قبل عامين، نشر الأديب الأردني جمال ناجي روايته «عندما تشيخ الذئاب»، التي كانت ثمرة إجازة التفرغ الأدبي التي حصل عليها عام 2007م من وزارة الثقافة الأردنية. وخلال العام الجاري، صدرت عن الدار العربية للعلوم الطبعة الثانية من هذه الرواية التي ترصد بعض أوجه التحول الاجتماعي في ناحية محددة من نواحي العاصمة الأردنية عمَّان. نائية الرفاعي تعرض قراءتها لهذه الرواية، وتختار لنا فقرات من أقوال شخصياتها تعبِّر عن عالمهم وقضاياهم ونظراتهم إلى بعضهم في بيئة تبدو أليفة للكثيرين.
عن روايته «عندما تشيخُ الذئاب» يقولُ جمال ناجي: «بعد أن فرغت من كتابة الرواية تأملت شخوصها من جديد وتنبهت لوجود ثلاث خيبات بسبب الشخوص الأخرى وتبرمها وتمردها. وعلى الرغمِ من كل ما يودّ المشاركون في هذه الروايةِ قوله، سواءَ أكانَ صدقاً أم كذباً، أم دفاعاً عن النفس، فإنّ الحقيقةَ لن تكونَ حريّة بالاهتمامْ، إذا لم تكُن قادرةً على حمايةِ نفسها».
فهل تمكّنت الروايةُ من إماطة اللثام عن حقائق قادرة على حمايةِ نفسها مهما خبّأتها عباءات الزيف وتسترت عليها؟
جمال ناجي، روائيّ وفنّان تشكيلي أردني من أصول فلسطينية، وُلدَ في أريحا وانتقل للعيش وأسرته في العاصمة الأردنية عمّان. لهُ عددٌ من المشاركات الفاعلة في المشهد الأدبي الأردني، أهمّها ترؤسه رابطةَ الكتّاب الأردنيين لسنتينِ متتاليتينِ. تقاطع دربه و درب الروايةِ في السبعينيات من القرن المنصرم، فكتبَ «الطريقَ إلى بلحارث» الروايةَ التي نالت نجاحاً كبيراً وقتذاكَ، وكانتْ باكورة إبداعاته الروائية المتتالية متباينة المُحتوى. صدرت له مجموعة متلاحقة من الروايات كان مسكُ ختامها رواية «عندما تشيخُ الذئابُ».
لماذا «عندما تشيخُ الذئاب»؟
لدى الوقوف على عتبات هذا النص الروائي، لا ينتظر القارئ طويلاً ليعي أن الكاتبَ قد جعل من عنوان النص مفتاحاً يلج من خلاله أي قارئ شاء إلى الداخل بيُسر، مهيئاً إياه إلى وجبة أدبية شهية. فالعنوانُ كانَ بمثابة «ومضة» تشي بمحتويات النص من دون أن تفضحها، فعلى سبيل المثال -لا الحصر- نجده يشي بمسألتين: الأولى عنصر الزمن في الرواية، والثانية: فكرة عامة حول الصفات المقترنة بشخوصها. فأما الأولى: فالمفردة «تشيخ» تشي بأن عنصر الزمن في الرواية هو فترة زمنية لا تقل عن أربعين عقداً على الأقل، فيتهيأ القارئ لخوض غمار أحداث متواترة لفترة زمنية قد تشكّلت لديه فكرة حولها مسبقاً وسمحت له أن يتابع ويتنبّأ ويترقّب. وأما الثانية، فالمفردة ذاتها -تشيخ- توحي للمتلقّي بأن شخوص الرواية قد أصيبت بالشيخوخة، ويبقى عليهِ أن يتمّ القراءة ليتأكد من كون هذه الشيخوخة حقيقة أو مجازاً. وأما الصفة الأخرى التي أطلقها جمال ناجي على شخصوص الرواية -الذئاب- فيتوقع القارئ من خلالها أن يكون الكاتب قد تطرّق إلى قضايا فساد أو نفاق أو مكر وخبث، وتوحي بعدد من الحالات النفسية السلبية قد يكون أخضع شخصيات روايته لها، لتتنكَّر لبشريتها وتصير ذئاباً.
عنوانٌ فني كهذا يحتاج قارئاً ذكياً، يلج صفحات الرواية دون تأنّ، فمع كلّ صفحة تُقرأ من الرواية سيتكشَّف للقارئ صحة استنتاجاته المتشكلة من خلال العنوان (الومضة) الذي اختاره جمال ناجي لروايته، فيجد أنها قد مثّلت تداعيات عديدة لوقائع وأشخاص جاءوا من بيئات متباينة، وناقشت قضايا مجتمعية تستند على محاور يصعب النقاش فيها في مجتمع يمكن أن يخرسه القانون ببساطة! وبذلك نجد أن الشخصيات في الروايةِ قد انخرطت تباعاً في مواقف حياتية خبيثة جعلت منها ذئاباً بشرية، تلوّثت بالخبث والمكر والفساد، ولا ننسى أن لمفردة «الذئاب» في تراثنا العربي دلالات عديدة، فذئاب الصحارى على سبيل المثال كان لقباً يُطلق على الصعاليك من الشعراء.
