تختلف الإعلانات في شوارع المدن والأماكن الخارجية عن غيرها لأسباب كثيرة تشمل توجهها إلى جمهور شبه محكوم بالاطلاع عليها ولا يستطيع تلافيها، وبالتالي تمتعها بفاعلية ترويجية قد تكون أكبر من غيرها من وسائل الإعلان. إضافة إلى أن حضورها الكبير والمتنامي في المدن الحديثة حوَّلها إلى قضية جمالية وبيئية تشغل المسؤولين عن البلديات وتنظيم المدن.
رانيا منير تعرض أوجه هذه القضية، والجهود المبذولة إلى ضبط عالم اللوحات الإعلانية الذي يبدو متجهاً باستمرار إلى مزيد من التضخم بفعل دوره الكبير في الحياة التجارية والاستهلاكية، حتى بات يشكل جزءاً أساسياً من نسيج المدينة الحديثة وشكلاً من أشكال الهوية المميزة لبعضها الآخر.
أصبح الإعلان اليوم ثقافةً وفناً وصناعة مستقلة، وتنوَّعت وسائله وأساليبه بين إعلانات الصحف والجرائد والسينما والتلفزيون والإعلانات الخارجية ومواقع الإنترنت، ولو ألقينا نظرة على تاريخ صناعة الإعلانات لوجدنا أنه فن قديم، إذ يعود تاريخ استخدام الإنسان للإعلان إلى أكثر من 4000 سنة قبل الميلاد.
فقد كان المصريون القدماء والإغريق والرومان يستخدمون ورق البردي للإعلان عن البضائع، كما وجدت رسوم جدارية تمثل دعاية تجارية في أجزاء من آسيا وإفريقيا وأمريكا. وكان بعض الصنَّاع يعلِّقون أدوات مصنوعة من الخشب أو الحديد فوق محلهم وترمز لطبيعة عملهم كالحداد الذي كان يعلِّق حدوة حصان وصانع الأحذية الذي يعلِّق حذاءً. بل إن الطبيعة نفسها من حولنا ترينا من مظاهرها ما يشير إلى وجود الإعلان فيما حولنا، إذ طالما كان الإعلان دائماً وسيلة الطبيعة للتواصل مع مخلوقاتها قبل أن يصبح وسيلة التجار للربح التجاري، فهي مثلاً تستخدم الرائحة واللون وتغير سلوك مخلوقاتها لتعلمنا بوصول الربيع، والطاووس يعلن عن نفسه ليجذب شريكه من خلال التباهي بريشه وألوانه الزاهية، وكذلك طائر الوقواق يعلن من خلال صوته تودده لشريكه.
كما كان الإعلان الخارجي لدى العرب قديماً يتمثل في شخصية المنادي الذي يستخدمه الأمراء والحكام للإعلان عن قراراتهم وما يودون إعلانه للشعب، ثم أصبح التجار يستخدمونه للإعلان عن وصول سفنهم وبضائعهم. وقد انتقلت هذه العادة للغرب، ولم يأخذ الإعلان شكله الحقيقي حتى بداية عصر الطباعة في القرن الخامس عشر والسادس عشر حيث أصبح على شكل منشورات توزَّع باليد. فظهر عام 1477م أول إعلان يهدف إلى زيادة مبيعات كتاب، وفي القرن السابع عشر بدأ ظهور الإعلان في الجرائد.
ظهور الإعلان الخارجي
لكن الحاجة الملحة للإعلان ظهرت مع بداية الثورة الصناعية، وتدفق كميات كبيرة من البضائع. فكان لا بد من الترويج لها وتعريف المستهلكين بها عن طريق الإعلان. فظهرت بالإضافة إلى إعلانات الجرائد والملصقات الجدارية، أشكال أخرى من الإعلان كبالونات الهيليوم، وكتابة الإعلان على القطار ووسائل النقل العامة.
