قضية العدد

الرأسمالية الخيـرية
مفردة جديدة في العمل التطوعي

  • 20a
  • 12bc
  • 14a
  • 17a
  • Red Cross workers unload rice donated by the World Food Programme in Yangon

يشهد العمل التطوعي تحولات جذرية تطال جذوره وحتى مفهومه، وتعطيه دفعاً لم يسبق أن عرفه خلال تاريخه الطويل. وما الثروات العملاقة التي أوقفها أصحابها على الأعمال الخيرية في الآونة الأخيرة، إلا واحدة من هذه التحولات العميقة، لأنها جاءت مشفوعة بنظرة جديدة إلى الرأسمالية ودورها.
عبدالله بشرى الهاشمي يحدثنا عن «الرأسمالية الخيرية»، هذا الوجه الجديد للعمل الخيري وللرأسمالية في آن، وما يتوخى منها على صعيد معالجة الفقر في العالم.

ظهرت بوادر العمل التطوعي بشكلها الراهن في العالم العربي، خلال القرن التاسع عشر. واستمر بوتائر مختلفة حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل دولة، وكان له إسهامات مقدرة في تقديم العون والمساندة للمحتاجين.

تشكِّل الثقافة والقيم السائدة عوامل مهمة بالعمل التطوعي، لما للمنظومة الثقافية والقيمية من تأثير على الدوافع والأسباب التي يحملها الناس. ومما لا شك فيه، أن الموروث العربي والإسلامي يحتوي على العديد من القيم التي تحفز الفرد على السعي من أجل مساعدة الغير. ففي الثقافة الإسلامية، حظي العمل التطوعي بمكانة عالية من الاهتمام، إذ نجد الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحث على كفالة الأيتام، ومساعدة الضعفاء والمعوزين والفقراء، ومدّ يد المساعدة للعاجزين والمعوقين، والإسهام في التعليم ونشر العلم، والحفاظ على البيئة، والمشاركة في العمران والتطوير، إلى آخر ما هنالك من مجالات متعددة ومتنوعة للعمل الخيري والتطوعي.

لا يوجد مفهوم واحد للعمل التطوعي عند المختصين بهذا المجال، ولكن أغلب التعريفات تتفق على الأقل بأن كلاً من الجوانب التالية يشكِّل عنصراً مهماً في مفهوم العمل التطوعي.
– 
إنه يعكس وعي المواطن وإدراكه لدوره في المجتمع وانتماءه إليه.
– 
إن العمل التطوعي هو الجهد الذي يبذله المواطن من أجل مجتمعه أو من أجل جماعة معيَّنة من الناس من دون توقع جزاء مادي مقابل جهوده سواء كان هذا الجهد بالنفس أو المال.
– 
إن العمل التطوعي هو جهد إرادي يقوم به الفرد أو الجماعة من الناس طواعية بتقديم خدماتهم للمجتمع أو إحدى فئاته.

من هذا، يمكن الاستنتاج أن العمل التطوعي هو حركة اجتماعية تهدف إلى تأكيد التعاون وإبراز الوجه الإنساني للعلاقات الاجتماعية، مع إبراز أهمية التفاني في البذل والعطاء عن طيب خاطر في سبيل سعادة الآخرين. ولكن لا يجب أن ينظر إلى العمل التطوعي بمنظور مثالي لجهة أهداف الأفراد الذين ينخرطون بالعمل التطوعي ودوافعهم، حيث قد تكون هناك أهداف غائية وإن كانت غير مباشرة للأفراد، تؤثر على العمل التطوعي سلبياً في بعض الأحيان.

جاءت أهمية العمل التطوعي من عدم قدرة الدول على الاستجابة لكل الحاجات المجتمعية، أو تلك الخاصة ببعض الفئات لأسباب مادية بحتة، تتلخص في عدم القدرة على توفير المصادر المالية الكافية لسد حاجات كافة أفراد المجتمع. وفي عصرنا الحالي بتحولاته الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية، صار العمل التطوعي محركاً لكثير من الشباب المتحمسين بدوافع مختلفة. وسنحاول هنا، ونحن نستشرف الذكرى 150 لإنشاء أعرق منظمة للعمل الإنساني هي الهلال والصليب الأحمر الدوليين، رصد هذه التحولات والدوافع لدى المتطوعين الجدد، لمعرفة أثرها بالنسبة لعمل عرف بمثالية دوافعه عبر التاريخ.