والذئاب -خلافاً لكل الكائنات الحية جميعها- مخلوقات تزداد مكراً وشراسة ومخاتلة كلما اكتهلت وشاخت! تصير أشرسَ وأكثر حرصاً على «اصطياد الفرائس» وبإسقاط هذه الصفات على شخوص الرواية، نجد التسمية من العمق بمكان!
ماذا تخبِّئ لنا الرواية في الداخل؟
انطلاقاً من ستينيات القرن المنصرم، ومن قلب عمّان القديمة ونواحيها، من أحيائها الفقيرة شبه المعدمة، من أمشاجها التي تضجّ بالعتيقِ، يخرج لنا جمال ناجي بشخصيات روايته «عندما تشيخ الذئاب» ليسلّط الضوءَ من خلالها على مجموعةٍ من القيم والسلوكيات التي تهتّكت إثرَ انبثاقها من هموم المجتمع -الأردني- المتجسّدة في قضايا اجتماعيّة استراتيجية كالبطالة والفساد والانحراف.. يشتبك من أجلها العقل والقلب والجسد.
من عمّان، من «جبل الجوفة» تحديداً، هذا الحي الفقير تنطلق شخصيات جمال ناجي لتعيث خرابها! تصول وتجول في أحياء عمّان الشرقية، تصلُ إلى الأشرفية وماركا، جبل التاج والقويسمة، فوسط البلد، ثم اللويبدة وإسكان الصحافيين في طبربور، وهلمَّ جراً!.
تناول النص الروائي بسرد متنامٍ حكائي متسق قضايا التفكك في المجتمع من جوانب عديدة، فتطرق إلى التفكك الأسري والروحي وعالج تلك القضايا بأسلوبٍ جميل، ذكي ومتقن، لينتقل من خلالها إلى قضايا سلبية أخرى منتقدة في مجتمعاتنا العربية، والحديث عنها يعني خطاً أحمر. فنجدهُ يذكر السياسة والشخصيات السياسية المُطالبة بالحريات السياسية المطلقة ونفي المقيّد منها، يتحدث عن حكومات الظلّ التي تنشأ من خلال المطابخ السياسية الفارهة وسياسات ما تحت الطاولة. وأخيراً يذكرُ تبعات الحب.. حلالاً وحراماً. فقد تحدّثت الرواية عن صراع الحب والشهوة وعن الخيط الرفيع الذي يفصل ما بينهما، وقد تجسّد ذلك من خلال شخصيات عديدة متباينة ومختلفة تعكس بشراسة إرادتها في انتقاء توجهاتها الخاصة بما يتفق ومصالحها الذاتية. كما تحدثت الرواية عن الأحلام المكبوتة والرغبات غير قابلة التحقيق، الأمنيات التي تظل أمنيات لا تجيء. أما العامل المشترك الأكبر الذي كان يجمع بين أكثر شخصيات الرواية فقد كان عامل الفقر والعوز والحاجة، الفقر بمعانيه، الفقرُ كمشكلة اجتماعية بحتة، كالحاجة إلى المال والخوض في غمار الحياة من أجل العيش، ثم الفقرُ للحب والتضحية بلا هوادة بالروح والجسد من أجله، دون التفكير في الخيط الرفيع الذي يفصل الحب عن الشهوات المُحرّمة، ومن ثم فقرُ الروح التي لم تعد تعرف ربها، ولا يستطيعُ أن يغذيها شيء في الدنيا ليرتفع بها ويعلو، الفقر للطمأنينة والأمان والحاجة الماسة إلى من يلبيهما ويؤمنهما.
أكثر ما تجلّى في الرواية كصراع يجوب في نفوس جميع شخصيات القصة، وكاضطراب حاد تعانيه وتعايشه هو احتراف فن الخداع والغش. تسعُ شخصيات -سندس، جبران، عزمي الوجيه، جليلة، الشيخ الجنزير، رباح الوجيه، بكر الطايل، العقيد ارشيدات، صبري- استطاع جمال ناجي من خلالها أن يحكم قبضته على العديد من مشكلاتِ المجتمع العربي عامة، والأردني خاصة، أحكم قبضته عليها وضبطها تتأرجحُ في أفكاره يمنة ويسرة فأخرجها لتمارس جنونها في أحياء عمّان الشرقية. تسعُ شخصيات استطاع جمال ناجي من خلالها أن يتحدّث بحرية وسلاسة عن الخيانة اللصيقة في الذات البشرية، الخيانة بمفهومها الشاسع، خيانة النفس للنفس وخيانة النفس للآخرين، تحدث وأسهب عن الكذب، عن النفاق الاجتماعي والسياسي والفكري والأخلاقي، الذي جسَّد جمال ناجي من خلاله كيف يمكن أن ينخدع ذوو القلوب البريئة الطاهرة بالظاهر، وكيف أن النوايا أمرٌ لا يُمكن أن تكشف عنه أجهزة كشف الكذب مهما حاولت!.