ومع بداية عام 1820م زاد انتشار الدعاية في الشوارع، وبالتالي ارتفعت رسوم الضرائب المفروضة عليها، وازداد التنافس على مساحات الملصقات، مما جعل المعلنين يبحثون عن أفكار وطرق جديدة لجذب انتباه المارة. ففكروا بجعل الدعاية متنقلة، بأن يرفع شخص لوحة إعلانية ويتنقل بها في الشوارع أو أن يرتدي الشخص الذي يعمل كلوحة إعلانية ملابس غريبة تحمل الرسالة التي يعلن عنها. فقد ارتدى أحدهم قبعة أطول بثلاث مرات من القبعات المعتادة في ذلك الوقت وكتب عليها «زوج من الأحذية بـ 12 فرنكاً». كما ظهر ما سمي بـ «سندويش اللوحة الإعلانية» وكانت عبارة عن قالب من الإعلان يلف الرجل به جسمه فيبدو فيه كسندويشة ليقرأ الناس الإعلان المكتوب حوله. وما زالت هذه الطريقة موجودة حتى الآن، فنجد الكثير من رجال الإعلان بزيهم الغريب يتنقلون في شوارع ويستمنستر حيث منعت اللوحات الإعلانية الكبيرة.
وهكذا بدأ الإعلان يُعد الوجه الآخر للنمو الاقتصادي، ويشكِّل دعماً كبيراً للاقتصاد الوطني بشرط ألا يكون مضللاً للمستهلك فيفقد صدقيته. وفي عام 1841م ظهرت أولى وكالة دعاية وإعلان في بوسطن، أسسها فولني بالمير. ومن ثم، ومع انتشار المحطات الإذاعية في أعوام 1920م أصبحت الإذاعة وسيلة إعلان وسرعان ما لحق بها التلفزيون في مطلع الأربعينيات.
خصوصية اللوحة الإعلانية
ومع بداية الستينيات من القرن العشرين، بدأت صناعة الإعلان تنحو منحى جديداً، إذ لم تعد الدعاية البسيطة المباشرة تكفي لإثارة انتباه المستهلكين، لهذا بدأ البحث عن أفضل المواهب والأفكار الإبداعية الجديدة. وأصبحت الدعاية فناً بحد ذاته، حيث تقوم شركات الإعلان بدراسة المنتج دراسة وافية وتصميم شعار له وعلامة تجارية خاصة به، وإعداد حملة إعلانية للترويج له. ففي إعلانات التلفزيون أو الراديو قد يتاح للمصمم مساحة تعبير أكبر في استخدام الصورة والصوت والحركة والألوان لجذب انتباه المستهلك، بينما في الإعلانات الخارجية فهي تُعد تحدياً حقيقياً لمصمم الإعلان حيث إن المشاهد يكون متحركاً، وغالباً مستعجلاً، لذا يجب أن تكون الفكرة مختصرة ومقدَّمة بشكل واضح يحقق التأثير المطلوب. ومن مميزات الإعلان الخارجي انخفاض تكلفته مقارنة ببقية أنواع الإعلان، وبهذا يتمكن أصحاب الشركات والأعمال المتوسطة والصغيرة من إيجاد فرص للإعلان من دون تكاليف باهظة.
وفضلاً عن أهمية الملصق التجارية، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفن الرسم. وكان من رواده وأساتذته في أوروبا جول دي شاريت وتولوز لوتريك اللذين كانا يرسمان الملصقات للمسرح والسيرك وأغلفة الكتب وعبوات زجاجات العطور. وكذلك قدم بابلو بيكاسو الكثير من الأعمال المميزة في فن الملصق حيث كان حوالي العام 1946م ولمدة عدة أشهر يتردد على شارع دي شابرول ويعمل يومياً كأي مصمم للطباعة الحجرية.
في الوقت الحاضر، انتشرت وكالات الإعلان المتخصصة. وراحت تتنافس في ابتكار الأفكار والوسائل الإعلانية الجديدة. فإضافة إلى الملصقات واللوحات الإعلانية تقوم بعض شركات الإعلان بتحويل شعار الشركة أو العلامة التجارية إلى تصميم ثلاثي الأبعاد على أي سطح كالأرضيات أو العشب في سهل أو حقل أو منحدر أو أرضية ملعب أو شاطئ البحر. وبعد نهاية الحملة يتم إزالة الإعلان دون أن يضر بالبيئة أو يترك أي أثر. وقد لاقى هذا النوع من الإعلانات رواجاً كبيراً لغرابة الفكرة وجاذبية التصميم، فقامت الصحف بنقل هذه الصور وانتشرت كذلك عبر الإنترنت من خلال هواتف المارة الذين كانوا يلتقطون الصور لها مما جعلها وسيلة فعالة تخلِّف الدهشة والإثارة حول المنتج وتحقق له حملة إعلانية ناجحة.