ثورة العمل التطوعي
بدأت أولى الخطوات التي بدلت وجه العمل التطوعي، ربما إلى الأبد، في السادس والعشرين من يونيو 2006م عندما تبرع وران بافت، الملياردير الأمريكي، بمبلغ 31 مليار دولار من ثروته للأعمال الخيرية، واضعاً هذا المبلغ الضخم بين يدي منظمة بيل وميلندا غيتس الخيرية، إضافة إلى ستة مليارات أخرى من الدولارات وضعها تحت تصرف منظمات أخرى تديرها عائلته. سبقه في ذلك بأيام فقط بيل غيتس «محرك» مايكروسوفت العملاقة الذي تبرع برقم مشابه لإنشاء منظمة بيل وميلندا الخيرية. فما الذي دعا اثنين من أغنى أغنياء العالم إلى بذل مثل هذه المبالغ التي تعادل اقتصاديات عدد من الدول مجتمعة؟. هل كان ذلك من أجل صرفها على فقراء العالم كما فهمنا عبر العصور من تعبير «عمل خيري»؟ أم وراء ذلك أسباب وأفكار أخرى؟

إن الاختلاف الكبير في العمل التطوعي مقارنة بالعقود السابقة، نابع من التحولات الثقافية التي طرأت على الإنسان، وهي تحولات طبيعية تمر بها الأمم عبر العصور. لقد عرفنا عبر التاريخ، أن لكل أمة عقولاً تجدد دمائها كلما ركدت، وأشخاصاً يحملون راية الطلائع في عصرهم، وهم أكثر الشخصيات تأثيراً على الثقافة الجمعية للناس. في الغرب مثلاً، يمكن أن يكون بيل غيتس هو المحرك لتلك الثقافة الجمعية. فالرجل استطاع أن ينقل شركته التي أنشاها في عام 1975م، من شركة صغيرة إلى أكثر الشركات تأثيراً في العالم من خلال إسهاماتها في إرساء ما يسمى «عصر العولمة». إن الحراك الثقافي الكبير الذي أحدثته المنتجات التكنولوجية في هذا العصر، هو ما حفز أحد عرابيه لتجربة حظه مرة أخرى. لكن هذه المرة في مجال اتفق الناس على أنه يصب في مساعدة الآخرين دون انتظار أجر على ذلك. ليس هذا فقط، وإنما أن يتنازل عن إدارة شركته العملاقة مايكروسوفت، متفرغاً للعمل بدوام كامل في منظمته «بيل وميلندا غيتس الخيرية»، مستصحباً في ذلك الخبرات التي جناها طوال أكثر من ثلاثين عاماً في عالم الأعمال. وهو التحدي الجديد الذي وضع صاحب مايكروسوفت نفسه فيه.

الرأسمالية الخيرية
ربما كان المصطلح في حد ذاته غريباً نسبة لجمعه بين متناقضين «Philanthrocapitalism». فقد اتفق الناس على التفريق بين العمل الخيري كنشاط إنساني يرتاده المثاليون، وبين الاقتصاد الرأسمالي كنشاط تجاري هدفه المعلن هو الربح فقط. فما هي حقيقة هذا المصطلح الجديد؟.

يؤمن المتبرعون الجدد بعدم فعالية نظام العمل الخيري القديم في مواجهة مشكلات العالم الحديث المتغيرة. فعلى الرغم من المليارات التي تصرف سنوياً على العمل الخيري، إلا أن القليل من التغيير فقط يحدث نحو الأفضل على أرض الواقع. لذا، يعتقد الرأسماليون الجدد بإمكانية القيام بعمل أفضل مقارنة بمن سبقهم في هذا المجال. وبعدما شكلت العقود السابقة حقبة ذهبية للرأسمالية، لذا يفكر المتبرعون الجدد أن بإمكانهم تطبيق نجاحاتهم التي اكتسبوها في مجال الأعمال على العمل الخيري التطوعي بالكفاءة نفسها. ومن هنا جاءت تسمية هذه الاتجاه الجديد في العمل الخيري.