يطوِّع جمال ناجي شخوص روايتهِ في محاولةٍ لجعلها تؤوّل هذا الفساد الأخلاقي، وتشرح الانهيار الفكري الذي غزا المجتمع وصار وجهاً من وجوهه المتعددة لا يُمكن نزعه ولا إحراقه، فيحاول أن يستدرَّ أفكاره أن تنهمر أكثر فيناقش الزواج والطلاق ثم يدمج هذه القضايا الاجتماعية بقضايا أخرى أخلاقية لصيقة بها، كالخيانة الزوجية وغيرها.
خمسون فصلاً قصيراً ومنفصلاً تمكَّن جمال ناجي من خلالها تلخيص العديد من القضايا والتيارات المهمة، مسلطاً الضوء على السلبيات والتجاوزات الكثيرة غير المقبولة التي يعجّ بها المجتمع ويتستر عليها، فيتحدث عن اللا قيم، واللا اعتقاد، ويركِّز على فكرة تلاشي الثقة ما بين الناس حدّ انعدامها، ويوضح بطريقة خفية أن كل تلك المساوئ كانت نتاجاً للتفكير في المصلحة الفردية العارضة التي تغيِّب أي مبدأ أخلاقي.
اللغة لعبةُ الأديب
الرجل الذي سلّمنا مفتاح روايته لنلج إلى الداخل، لم ينسَ أن يترك بصمة في كل مكان فيها. فلغة جمال ناجي في الرواية كانت لغة بسيطة، بليغة لاعتنائها بمجمل الخطاب، وقريبة من لغة التخاطب المتداولة في المجتمع المحلي الأردني، فنجده حريصاً على الجمع ما بين اللغة الثرية والسهلة في آنٍ معاً، بحيث لا يستعصي فهمها على أحد، فلا تكون اللغة الصعبة الممتنعة، ولا اللغة سهلة البناء أو ركيكة النسيج اللغوي.
الأسلوبُ والتقنية السردية
القارئ لنص روائي يرتفع فيه منسوب العاطفة كنص «عندما تشيخ الذئاب» سيشعر أن صاحب هذا النص قنَّاص ماهر للحالات الشعورية، ومصوِّر لغوي متمرِّس يستطيع تسليط الضوء عليها مستخدماً أبسط المفردات وأسهل التراكيب، مبتعداً عن الجذل منها لكي يصل عميقاً إلى قلب القارئ. لقد استطاع جمال ناجي -في كل مرة كتب رواية فيها- أن ينجح في اختيار الفكرة المناسبة لها وتسليط الضوء عليها لمعالجتها، واستطاع أن يُحيكها بنسيج أدبي متماسك متين، ومتباين مختلف، حريصاً على ألاَّ يُكرر نفسه، وألاَّ يقدِّم شيئاً كان كان طُرق من قبله مسبقاً. والقارئ المتمعّنُ في كتابات جمال ناجي الروائية، لا بد سيلاحظ بأنه روائي يتبع أسلوباً وسطاً ما بينَ العمق والسطحية، ومحاولاته كأديبٍ للوصول إلى الجدةِ والابتكار دُون المساس بالعناصر الرئيسة التي تقوم عليها الرواية واضحة. فلو نظرنا إلى روايته «عندما تشيخ الذئاب» تحديداً، فسنستنتج بأنها تميزت -من حيث أسلوب سردها- بأمور ثلاثة. أولها: الربط ما بين الأحداث والشخصيات من خلال شخصية محورية واحدة، سماها عزمي الوجيه. إذ يمكن القول بأن جمال ناجي قد نجح في ابتكار حلقة وصل متينة ورفيعة المستوى للربط ما بين فصول القصة، بحيث تتكشَّف الحقائق والأحداث شيئاً فشيئاً في الفصول الأخيرة، فينتهي القارئ من الرواية وعلامات دهشةٍ تحومُ حولهُ: كيف استطاع جمال أن ينجح في ربط الأحداث معاً بهذا الشكل المحترف؟ الأحداث التي ما كانت لتبدو متشابكة بأي حال من الأحوال؟
ويلاحَظ أن كل فصل من فصول الرواية كان معنوناً بعناوين تحمل أسماء الشخصيات التى سردت وروت القصة فبدا فصلاً قصيراً مستقلاً بذاته إلا من بعض تفاصيل صغيرة مشتركة ما بين أكثر من فصل واحدٍ، كأسماءِ أشخاصٍ أو أسماء أمكنة، ويلاحظ قارئ هذه الفصول أن الترابط ما بينها -في البدء- يكاد أن يكون معدوماً، فجاءت منفردة لها راويها وزمانها وأحداثها الخاصة، ليفاجأ بعد إنهائها بترابُطها الخفي المتقن، المتشكل من خلال شخص على دراية تامة وحقيقية بأصول السرد وتقنياته. والرابط الأبرز الذي يجمع ما بين الفصول الخمسين هو «عزمي الوجيه» كما أسلفنا، الشخصية التي تتمحور حولها أكثر أحداث القصة، وتدور حول كوكبها أقمار صغيرة كثيرة من تفاصيل، ولأن الشخصيات جميعها تسرد أحداثاً تتعلق (بعزمي الوجيه) من دون أن يسرد هو شيئاً فعلاً، فإن شخصيته تظل غامضة مبهمة ومحيرة، كمزيج من أفكار متناقضة لعدد من الأشخاص، يحاولون وصف شخص واحد، ويظل عزمي شخصية غير مفهومة تماماً، نراها بعين الحيرة من خلال عيون كثيرة، ولا تنجلي.