السيطرة الكاملة على المشهد
البصري للمدن
لا يتوقف الأمر على اللوحات الإعلانية ورسوم الجدران والأرضيات، بل إن تقنيات الدعاية المعاصرة جعلت من الممكن تحويل السيارات والقطارات والشاحنات والحافلات والطائرات إلى لوحات إعلانية متنقلة. وقد جاء في نشرة لإحدى شركات الإعلان تعرف بطبيعة عملها: «هل تعتقد حقاً أن الأرصفة والشوارع وجدت فقط للمشي؟ وأن النوافذ وجدت فقط للنظر من خلالها؟ والأبنية وجدت فقط للعيش والعمل فيها؟ والشاحنات لنقل الحمولات فقط؟ وأن وسائل النقل العامة وجدت لنقل الركاب من مكان لآخر فقط؟».
وهذا ما يشير إلى أن ظاهرة الإعلانات اليوم باتت تغطي كل مكان، وأصبح من الصعب إيجاد أية مساحة فارغة لا تشغلها الإعلانات. بل إن عدم استغلال هذه المساحة أصبح يُعد نوعاً من السذاجة وإضاعة فرصة لتحقيق الربح. فهذه الوسائل، إضافة لوظيفتها الأساسية في نقل البضائع والركاب، باتت تحمل رسالة وتحقق مبيعات وأرباحاً.
لقد سيطر الإعلان تماماً على المشهد البصري لمدن العالم. وأصبح ظاهرة بصرية عالمية، لدرجة أننا قد لا نلاحظها أحياناً ولا نلتفت لها. في طوكيو مثلاً من الممكن جداً أن ترى شاحنات كبيرة من دون أية حمولة تتجوَّل في المدينة بهدف عرض الإعلان الملصق على جانبيها فقط. كما تستهدف اللوحات الإعلانية والملصقات مواقف الحافلات ومحطات القطار باعتبارها الأماكن الوحيدة التي يقف الناس فيها من دون فعل شيء، سوى الانتظار. وبهذا يكون لديهم متسع من الوقت لقراءة الإعلان. لهذا تكون هذه الأماكن مغطاة تماماً بالإعلانات، بل أصبح الإعلان يمثل شخصية بصرية لهذه الأماكن.
شروط اللوحة الإعلانية
يجب أن يتوافر في اللوحة الإعلانية عدة شروط لتتمكن من إيصال رسالتها للمتلقي. فهي موجهة إلى المستهلك المار في الشارع، وعليها أن تلفت انتباهه خلال بضع دقائق أو أثناء مروره على طريق عام أو شارع مزدحم، وتخلِّف لديه انطباعاً قوياً يجعله يفكر بها. لهذا يجب أن تكون الكلمات واضحة وموجزة وألوانها متناسقة وأحياناً قد تغني الصورة المعبرة عن الكلمات، حتى إن «الحكمة» الغالية على قلوب كثيرين وتقول «إن الصورة تُغني عن ألف كلمة» ظهرت أساساً من تقييم نوعية الإعلان على السيارات في أمريكا خلال النصف الأول من القرن العشرين.
كما يجب أن يراعى اختيار مكان اللوحة على الطريق، فلا توضع في اتجاه معاكس للمرور، وعلى التركيز على انتشارها في الطرق العامة الخالية أن يكون مفيداً للسائقين بحيث تدلهم على مراكز الطعام والوقود.
محاذير موضع خلاف
في أوروبا تُعد اللوحات الإعلانية عنصراً أساسياً يشكل المظهر العام للمدن ومصدر دخل مهم للبلديات والحكومات. وقد قدر الإنفاق على الإعلان عام 2007م بحوالي 150 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، و385 مليار دولار في بقية أنحاء العالم. ففي أمريكا كان هناك ما يقارب 450000 لوحة إعلانية على الطرق العامة فقط في سنة 1991م. وقد اشتكت بعض الجماعات من تلك اللوحات لما تسببه من إزالة مفرطة للأشجار وتتطفل على المناظر الطبيعية المحيطة، إضافة إلى ألوانها الصاخبة وإنارتها التي قد تشتت انتباه السائق مما يشكل خطراً على السلامة العامة. ولكن في المقابل، كان هناك جماعة أخرى ترى أن اللوحات الإعلانية تسهم بشكل كبير في تشكيل الثقافة الجمالية وتوفير شعور بالاكتمال والرضا لدى المستهلك من خلال ما توفره من بضائع وخدمات.