تعتقد «الرأسمالية الخيرية» أن بإمكانها إنقاذ ملايين الأرواح من براثن الفقر والجوع والمرض والجهل التي تعصف بالعالم الحديث، عن طريق الأموال والخبرات المتراكمة المكتسبة خلال عقود من أوجه النشاط في مجال الأعمال. مما يدل على جدية هذه «الحركة» الرأسمالية الجديدة. فقد تفرَّغ بيل غيتس للعمل في مؤسسته الخيرية ابتداءً من شهر يونيو 2008م. وهو يقول في مقابلة أجريت معه «إن اثنين من خمسة أشياء مهمة حققتها في حياتي، هما الحاسب الشخصي الذي غير حياة المليارات من الناس، أما الثاني فهو ما آمل تحقيقه في مجال العمل التطوعي».

تقوم منظمة بيل وميلندا الخيرية بمحاربة الأمراض التي تعصف بالدول النامية في إفريقيا وآسيا مثل الملاريا والسل والإسهال والإيدز. كما تقوم بتمويل أربعة عشر مشروعاً للأبحاث في مجال اللقاحات وتطوير طرق اقتصادية فعَّالة لقياس الصحة العامة. كما تقوم المنظمة بتوفير مئات الملايين من الدولارات سنوياً لتسريع عجلة النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة، إضافة إلى تحالفها مع «مؤسسة روكفلر الخيرية» التي تعمل منذ عام 1940م على مساعدة المزارعين للحصول على محصول أفضل في دول إفريقيا وآسيا.

مما لا شك فيه، أن حركة الرأسمالية الخيرية سوف تنمو باطراد بزيادة عدد الأثرياء في العالم. ففي عام 2008م، ذكرت مجلة فوربز أن عدد أصحاب المليارات في ذلك العام وصل إلى 1125 مقارنة بـ 140 فقط في عام 1986م، هذا إضافة إلى آلاف المليونيرات.

وبظهور الرأسمالية الخيرية، تطورت مصطلحات اقتصادية جديدة لتصف هذا الاتجاه المختلف في العمل الخيري، مثل «المضاربة الخيرية» (Venture Philanthropy)، حيث ينظر العاملون في هذا الشأن إلى أنفسهم كمستثمرين اجتماعيين وليس كمتبرعين تقليدين، وكمجددين يدعمون الذين يقدمون حلولاً خلاَّقة لمشكلات المجتمع «Philanthropreneurs»، وكمسخرين للأرباح التي يجنونها من العمل الخيري لفائدة المجتمع. وهذا بالطبع مخالف لتقاليد العمل الخيري التي يفترض أن يمنح المال لا أن يأخذ!. لكن ترى الرأسمالية الخيرية أنه إذا كان في الإمكان منح المال من أجل حلول لمشكلات المجتمع، ونتج عن ذلك مردود مادي، فإنه من الممكن جذب الكثير من رؤوس الأموال بصورة أسرع، مما يخلق أثراً إيجابياً سريعاً أكثر من مجرد التبرع بهذه الأموال، وهذا ما يجعل أمر التبرع بها أكثر فاعلية. ويثبت صدق هذه النظرة العدد المطرد من الأعمال التقليدية التي تتجه الآن إلى الاستثمار في العمل التطوعي في الغرب. ويري غيتس أن هذه هي البداية لما يسميه «ابتكار النظام» (System Innovation) لما سماه «الرأسمالية الخلاَّقة» (Creative Capitalism). فما هي طبيعة هذه الرأسمالية؟

مبادئ الرأسمالية الخلاَّقة
يعتقد بيل غيتس، وهو أول من طرح مصطلح «الرأسمالية الخلاَّقة» في منتدى دافوس الاقتصادي بسويسرا في يناير 2008م، أن على الرأسمالية التي خدمت الأغنياء في زيادة ثرواتهم، أن تتحول الآن إلى خدمة الفقراء أيضاً. ونادى بنظام اقتصادي جديد قادر على جذب رجال الأعمال إلى العمل الخيري. هذا النظام لديه مهمتان هما: تحقيق الأرباح وفي الوقت نفسه خدمة أولئك الذين لم يستفيدوا من قوى السوق. وللمحافظة على ديمومة هذا النظام، يجب أن تتوافر فيه الربحية كمحفز حيثما كان هذا ممكناً. لكن، بما أن الربحية لا تتوافر في مثل هذا النظام دائماً، لذا يكون الحافز البديل دائماً هو الاعتراف بفضل العمل وبالتالي تقدير الجهود التي تقوم بها المنظمة من قبل «الزبائن» والسوق.

