شكلت حكومتها شراكة مع الصناعيين فيها. وفي خلال سنوات ثلاث كانت اليابان تصدِّر المكنات والمواد الكيميائية، وانتقلت من دولة «اقتصاد الحرير»، إلى دولة صناعية كبرى. أما الهند فقد أفادت من التقلبات في التبادل التجاري مع بريطانيا ونجحت في قلب الطاولة لصالحها وطوَّرت صناعاتها، وزادت صادراتها إلى بريطانيا بمعدل 375 في المئة أيام الكساد الاقتصادي.
يختم باركر كتابه بعرض بعض أوجه الشبه بين أزمة عام 1929م والأزمة التي حصلت مؤخراً عام 2008م. أولها هي النمو الكبير في القروض التي توفرت لكل شيء إن كان لأغراض استثمارية أو فقط للمتعة. وثانيها هي نسب الفائدة المتدنية إلى حدّ بعيد. أما وجه الشبه الثالث فكانت الشركات التي كانت تصدر سندات الاستثمار المدهشة بالأرباح الخيالية التي تحققها شركات سماها وارن بوفيه «أسلحة دمار شامل». ولكن قبل انهيار 2008م، لم يكن هناك من يسمع.
وينهي باركر بالقول إنه بالرغم من التشابه بين أزمة عام 1929م وأزمة عام 2008م إلا أننا نحن الآن أكثر قدرة على التصدي لتلك الأزمة وإيجاد الحلول لها لأننا الآن أذكى من ذي قبل. ولكن السؤال هو: هل نحن فعلاً كذلك؟