وقد بدأت منذ عام 1909م المحاولات في عدد من الولايات لوضع قوانين حظر وضبط لعملية انتشار اللوحات الإعلانية. وفي عام 1971م وضع قانون لحظر الإعلانات التي يمكن أن تهدِّد السلامة المرورية وتشوِّش انتباه السائق ولكن سرعان ما ألغي في عام 1981م لأنه يحظر اللوحات التجارية وغير التجارية على حد سواء.
ورغم الاتهامات الموجَّهة إلى اللوحات الإعلانية، أثبتت دراسة قام بها باحثون في جامعة كارولينا عام 2001م أن بعض العناصر في السيارة كالإذاعة واللوحات الإعلانية والتحكم في درجة الحرارة لا تُعد من الأمور المشتِّتة. كما قام خبراء السلامة المرورية بدراسة العلاقة بين وجود الإعلانات الخارجية والحوادث المرورية التي وقعت منذ عام 1950م فلم يجدوا أي دليل علمي موثوق يثبت أن لهذه اللوحات أية علاقة بالحوادث المرورية. إلا أنه تم التشكيك بمصداقية نتائج هذه الدراسات، واتهامها بالتحيز كونها ممولة من قبل وكالة الدعاية الخارجية الأمريكية.
ومن جهة ثانية تؤكد إحصاءات وزارة النقل وشركات التأمين في الولايات المتحدة التي تقوم بدراسة مفصلة لحوادث المرور عدم وجود أية علاقة بين الإعلانات والحوادث المرورية. بل على العكس، تُعد اللوحات الإعلانية في المناطق النائية مصدر إنارة وأمان لسائقي الدرَّاجات، وتساعد على تبديد الملل لدى السائق. وبهذا تكون مساهمة في توفير المزيد من السلامة المرورية على الطرق العامة. ولهذا أعلنت وزارة الطرق العامة الفيدرالية أن اللوحات النظامية لا تشكِّل أي خطر على السلامة المرورية، شرط أن تحدد معايير متفق عليها بين حكومات الولايات حول حجم وإضاءة ومساحة اللوحات الإعلانية المسموح بها، وتعيَّن مناطق محددة لها. وتمنع الحكومة عن إزالة اللوحات المخالفة دون دفع تعويض للمالك.
ورغم وجود هذه المعايير والأنظمة التي تحد اللوحات الإعلانية النظامية إلا أن وجودها ما زال موضوع نقاش حاد من قبل خبراء سلامة الطرق حول العالم. وكمحاولة من بعض المدن للحد من التلوث البصري الذي يمكن أن يسببه الانتشار الكبير للإعلانات، قامت مدينة أثينا في عام 2000م بحملة استمرت سنوات أربع لإزالة اللوحات الإعلانية التي كانت تغطي تماماً سطوح المنازل والأبنية وتشوه المعالم الهندسية المميزة فيها، وكانت تُعد مخالفة للقوانين ولكن تم تجاهلها، إلى أن بدأ التحضير لأولمبياد صيف 2004م. فكانت هذه الحملة الناجحة من ضمن التحضيرات لتجميل المدينة وتحسين مظهرها أمام السياح القادمين لحضور الألعاب الأولمبية رغم اعتراض المعلنين ومالكي الأبنية.
أما في مدينة سان باولو في البرازيل، فقد فرض عام 2007م حظر للوحات الإعلانية لعدم وجود نظام قابل للتطبيق يخص صناعة اللوحات الإعلانية. ويتم العمل حالياً مع شركات خارجية لإعادة بناء الهيكل العام الخارجي للمدينة، ووضع القيود والضوابط التي تنظم هذه اللوحات، وتحد من نموها العشوائي.
وفي بريطانيا يتم ضبط انتشار اللوحات الإعلانية كجزء من نظام التخطيط. ويُعد وجود أي إعلان مخالف لم يحصل على موافقة من سلطة التخطيط مخالفة للقانون يدفع مرتكبها غرامة تقدر بـ 2500 جنيه لكل ملصق. وكذلك الحال في مدينة تورنتو في كندا حيث فرضت ضريبة محلية على لوحات الإعلان في أبريل 2010م يذهب جزء منها لتمويل برامج الفنون الجميلة.