يكمن التحدي الأكبر في تصميم نظام يجمع ما بين حوافز السوق والاعتراف بالفضل والأرباح من أجل قيادة هذا التحول في النشاط الرأسمالي. فهذه الرأسمالية الخيرية يمكن تبنيها بواسطة كل المؤسسات الخيرية بطريقة أو أكثر للوصول إلى خدمة أكبر عدد ممكن من المحتاجين، والإسهام في إيجاد نوع من العدالة الاجتماعية سلبتهم إياها السوق التي تستجيب فقط للطلب لا إلى الحاجة. وأحوال الناس قد تكون بصدد التحسن، ولكن ببطء كبير. والثورة التكنولوجية من جانبها، زادت من حجم الظلم الذي يقع الآن على حوالي مليار شخص حول العالم. كما أن تغيرات المناخ سوف تزيد من حجم الضرر الواقع على هؤلاء الفقراء والذين لم يسهموا في حدوثه بالقدر نفسه الذي سببته الرأسمالية.

تختلف الرأسمالية الخلاَّقة عن نظيرتها الرأسمالية التقليدية، أو رأسمالية الأعمال التقليدية التي تعتمد على منح مبالغ قليلة من المال لقاء الشهرة في الغالب وليس رغبة في تغيير العالم نحو الأفضل. كما تختلف عن المؤسسات الاجتماعية القديمة التي لا تلعب دوراً سوى ممارسة نوع من أنواع العلاقات الاجتماعية في أغلب الأحيان. هذه الأدوار غير الفعالة لاتجاهات العمل الخيري التقليدية في حياة غالبية البشر، هي التي حدت بالعديد من الناس إلى الاعتقاد بأن الشركات الكبيرة يمكنها أن تمثل قوة خير أيضاً إذا وُجِّهت لخدمة الفقراء وفق آلية جديدة. وللاستدلال على ذلك، فإن العديد من الشركات الكبرى بدأت في تضمين خطط أعمالها جوانب تعود بالخير على المجتمع وبالربح على الشركة. مثلاً، شركة وول مارت العملاقة في أمريكا، ترى أن مجال الحفاظ على البيئة فرصة مربحة لها من خلال التوفير في مواد التعبئة التي تضر بالبيئة أحياناً كثيرة، كما أن توفيرها يساعد في خفض النفقات بالنسبة للشركة من ناحية أخرى.

يرى الملياردير الهندي عظيم بريمجي المسجل رقم 18 في قائمة أثرى أثرياء العالم لعام 2008م، بثروة تقدر بحوالي 12,7 مليار دولار، وصاحب «مؤسسة عظيم الخيرية» التي تهتم بتعليم الفقراء، أن أي طفل متعلم هو مهم من أجل الديمقراطية، وأن الانفجار السكاني الذي تعاني منه الهند يمكن كبحه عن طريق أية فتاة تصل في تعليمها إلى المستوى الخامس أو السادس من سلم التعليم. مثل هذه الفتاة، يمكنها أن تعي أهمية الأسرة الصغيرة في المستقبل، وأن أي تعليم أساسي يزيد المعرفة بالصحة الأولية، فيخفف من نفقات العناية الصحية مستقبلاً، وبالتالي من الضغوط الاقتصادية على الأسر. وبالنسبة إلى بريمجي فإن ازدهار أعماله قد يرتبط بالديمقراطية والصحة في الحدود الدنيا وربما بالشهرة أيضاً.

ومثلما كانت العولمة إحدى القوى المحركة للحقبة الرأسمالية الذهبية التي عاشها العالم منذ الثورة الصناعية وحتى الآن، فإن فكرة انضمام الأثرياء بجدية إلى العمل الخيري قد بدأت تنتظم في العالم أيضاً.

في عام 2007م أعلن ثالث أغنى رجل في العالم، وهو المكسيكي كارلوس سليم الحلو أنه سوف يمنح عشرة مليارات دولار أمريكي من ثروته لمؤسسته الخيرية. حتى نجوم الغناء أمثال مغنية البوب الكولومبية شاكيرا ونجمة التلفزيون المليارديرة الأمريكية أوبرا وينفري انضموا إلى رسملة العمل الخيري، حيث راحت تعمل هذه الأخيرة كشريكة في مؤسسة بيل غيتس الخيرية.