ومن هنا نصِل إلى الميزة الثانية التي تميّزت بها رواية جمال ناجي، فنقولُ بأن التقنية السردية التي استخدمها المؤلف لتقديم روايته إلى جمهور القرَّاء كانت من الذكاء بمكان، فنجده قد اختار «البوليفونية» أو كما هو متعارف عليه بتقنية تعدد الروّاة/تعدّد الأصوات، حيث يقوم الكاتب بتقسيم الرواية إلى عدد من الفصول، يحمل كل فصل فيها اسماً لأحد شخصيات الرواية، وتقوم الشخصية بسرد الأحداث كما تعرفها، متحررة من أسلوب «الراوي الذي يعرف كل شيء». الجميل أن هذه التقنيةَ تُبعد الكاتب عن استخدام عبارات الوعظ والإرشاد على لسان الراوي، وتحرره من مأزق الالتزام بالتأريخ. وقد قام جمال ناجي بدمج عدة مستويات حوارية لتدعيم أسلوبه ونسيجه اللغوي السردي، مركزاً على الدراما العالية التي تتمتع بها بعض شخصيات روايته، وجعل كل شخصية تسرد ما لديها من أحداث بصيغة ضمير المتكلّم، مما أوحى بمزيد من الواقعية على القصة، وزاد من فكرة تخلّيها عن الوهم والخيال، بحيث يشعر القارئ بأن كل تفصيل صغير قد مرّ بشخصيات القصة هو حدثٌ بصيغته النهائية، حقيقي مستندٌ على واقعٍ لا يُمكن إنكاره، بعكس ما يفعله ضميرُ الغائب أكثر الأحيان، وبحيث أن استخدامه يجعل من الراوي مجرَّد شخص يسرد أحداثاً لا تعنيه على الأغلب ولا تؤثّر فيه كما تؤثّر في أصحابها ذات أنفسهم. ناهيك عن أن ضمير المتكلّم يلعب دوراً مهماً جداً في السقف الزمني الذي يحدده الروائي لأحداثِ روايته لكي تدور فيه، فعلى سبيل المثال: ضمير المتكلّم يشعر القارئ بقُرب الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، حتى وإن لم تكن كذلك فعلاً! ضمير المتكلّم أكثر ألفةً وحميمية لأن القارئ النّهم إذا ما استطاع الاندماج مع أحداث الرواية ومعايشتها فسيشعر بأنه المتحدث الذي يسرد على الآخرين أحداثاً تمسه وتخصه شخصياً كما لم يحدث قطّ!. وهذا هو أحد أسباب نجاح هذه الرواية صاحبة الأصوات المتعدّدة، والتي هي -بالمناسبة- تقنية سردية كانت قد انتشرت في عالم الرواية في الآونة الأخيرةِ من بعد ما ابتكرها الروائي الكبير نجيب محفوظ في روايته «ميرامار»، فانتهج عددٌ من الأدباء والكُتّابِ هذه التقنية السردية في رواياتهم لإيجابياتها المتعددة، وصداها المحبب، كالطيب صالح مثلاً، ليكونَ جمال ناجي أيضاً أحد هؤلاء الأدباء.
أما الميزة الثالثة التي تمتَّعت بها رواية جمال ناجي فهي: التذبذب السردي المتعمد، اعتماداً على الشخصية المتحدّثة وتناوب سرد الأحداث من قبل كل شخصية بلغتها الخاصة استناداً إلى موقعها الفكري والأيديولوجي.
لقد أتقن جمال ناجي صياغة السرد بطريقةٍ ممتازة، فاهتمّ بالمفردات والتراكيب وكان استخدامه لها ذكياً جداً!. فالفصل الذي تتحدث فيه سندس، يختلف نسيجه اللغوي تماماً عن الفصل الذي يتحدث فيه الشيخ الجنزير، يختلف عن النص الذي يتحدّث فيه بكر الطايل أو جبران. فجاءت لغةُ كل شخصية في الرواية -المفردات والعبارات التي استخدمتها والألفاظ المستعملة- مقترنة بالبيئة التي جاءت منها وتنتمي إليها، تمثّل الفكر الذي يتلبّسها. ودعّم من ذلك استخدام جمال ناجي لبعض العبارات والمفردات العاميّة القريبة من اللغة العربية الفصحى من دون أن يسرف في ذلك أو يغالي، ليعتمد أخيراً على إيحاءات التراكيبِ المتنوّعة.