فوضى الإعلانات في المدن العربية
بينما ما زالت المدن العربية تعاني من فوضى الإعلانات التجارية وعشوائية اللوحات الإعلانية والملصقات، التي تسبِّب تلوثاً بصرياً شديداً يتمثل في غياب التوحيد والانسجام للافتات أسماء الشوارع والعناوين بالمدينة، وتداخل الإعلانات التجارية والاحتفالية والإرشادية، وفقدان الرسالة الإعلامية الخبرية، مع حجب الرؤية البصرية للمعالم التاريخية أو المعمارية أو الجمالية، وإهمال تجديدها والعناية بنظافتها وسلامتها، وتجاهل إزالة بعض اللوحات والبانرات والإعلانات عن أوجه نشاط واحتفاليات قامت بها مدينة ما وقد تمر شهور على نهاية هذه الاحتفاليات دون أن تزال هذه الإعلانات المنتهية الصلاحية، مما يسبب فوضى وتلوثاً بصرياً وتشويهاً للوجه الجمالي للمدينة.
ففي سوريا مثلاً ولمناسبة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية أزيلت 100000 لوحة إعلانية من شوارع دمشق القديمة. إلا أنه لا يزال هناك الكثير من المخالفات والتشويه لوجه المدينة ومعالمها الأثرية.
وقد حاول مدير الإعلانات بالمؤسسة العربية للإعلان تبرير ذلك قائلاً: «رغم معرفتنا بأن اللوحات الإعلانية الموجودة في دمشق تسهم في التلوث البصري وبالتالي عدم إظهار جمالية المدينة وتشويه معالمها، إلا أننا لا نستطيع منعها. فالإعلان حاجة اقتصادية لا أحد يستطيع الاستغناء عنها، لا المستهلك ولا المنتج. ولمعالجة هذه الظاهرة سمحنا فقط بوضع لوحات ذات خصائص فنية عالية، وذلك على أساس معايير حددتها اللجان الإعلانية المشكَّلة من فنانين تشكيليين وأعضاء من محافظة دمشق والمتمثلة في وضع معيار جمالي يحقق السلامة العامة. فمثلاً يجب ألاَّ تعوق اللوحات السير أو المشاة أو تؤدي إلى حوادث. ولذلك قمنا بإزالة أعداد كبيرة منها على الطرقات العامة، وأبقينا تلك التي تتمتع بالمظهر الجمالي والقيمة الفنية العالية. أما في مراكز المدينة مثل الصالحية وشارع العابد، فقد عوضنا عن اللوحات بأخرى وضعت على الأرصفة للدلالة. وقمنا بحملات إعلانية في التلفزيون والجرائد والإذاعات لتوعية الناس من مضار هذا التلوث، وفرضنا غرامات على أصحاب اللوحات الإعلانية المبعثرة عشوائياً. ولم يكن القصد من الغرامة هو العقوبة، بل تنبيه الناس إلى أن ما يفعلونه هو من المحرمات القانونية لما له من أضرار على البلاد».
وفي الأردن، ورغم المطالبة بإزالة اللافتات الإعلانية التي تغطي البنايات والجدران وتشوه جمال عمَّان، فإن الشركات الإعلانية رفضت إزالتها بحجة أن ذلك يسبب خسائر فادحة لها، وأن التطورات الاقتصادية التي تشهدها المملكة تفرض وجود هذه الإعلانات.
أما في المملكة، فيُعد الوضع أفضل حالاً مما هو عليه في معظم البلدان العربية. ففي الرياض مثلاً تمت إزالة اللوحات الإعلانية التي تسبب تلوثاً بصرياً وتُعد مخالفة أو غير مطابقة للمواصفات التي أعدتها وزارة الشؤون البلدية والقروية. كما تُعد مدينة الخبر حالة نموذجية لواحد من أكثر أشكال توزيع اللوحات الإعلانية تنظيماً. إذ إن معظمها يحتل مساحات مؤطرة وموحدة على أعمدة الإنارة في الشوارع الكبرى ذات مساحة معقولة، تسمح بفعل تكرارها بإيصال رسالتها إلى المارة في الشوارع وذات مقاييس معتدلة لا تعوق أنظار السائقين ولا مشاهدة معالم الشوارع. في حين أن اللوحات الإعلانية العملاقة تأخذ شكل أسوار تحيط بالأراضي غير المبنية فلا تحجب رؤية أي شيء يستحق الرؤية. أما المشكلة الوحيدة التي يواجهها بعض هذه اللوحات، وخاصة تلك المتعلِّقة بمناسبات محددة، فهي بقاؤها طويلاً في الشوارع بعد المناسبة وكأنها منسية، أو كأن من علَّقها غير مسؤول عن نزعها بعد انتهاء المناسبة.