قد يتساءل الناس ما الذي تفقهه نجمة البوب عن الفقراء في إفريقيا؟ والإجابة هي أن نجوم المجتمع هم جزء مكمل من الرأسمالية لمقدرتهم على التأثير في «سوق» الجماهير، خصوصاً في المواضيع التي تتعلق بتحريك الرأي العام. لذا، فالعمل الخيري لا يلغي دور أحد مهما كان صغيراً.

من النواحي الأخرى، إن كان الهدف هو مساعدة الناس، فإن الرأسمالية الخيرية تملك القابلية والمرونة اللازمتين لذلك. فهي تملك القدرة على القيام بأعمال أساسية أفضل من غيرها. حيث يمكنها المخاطرة بتنفيذ أفكار تعجز حتى الحكومات عن القيام بها. كما أن لها القدرة على تحريك المصادر بسرعة أكبر حين الاحتياج إلى ذلك، فهي ليست مطالبة برفع سقف الأرباح كما في شركات المساهمة التقليدية.

تاريخ الرأسمالية الخلاَّقة
في بدايات الثورة الصناعية كتب رجل الأعمال اندرو كارنج «إن مشكلة عصرنا هي الإدارة الرشيدة للثروة، التي يبدو أن روابط الإخوة بين الفقراء والأغنياء ما زالت تساعد على انسجام عراها». أما في القرن الواحد والعشرين، فيبدو أن هذه الفجوة بين الفقراء والأغنياء قد كبرت، وآن الأوان إلى إيجاد هذه الإدارة الرشيدة للثروة. وهذا ما يقوم به الرأسماليون الخيريون في محاولتهم إيجاد طرق بديلة لإشراك الفقراء في العمل.

يعتقد كارنج أن أفضل طريقة لإدارة الثروة هي منحها خلال حياة صاحبها لا توريثها لعواقبها الوخيمة على الوارثين. كما يرى أن منحها للدولة، يعني عدم معرفة الموهبة التي تمتع بها صاحبها في جمعها للصالح العام. ويرى أيضاً عدم العدالة في امتلاك الثروة بسبب النمو الاقتصادي المطرد الذي يجعلها في جانب واحد لذوي الحظوة بينما يترك الأغلبية في الجانب الآخر، وأن ما يجب أن يقوم به الرأسماليون الخيريون الآن هو مساعدة الناس بمنحهم المال مع الخبرة التي اكتسبوها لمساعدة أنفسهم. وبذلك، يُعد أصحاب الثروات مجرد أوصياء عليها في إدارتها لأجل الصالح العام.

روح الرأسمالية الخيرية
بحسب رؤية بيل غيتس، فإن قيمة الإنسان في إفريقيا يجب أن تكون مثل نظيرتها في الولايات المتحدة، وأن أي شخص على كوكب الأرض له الحق في الحصول على الصحة السليمة، وأن الفرصة واتته الآن لاستخدام ثروته الطائلة لتصحيح هذا الظلم.

من هنا تنبع روح الرأسمالية الخيرية في إيمانها بقدرتها على معالجة مشكلات المجتمع الكبيرة والمزمنة، وأن عليها القيام بذلك. فهناك مشكلة تحتاج لمعالجة، ولديهم المصادر المالية، والخبرات العملية لحل هذه المشكلة. لكن، ربما كان السؤال الأقرب إلى الذهن هو: هل ما يقومون به هو لأجل الإنسانية، وهل من المهم ذلك؟.