النقطة الأخيرة التي تحسب لجمال ناجي كنقطة تفوّق موجودة في الرواية هي أن هذه التقنية (تعدد الأصوات) لم تقيده تماماً كما يحدث عادة مع الأدباء، فلقد استطاع أن يجد خيط ربطٍ رفيعاً جداً ما بين كل فصلٍ منفصلٍ وآخر، هذا الخيط الرفيع كان اسمه: عزمي الوجيه، كما أسلفنا، والمفارقة أن شخصية عزمي هي الشخصية الوحيدة التي لم يخصص لها جمال ناجي فصلاً مستقلاً تتكلم فيه أو تسرد شيئاً من خلاله، ومع ذلك فقد تمحورت القصة حول عزمي الوجيه بشكل لافت ومُستغرب، لا تنجلي قبل الوصول إلى الفصول الأخيرة من الرواية.
فمن هو عزمي الوجيه في روايةِ جمال ناجي؟ ولماذا نعده الخيط الرفيع الذي يربط ما بين كل فصول الرواية؟
أهم شخصيات الرواية
استطاع جمال ناجي أن يقدّم لقرّائه بحذقٍ وحنكةٍ ميزةً تختصّ بشخصيات الرواية، فالقارئ سرعان ما يشعر بألفة معها كما لو كانت أحد أصدقائه المقربين، فيُرغم على أن يحبها، وأقله يألفها، على الرغم من كل هفواتها وأخطائها!.
هذه الشخصيات تشترك في أنها تعرضت لأحزان قاصمة، وجور حياتي ممتد، صادفت الفقر في حياتها، فإما أنها استطاعت التغلّب عليه وإما أنه قد فتك بها!. ورغم ذلك فهي شخصيات مراوغة ومخادعة، تثابر في سبيل مصلحتها الشخصية دون الاستناد على مبدأ سليم يوجهها وتسير وفقاً له.
1 – عزمي الوجيه:
يرد اسم عزمي الوجيه في الصفحة الأولى من الفصل الأول كبداية يستهلّ بها جمال ناجي روايته، ونتعرف إليه في الرواية على أساس أنه الشخص الذي تدور حوله أحداث الرواية بشكل عام، فنجد أن الشخصيات جميعها تتحدث عنه وفقَ منظور مختلف كل مرة، وبأساليب تتباين استناداً للبيئة التي جاءت منها الشخصية، واستناداً لثقافتها الفكرية والطبقة المجتمعية التي أتت منها. تختبر مواقف معه تجعلها تحبه أو تحقد عليه، وتصل إلينا الصورة من خلال الشخصية المتكلّمة متعلقة بهذه المواقف، وهذا ينفي صحتها اليقينية.
يمثِّل عزمي شخصية الشاب/الفتى الهادئ، قوي الشخصية، المستقل بنفسه منذ صغره، الذكي، حاد الطباع، الواثقُ ذا الكبرياء، الشاب الذي لا يرضخ. يبدأ ظهوره في الرواية بسيطاً خافتاً، وشيئاً فشيئاً يصبح أهم شخوصها، يتشعب الحديث عنه من خلال أحداث كثيرة، يبدأ بها من خلال انضمامه إلى حلقات دروس الشيخ الجنزير، الذي يجعل من عزمي ساعداً أيمن له بسبب ذكائه وقوة ملاحظته. يحيد عن الطريق المستقيم بعد أن يفقد ثقته بمن كان يمنحه هذه الثقةَ وينغرس شيئاً فشيئاً بالفساد والحرام.
2 – سندس:
تبدأ فصول الرواية بحديث على لسان سندس، الشخصية الماكرة المتحرّرة من كل شيء إلا من رغباتها وإرادتها وطموحاتها. فسندس تمثّل فتاة جميلة ركنت عقلها جانباً لترضي رغباتها لأنها تعلم أن بإمكانها أن تحقّق مطالبها هذه عن طريق توظيفها لسلاح جمالها، دون أن يردعها رادع أو يوقفها مبدأ. ونقول متمرّدة، لأنها -في الحقيقة- ضحية المجتمع المغيَّب عن الوعي، مجتمع سلطوي ذكوري، يتحكم بالمرأة ويذلّها، مجتمع مسحوق يؤرجحه الفقر ما بين دفّتين، ففقرها وجرح كرامتها -إذ تطلّقت في ليلة زفافها الأولِ بسبب عجرفة أبيها، وجُبن زوجها- جرّاها إلى درك التمرّد المذموم، ففقدت ثقتها إلّا بجمالها وأنوثتها..
3 – جبران:
الباحث عن المنصب، المتنكّر لأصحابه وأصدقائه ومعارفه في سبيل المحافظة على منصب وجاه ومال، جبران يمثل صورة لمناضلٍ ماركسي، يدافع عن طبقة الكادحين والمحرومين، يدخل المعتقل السياسي للدفاع عما يؤمن به ويعتقد به. ويسعى سعياً حثيثاً للمحافظة على ثروته التي لم يرثها وإنما صنعها.