أظهرت دراسة قام بها عدد من الباحثين في عام 1990م على عيِّنة من 99 متبرعاً من نيويورك، أن المتبرعين ينظرون إلى التبرع كالتزام مدفوع بعوامل التدين. ولكن حتى ولو لم يكن مدفوعاً بالغايات الدينية، فالأهم هو قدرته على معالجة مشكلات المجتمع. فالعمل الخيري يجب ألاَّ يقتصر في مضمونه على رجاء ثواب الآخرة فقط، ونسيان غاياته الأخرى وهي منفعة الإنسانية. وفي ذلك تقول الكاتبة السعودية إيمان القويفلي في جريدة الوطن الصادرة بتاريخ 30 أبريل 2009م إن «ثقافتنا السائدة نجحت فعلاً وبشكل ما في فصل مفهوم «الخير» عن غايته الدنيوية، وفي تكريس مفهوم لفعل الخير مفرغ من الخيرية». إذن، خير الآخرة وخير الدنيا مفهومان لا ينفصلان في ثقافتنا الإسلامية إذا عرفنا كيف نقوم بالأعمال الخيرية بالطريقة الصحيحة. وفي أمثلة الأعمال الخيرية الناقصة تقول القويفلي «هذا البذل المالي الكبير دون تدقيق في طريقة توظيفه وإنفاقه، لأن الثواب الإلهي متحقق بمجرد البذل، وكذا البذل المالي دون التطوع بالجهد الشخصي، حتى عندما تكون حاجة الواقع إلى العمل لا إلى المال، وبناء المزيد من المساجد في مكان يحتاج إلى مدرسة أو مشفى … المهم أن الأجر متحقق بمجرد الفعل وبمعزل عن فائدته العملية في الحياة وللآخرين». من هذا نستشف أن العمل الخيري يظل ناقصاً ما لم تكن غايته الدنيوية أيضاً متحققة، فلا فائدة من مال لا يرفع الفقر عن فقير، ولا جهد شخصي يعلم الآخرين مساعدة أنفسهم. لذا وجب أن تتوافر آلية محددة تؤكد أن أموال المتبرعين وجهودهم تذهب إلى غايتها في تحقيق أكبر قدر من التغيير نحو الأفضل.

الشفافية للتأكد من الجدوى
في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، صارت المعلومات متاحة على موقع «Charity «Navigator، الذي يوفر معلومات عن حجم الإنفاق على الجوانب الإدارية لهذه المنظمات. لكن لا توجد معلومات مؤكدة عن حجم الإنفاق أو الفائدة التي يجنيها المستهدفون بهذه المنظمات. ولمعالجة الأمر، بادر كل من هولدن كارنوفسكي وإيلي هاسنفيلد الموظفين في إحدى الشركات الأمريكية، بإنشاء منظمة في عام 2006م أطلقا عليها اسم «Givewell»، هدفها مساعدة المتبرعين على الحصول على معلومات عن أكثر المنظمات فاعلية في مساعدة الناس. والتأكد من أن تبرعاتهم تذهب إلى مبتغاها، وذلك من خلال التقارير التي تعدها الهيئة التابعة لها والمسماة «The Clear Fund».

وفي التقرير الأول للمنظمة والمنشور على موقعها، توجت منظمة «Population Services International» الأولى من حيث الكفاءة في مساعدة الناس في إفريقيا، تلتها منظمة «Partners in Health».

إن التقييم الذي تمنحه هذه المنظمة التي أنشئت بغرض تشجيع الشفافية في العمل الخيري، يشجِّع بدوره الناس على التبرع للمنظمات الأكثر كفاءة في خدمة الفقراء. وفي النهاية تتحقق الغاية المنشودة بطريقة أفضل. وما ينطبق على المنظمات التقليدية هنا، ينطبق أيضاً على المؤسسات التجارية التي تتضمن خططها أعمالاً خيرية.

هذا النموذج الذي تقدِّمه منظمة «Givewell» يساعد المانحين في معرفة أفضل المنظمات التي يمكن أن يعهدوا إليها بأموالهم. كما يساعد المنظمات الخيرية على إبداء قدر أكبر من الشفافية تجاه هؤلاء المانحين وتجاه الغايات الجيدة التي قامت من أجلها هذه المنظمات في الأساس. كما أن استخدام تكنولوجيا المعلومات لتوفير هذه الخدمة، يعد مثالاً بسيطاً لما يمكن أن يكون عليه عمل الخير. فليس الأثرياء فقط هم المنوط بهم القيام بكل الأعمال، حيث إن هناك الكثير من الوسائل البسيطة التي يمكن أن يوظفها كل فرد منا بحسب قدراته ومهاراته لخدمة البشرية.

إن عصرنا الحالي بما يتميز به من سهولة نقل وتخزين المعلومات عبر شبكة الإنترنت، يؤكد على الحاجة إلى شباب عربي قادر على تطويع هذه التكنولوجيا لخدمة الأهداف الإنسانية الراقية، خصوصاً في ظل وجود الدافع الديني لدى مجتمعاتنا العربية المسلمة. وهذا الشباب يمكنه أن يحدث الكثير من التغيير على وجه العمل التطوعي العربي نحو الأفضل.