يمثل جبران الشخصية الانتهازية المتسلقة، التي تتحكم بها أيدٍ خفية دون أن تعي ذلك فعلاً. حين يصبح ثرياً يبدأ بالتنكر لماضيه، ويتبع هو وزوجته المظاهر الاجتماعية المبهرجة الكذابة، لإقناع نفسيهما بأنهما قد أصبحا من طبقة محرَّمة على الفقراء والمحتاجين ما داما قد تخلّصا من هذه الصفة للأبد، ويتماديان في ذلك حدَّ أن تشتري زوجته قطاً وتسمّيه «سينزي»، لتتباهى به أمام صديقاتها ووجهاء المجتمع!. جبران هو الشخصيّة السياسية (الظاهرة) في الرواية صاحبة المبدأ غير الثابت، الشخصية التي تتبنّى أفكاراً ، ثم تبدأ بالتخلي عنها رويداً رويداً وفقاً لتطورات المجتمع وتبدلاته وانتكاساته.
بعض الملاحظات على الرواية
بالالتفات إلى طريقة جمال ناجي في عرض روايته، فمن الملاحظ اتّساع المدى الذي تدور فيه الأحداث، مما جعل الكاتب يتطرَّق إلى استخدام أسلوب نثر الأحجيات في مواضع مختلفة منها، وبناء أحداث متواترة على أحداث مبهمة سابقة، وهذا يتطلّب من القارئ تركيزاً حاداً ليتمكَّن من التقاط هذه الأحجيات فحلّها. وتأجيل إتمام الرواية إلى وقت لاحق قد يجعل مسألة الكشف عن هذه الحلول سهلاً ممتنعاً إن لم يكن صعباً، كونها مترابطة وتحتاج عقلاً يمتاز بقدرته على الاحتفاظ بالملاحظات والإشارات جيداً، والربط فيما بينها. أسلوبٌ كهذا صعبٌ ويحتاجُ من الكاتب إلماماً ومعرفةً، واستخدامه قد يرفع من قيمة الرواية، إلا أن الإسراف فيه غيرُ محمودٍ ويردّ السحرَ على الساحر!.
بالانتقالِ إلى الموضوعات التي عالجتها الرواية، فمسألة النسبِ والشرف، واختيار المؤلّف لأن يجعل من «القلادة» سراً نادراً ما -وهي قلادة ثمينة كانت تملكها جليلة والدة عزمي، ورثتها عن أهلها، يجيء ذكرها بشكل متقطّع في الرواية إلى أن يتم كشف سرها في الفصل الأخير- فربط السر المشار إليه «بالقلادة» لم يكن متقناً تماماً، لأن جمال ناجي لم يستطع أن يحافظ على عنصر الدهشة المتعلق بهذا السر إلى آخر فصل في الرواية، والقارئ أياً كان يمكن له أن يتوصل إلى الحل قبل الوصول إلى الفصل الأخير بكثير، وأرجح أن السبب في ذلك يعود إلى أن توزيع الإشارات والومضات المتعلقة بالسر لم يتم بالشكل الذي يحافظ عليه من عيون القرَّاء أن تكتشفه وتصل إليه قبل أن يتطرَّق إليه الراوي.
أسرف الكاتب في بعض المواضع في الحديث عن جانب دون الالتفات إلى جوانب أخرى كما يجب. وقد ظهر ذلك في روايته في مواضع قليلة، بحيث إن بعض أحداث الرواية كان وجودها غير مستساغاً تماماً، وكان يمكن الاستغناء عنها بسهولة دون أن يقوّض ذلك بناء الرواية العام. ومرَّت بعض أحداث الرواية عجِلة وسريعة، ولم يسهِب الراوي كثيراً بشأنها كما فعل في بعض الفصول الأخرى بشكل مطوَّل وغير مبرَّر، كالأحداث المتعلّقة بعزمي وشرطة المباحث، هروبه منهم ومرواغته إيّاهم، وعدم قدرتهم على الإمساك به. هذه الأحداث كانت مقتضبة بشكلٍ مستغرب إذا ما قورنت -مثلاً- بالأحداث التي كانت تقصها سندس بتفصيل شديدٍ وبشكل فائض عن الحاجة أحياناً، كحديثها عن زيجاتها وتفصيلات بحثها ولقائها بعزمي الوجيه، وغير ذلك.
وكما أسلفنا، فشخصيات الرواية -أغلبها- جمعت فيما بينها صفات مشتركة كان التركيز على وجودها في الرواية طاغياً، فجميعها استغلالية وانتهازية همّها الأول مصلحتها الذاتية، خرجت من بيئة فقر وعوز، وصولية تستند إلى مبدأ مغلوط لتسيير حياتها، فهل يصب هذا التعميم في صالح الرواية أم ضدها؟
والمستغرب -إلى حد ما- أن الشخصيات جميعها لم تأت على ذكر ماضيها والتطرق إليه، ظهرت للقارئ كأنها قد انبثقت في مرحلة زمنية معينة، وقُصَّت جذورها تماماً، لتبدأ رحلتها من أجل تشكيل جذور أخرى من جديد. فهل يصب هذا في صالح الرواية حقاً؟
قالوا في هذه الرواية
•
رئيس الوزراء الأردنى الأسبق فيصل الفايز، على موقع أخبار الجزيرة: «إنها تشكل انعطافة فى التجربة الروائية الأردنية بما فيها من دلالات وغوص فى الشخصية الأردنية الإنسانية.. وجدت من خلال قراءتى أن شخوصها تتحرك فى أحياء متباينة، تنبض بالحياة وتعبِّر عن مرحلة من مراحل التحول فى مجتمعنا».
•
الناقدة مريم جبر: «إنها تُعد تمثيلاً حقيقياً لسعي مؤلفها في تجاوز الذات، والشكل الروائي معاً، حيث برع المؤلف فى تجسيد تناقضات الذات الإنسانية وانفعالاتها ومواقفها إزاء الأحداث السياسية والمتغيرات الاجتماعية».
•
الناقد الدكتور سليمان الأزرعي: «هي الرواية الأكثر مهنية ونجاحاً وتعمقاً في إدراك القوانين غير المنظورة التي تحرِّك المجتمع».
«عندما تشيخ الذئاب»
فقرات من أقوال أبطال الرواية
سندس
في ذلك الجبل الذي تعتلي فيه البيوت بعضها، وتفصل بين صفوفها أزقة أو أدراج ذات حواف منحوتة، تحدث أمور أغرب من أن يصدقها أهل عمان الذين تعرفت إليهم في السنوات الأخيرة، فالإنسان هناك ليس هو المالك الوحيد لبيته وفراشه، الملكية موزعة بينه وبين الكائنات الأخرى، لأن «الشراكة قائمة بين الناس والكائنات الأخرى التي تدبّ على الأرض بانتظام مرسوم» حسبما قال لي عزمي، بعد أشهر من زواج والده رباح مني.
فاجأني بقوله هذا، فهو مقلّ في الكلام مثل أمّه، ويتحدث بطريقة الكاشف لما وراء الأشياء!
فكرت فيما قال. بدأت أنظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، وتبيَّن لي أن للحياة في حيِّنا السفلي نظاماً خاصاً، على الرغم من الفوضى التي يسببها الناس بعد صحوهم من نومهم وذهابهم إلى أعمالهم. فعصافير الدوري تتناوب على حيِّنا فجراً، ليس بسبب بساتينه أو أزهاره، التي لا وجود لها، إنما لأنها تجد ما تقتات عليه من الديدان المذنبة القريبة من قنوات المياه العادمة في الأزقة، وتجد ما تشربه من البرك الصغيرة المتجمعة من المواسير العامة، التي يعمد السكان إلى كسرها لأنها تمر من الحي وتغذي مناطق جبل التاج والأشرفية وغيرهما، فيما تنقطع عن بيوتهم أياماً طويلة.
من المفروض أن لي ثأراً عند الجرذان لأنها قتلت أبي، لكنني تنازلت عن ذلك الثأر بطيب خاطر. فبحسب رواية أبي فاروق الذي كان يسكن في زقاقنا ويلازم أبي ليلاً إلى مكان لا أعرفه، أن الرجلين عادا مخمورين مترنّحين وقت السحر كعادتهما، وداس أبي بحذائه جرذاً سميناً بغير قصد، فانزلقت قدمه بسبب لدانة جسم الجرذ وسقط جسمه الضخم على القناة الضيقة للمياه العادمة، فصار يشتم الفقر والثديات والأمانة، التي استغنت عن خدماته في تقليم أشجار الأرصفة، وأحالته على التقاعد قبل أن يتم الثامنة والأربعين من عمره.
بميتته تلك أراحنا من شروره التي بدأت بعد إفشاله زفافي الأول من صبري أبو حصة، ذي الوجه الأبيض العريض، والعينين اللتين توحيان بانعدام الثقة بالنفس أو الناس.
لم أغفر لأبي ما فعله بي يومها، على الرغم من محاولاته إقناعي بأنه لم يقصد تخريب عرسي، ولا منعي من التمتع بشبابي مع صبري أبو حصة، ولا الاحتفاظ بي حزناً على فراقي، إنما حرصا على هيبة العروس فيّ أنا، وصوناً لبيتنا الذي انتهكت رصاصات أبي صبري حرمته.
***
صرت أتأمل الأشياء من حولي، لاحظت أن جدران البيت حزينة، وإسمنت أرضه متشقق، وفناء الدار أشبه بسجن، أما غرفة عزمي فقد أقفلتُها وخبأت مفتاحها بعد أن رتبت ما فيها، وعندما سألني رباح عن سبب إقفال غرفة عزمي الصغيرة قلت: قد يعود.
الشيخ عبد الحميد الجنزير
من يقدر على بسط سيادته على نفسه وبدنه يصير سيداً للآخرين. سبحان الله! عزمي استطاع أن يتحكم بنفسه ويغذيها ويسيرها حسبما يشاء عقله الذي نما وأثمر قبل أوانه. فبعد عامين من تسلمه مركز تحفيظ القرآن، عرف الكثير من خفايا عملنا، وأعد قائمة بلزوميات تحسين المركز وإعانته على أداء رسالته.
***
حاولت تطهير نفس بكر الطايل مما علق بها من قتام حسده لعزمي، قلت له:أنسيتَ أن الحسد كان أول ذنب ارتكب في الأرض يوم حسد ابن آدم أخاه فقتله؟ منذ متى كان إبليس هادياً ومرشداً لك؟ عد إلى كتاب الله يا بكر وحرر روحك من وساوس الشيطان علَّ الله يرزقك.