دور المنظمات الخيرية العربية
في دراسة غير منشورة، قدِّر الإنفاق الخيري في دول الخليج، كما أوردت الأستاذة إيمان القويفلي، بمبلغ تراوح ما بين 15 و20 مليار دولار أمريكي سنوياً. هذا الكم الهائل من الأموال إذا تمت إدارته بالطريقة الصحيحة فهو قادر على جعل العالم مكاناً أفضل للبشر. لكن يبدو أن ما ينقصنا هو المعرفة بثقافة العمل الخيري والتطوعي، وضعف الانفتاح على التجارب الجديدة. على الرغم من أن ديننا الحنيف قد حثنا على ذلك في أكثر من موضوع في القرآن الكريم: «فاستبقوا الخيرات …» المائدة: الآية 47، ومن السنة المطهرة: «خير الناس أنفعهم للناس». فالمطلوب منا أن نضع جنباً إلى جنب الرغبة في الثواب عند الله تعالى، إلى الرغبة في مساعدة الإنسانية في الدنيا التي استخلفنا فيها. والإيمان بأن الغرض من العمل التطوعي حثنا عليه الإسلام أصلاً لمساعدة الناس في الدنيا مع رجاء ثواب الآخرة. إن العبرة ليست في منح الأموال دون معرفة طريقة صرفها في حل مشكلات المجتمع، ولكن في معرفة كيفية حل المشكلات القائمة من خلال المشاركة الفعَّالة بالمعرفة والرأي والعمل. من هنا تنبع أهمية وجود «رأسمالية خيرية إسلامية» تتعامل مع مشكلات المجتمع بواقعية أكبر وعلمية تنبع من الممارسات الاقتصادية الإسلامية. تلك الرأسمالية التي تسهم في التطور التنموي والمعرفي للجماهير، وفي خدمة أكبر عدد ممكن من الناس المحرومين وتحويلهم إلى منتجين بدلاً من أن يكونوا متلقين.

نحو رأسمالية خيرية إسلامية
العالم الإسلامي ليس بمنأى عن بقية العالم. فما يحدث في الغرب نتأثر به بطريقة أو بأخرى. خصوصاً مع سهولة انتقال الأفكار في عصر المعلومات، وهذا في حد ذاته يمكن أن يطلق عليه «العولمة الفكرية». وبالنظر إلى واقعنا الخيري الإسلامي المتأرجح ما بين المسؤوليات الهائلة التي يضطلع بها، وثقافة طوعية ضعيفة نوعاً ما، فإن من أفضل السبل الدخول في شراكات مفيدة مع رؤوس الأموال وتدويرها في مشاريع خيرية تعود بالنفع على كل الأطراف. مستخدمين في ذلك أفضل ما وفرته التكنولوجيا الحديثة من وسائل لإدارة العمل التطوعي بفعالية أكبر.

كذلك تزداد الحاجة إلى كوادر إدارية فعَّالة لنقل العمل التطوعي إلى مستويات أكثر انضباطاً، وذلك بإخضاعه لقوانين الأعمال التجارية بغض النظر عن مفهوم الربح والخسارة. هكذا يستطيع العمل التطوعي الإسلامي الخروج من مأزقه الحالي ليصبح أكثر فاعلية وأجدى في خدمة البشرية. وهذا لا يتعارض إطلاقاً مع نظرية العمل التطوعي، بل يقوم بتعزيزها وضبطها، والاستفادة من أموال المتبرعين حتى أقصى درجة ممكنة. ومع ذلك، فلا بد من المحافظة على الأهداف السامية للعمل الخيري والتطوعي بعدم الانزلاق به إلى حب الظهور والشهرة أو استغلال الفقراء. بل يجب تعزيز دوره عبر تحبيب الناس به، وخصوصاً الشباب، من خلال برامج مدروسة في إطار المنفعة الإنسانية. فمن الأفضل تمليك الفقير ما يدفع به الفقر عن نفسه ويكون منتجاً، بدلاً من مساعدته على الفقر عبر تقديم الهبات في كل مرة. ومن التجارب الإسلامية الرائدة في هذا المجال، نذكر تجربة الدكتور يونس خاتون في بنغلاديش، التي نرى أنه من المفيد الاطلاع على معالمها.

بنك القرية
«إن المجتمع شحيح جداً ولا يترك للفقير فسحة حتى ينمو نمواً طبيعياً… فهو يملك كل الطاقة وروح الإبداع اللازمة… ولكننا لم نسمح له بتفجيرها واستخدامها». قالها الدكتور محمد يونس خاتون الحائز لجائزة نوبل للسلام مناصفة من «بنك غرامين» (بنك القرية) الذي أنشأه لمساعدة فقراء بنغلاديش. ولد الدكتور يونس في عام 1940م في مدينة شيتاجونج Chittagong المركز التجاري لمنطقة البنغال الشرقي في ذلك الوقت. وبعد إكماله دراسة الدكتوراة من جامعة فاندربيلت Vanderbilt الأمريكية وعودته إلى بلاده في عام 1972م، أصبح رئيساً لقسم الاقتصاد في جامعة شيتاجونج إبان سنوات المجاعة التي عصفت ببنغلاديش عقب انفصالها عن باكستان. بعد عامين من التفكير المتواصل عن كيفية مساعدة فقراء بلاده، قرر يونس ترك عمله بالجامعة، ثم اقترض مبلغاً صغيراً من البنك ليقرضه بدوره لبعض الفقراء. وبعد سنوات نجح الأمر نجاحاً باهراً بخروج 500 أسرة من دائرة الفقر. ثم تبنى البنك المركزي فكرة إنشاء «بنك القرية» للقروض الصغيرة. وتتلخص فكرة البنك في تقديم قروض صغيرة للفقراء لا تتجاوز مائتي دولار أمريكي يبدأ بها الفقير عملاً لكسب قوته وقوت أهله. هذه القروض ميسَّرة الدفع وبلا فوائد أو ضمانات. والآن هناك آلاف الأسر البنغلاديشية التي خرجت من تحت خط الفقر بسبب هذه الفكرة البسيطة على يد رجل لم يكن يملك إلا الفكرة والإيمان بها.

إنك حين تقرأ قصة الدكتور يونس وهو يسرد ملامح مسيرته مع نظامه وكيفية ابتداعه في إيجاد الحلول الواقعية لمعاناة شعبه، فإنك تجد في كل هذا حكمة ودرساً تستفيد منه وتستخلصه، بعيداً عن استنساخ الأفكار. وهذا ما أكده الدكتور يونس نفسه حين استدعي لزيارة عدد من الدول العربية لغرض نقل تجربته، فكان من بين أهم نصائحه «ابدأ بسيطاً، صغيراً، حتى تتعلم وأنت تكبر، وحتى يسهل عليك وضع نظام وشروط عملك الخاصة دون التقيد بقوانين البنوك المعقدة في بلدك».

مثل هذا المشروع يمكن استلهام فكرته وتطبيقها في عالمنا العربي كجزء من النشاط الخيري بعد إدخال التعديلات التي تناسب أوضاع مجتمعاتنا. وعوامل نجاحه كثيرة منها توافر صيغ التمويل الإسلامي. هذه الصيغ التي كشفت الأزمة المالية الراهنة قدرتها على تقديم حلول لمشكلات التمويل والائتمان العالمية.

إن كان بيل غيتس هو أول من أطلق الدعوة إلى رأسمالية خلاَّقة، فيمكن القول إنه هو كذلك الذي أرسى قواعدها من خلال نشر وسائل المعرفة التكنولوجية الحديثة عبر العالم، على الرغم من أثرها في زيادة الهوة بين الفقراء والأغنياء. ولردم تلك الهوة، جاءت الدعوة إلى حقبة رأسمالية جديدة تخدم الطرفين من خلال خدمة المبدأين المتصارعين في النفس الإنسانية وهما المصلحة الشخصية والاهتمام بالآخرين. ومن هنا فإن الرأسمالية الخلاَّقة نظام يخدم المصلحة الشخصية مع الاهتمام بالآخرين في الوقت نفسه عبر دوافع الربح والإشادة بالجهود. هذا النظام لا يتحقق بالطريقة التقليدية التي تفصل الدوافع البشرية عن بعضها البعض، وبالتالي لا يتحقق الغرض من كليهما في الوصول إلى خدمة البشرية. والصيغة التي يمكن أن نطرحها نحن في المقابل هي صيغة الرأسمالية الخيرية الإسلامية التي تجمع بين حق الغني وحق الفقير في الاستفادة من الثروة.

أضف تعليق

التعليقات

عبدالله الهاشمي

شكرا مرة اخرى لمجلة القافلة وللاستاذة فاطمة الجفري من مجلة القافلة. اسعدني جدا التعامل مع مجلتكم الرائعة. عبدالله بشرى الهاشمي