***
أعرف أن مبالغة بكر الطايل في غضبه وسخطه، يرجع إلى نجاح عزمي وتفوقه، لكنني توصلتُ من دون جهد إلى أن بكراً لن ينجح في حياته، إذ من المؤكد أنه في قراراته يتمنى النجاح وامتلاك ما لدى عزمي من حنكة وذكاء، فكيف يمكن للنجاح والفطنة أن يستجيبا لمن يحسد الآخرين على امتلاكهم لهما؟ كيف يمكنه عقد السلام مع النجاح إذا كان يحاربه حين يمتلكه الآخرون؟ منذ ذلك الحين أخضعت عقل ذلك الشاب النحيل، بكر الطايل، إلى رقابتي.
رباح الوجيه
أفهمت عزمي أن استعجال الرجولة أمر محمود، لكن صعود السلم يتم درجة فدرجة. فأجابني: بعض الناس يصعدون ثلاث أو أربع درجات على السلم في كل مرة.
صحت به: تكذبني يابن جليلة؟
فسكت وسرح.
***
الذي جننني وطلّعني من ثوبي هو ابني عزمي. لأنه لما شعرتُ بالخذلان مع زوجتي الثانية سندس، صار هو يأمرها كأنه زوجُها! وهي تطاوعُه وتستكينُ قدامه مثل الأرنبة. واللهُ على ما أقول شهيد!.
***
أصلاً جبران لم يعجبني، لأنه كان يهتم بشكله أكثر من اللزوم، كأنه واحد من أبناء الذوات، ويلبس بدلة غامقة لا يملك غيرها، على الأغلب أنه اشتراها من محلات الثياب المستعملة في شارع الطلياني، وكان يلمّع نعاله كل يوم مثل المكلفين في التجنيد الإجباري أيام زمان، ويحلق ذقنه كل يوم، ومثل النسوان، يقلع الشعر من فوق حاجبيه، ومن فتحتي منخريه، حتى إنه ما كان يربي شاربيه مثل الرجال!.
جبران
غالبية أولئك الناس ظلوا يعتقدون حتى وقت قريب بأن جبل عمان مكان أرستقراطي، مع أنه هرِمَ واكتهل، ولم يعد من المناطق المترفة بعد أن ظهرت في العاصمة أحياء جديدة راقية، مثل عبدون والصويفية والرابية وسواها من الأماكن التي يمارس الناس فيها انفتاحاً اجتماعياً مدعماً بالثراء الفاحش. جبل عمان أصبح الآن مكاناً هادئاً وقوراً وخاوياً في بعض بقاعه.
***
أيام جبل الجوفة ذهبت إلى غير رجعة، ولست آسفاً عليها، إذ لا توجد فلسفة ولا فكرة ولا ديانة تحول دون استمتاع الإنسان بأمواله، أو تطالبه بالتمسك بالفقر إذا استطاع الإفلات من براثنه، لكن الجنزير وعزمي ظلا يشغلان حيزاً كبيراً في تفكيري، وأحسست بأنهما يمتطيان حصاناً واحداً ويتزاحمان على من الذي سيكون في المقدمة!.
بكر الطايل
تأملت هذه الحياة الفانية، وتوصلت إلى أن الموت أكثر يسراً من العيش في سبخة حياة لا سند للمؤمن فيها ولا عضد. حَسَبتُها وفكرت: طالما أنني مشتاق للقاء وجه ربي، فلماذا أتأخر وأهدر الوقت في حياة كلها عذاب؟ تبرمتُ أمام الشيخ الجنزير، حدثته عما يفعله عزمي الوجيه، وبينت له ما يدور في رأسي، فأغلق عليّ كل المنافذ منهياً حديثه بقوله عد إلى رشدك يا بكر.
العقيد رشيد حميدات
حين وصلنا بيت رباح الوجيه، بعد ساعة من صلاة العشاء، طرقنا بوابته، فسمعنا نحنحة خشنة من النوع الذي يصدر عن المسنين بهدف الذود عن هيباتهم. فتحت البوابة، فرأيت عينين تلمعان في عتمة الدار، حتى إنني خلت الدار كلها كائناً أسود بعينين شبه آدميتين، وحين سلطت شعاع مصباحي اليدوي نحوه، رأيته متكئاً بكلتا يديه على عكازة معقوفة، شعره مغبر بنوع عجيب من الشيب الذي يمتد إلى حاجبيه وشاربيه ولحيته الكثة، كأنه خارج من قبر، أما قدمه فملفوفة بقالب من الجص.
***
أن ما بهرني حقاً، أنني رأيت بعد أسبوع من تلك الحادثة التي كادت تزلزل يقيني بسلامة عيني وعقلي، صورة عزمي الوجيه في واحدة من صحفنا المحلية، وهو يصافح مدير إحدى الجمعيات الخيرية الكبرى، ويسلمه شيكاً بمبلغ ثلاثين ألف دينار، تبرعاً للعائلات المستورة والمعوزين الذين ترعاهم تلك الجمعية! كان مبتسماً في الصورة ومغتبطاً.