وحال اللوحات الإعلانية في مدن المملكة هو نفسه بتنظيمه وإيجابياته وسلبياته المحدودة ينطبق على حالها في معظم دول الجوار الخليجي، حيث بلغ التنظيم المدني مكانة مهمة، ويحظى باهتمام كبير من المسؤولين عن البلديات.
وفي مصر، تحوَّلت القاهرة إلى معرض دائم للوحات الإعلان والملصقات. لهذا عمل المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية على وضع أسس ومعايير التنسيق الحضاري للإعلانات واللافتات لعام 2008م بما يحقق المتطلبات المرورية والعمرانية والبصرية. وتشمل الأهداف العامة للدليل الأسس التالية: «تصحيح الصورة البصرية والمحافظة على جماليات المدينة، وضع أسس وقواعد تقنن علاقة الإعلانات واللافتات بحرم الطريق والمجال العمرانى المباشر له، تحديد المسافات البينية للإعلانات واللافتات باختلاف أنواعها ورسالتها الإعلانية أو الإرشادية أو التوجيهية، تحديد مواضع الإعلانات واللافتات فى حرم الطريق ومجاله والبيئة المحيطة، وضع القواعد المعيارية لمقاسات وأحجام وأشكال كافة الإعلانات واللافتات، وزوايا الرؤية واتجاهات الحركة الآلية والمشاة، تحقيق السلامة منعاً للحوادث والمخاطر الممكنة، ضمان توافق تصميم الإعلانات واللافتات مع البيئة العمرانية، وضع الاشتراطات المنظمة لنوعية ومستويات الإعلانات واللافتات، وضع ضوابط لعدم نمو عشوائيات الإعلانات واللافتات في المدن، وما ينتج عنها من تلوث بصري وجمالي وعمراني للبيئة». ولكن رغم هذا، وربما لتراخٍ في تطبيق هذا الدليل، ما زالت القاهرة تعج باللوحات الإعلانية، وبشكل لا يختلف كثيراً عما كان عليه الحال قبله.
حالة قصوى
وتتجلى مظاهر قضية اللوحات الإعلانية بأوضح صورها، وبكل سلبياتها وإيجابياتها في أماكن محددة أكثر من غيرها، ومنها لبنان مثلاً. ففي بيروت وعلى طول الطريق السريع الواصل ما بين العاصمة والمدن الرئيسة، تبدو جنبات الطريق وكأنها غابة من الصور العملاقة التي يختلط فيها كل شيء بدءاً من الترويج للملابس والعطور والجواهر وصولاً إلى الدعاية السياسية للانتخابات وتكريم الشهداء.
وعلى الرغم من الجهود الموسمية التي تبذلها الحكومة والبلديات لضبط هذه الصناعة الضخمة، والتي تسفر عن إزالة بعض هذه اللوحات من حين إلى آخر، فإن أضعافها يقوم لاحقاً مستفيداً إما من لي ذراع القانون وتفسيراته، وإما من طغيان اهتمام عام بقضية أخرى غير قضية الإعلانات في الشوارع. بحيث استباح المعلنون كل أعمدة الإنارة على طولها، وجدران الأبنية المجاورة وكل مساحة غير مبنية يمكنهم أن ينصبوا فوقها لوحة معدنية تؤجَّر للمعلنين المختلفين تباعاً.
وعلى الرغم من عدم توافر أرقام دقيقة عن حجم صناعة الإعلان في لبنان، فمن المرجح أنها ضخمة جداً، وعلى الأرجح هي الأكبر عربياً مقارنة بعدد السكان، وبإجمالي الناتج الوطني. ومن ثمار ازدهار هذه الصناعة التي يعمل فيها الألوف من المصممين والعمال والموزعين (غير المنتج والمستهلك) هو بلوغ فن التصميم فيها مستوىً رفيعاً، بات ينتزع اعتراف الجميع بجدواه. حتى أن العقد الأخير شهد تحول الإعلان السياسي من عهدة الأحزاب إلى عهدة وكالات التصميم التي صارت تنتج الملصقات الانتخابية وشعارات الأحزاب وملصقات المناسبات.
ختاماً، أصبح مظهر المدن اليوم محكوماً بالطريقة التي تسوق من خلالها لنفسها الثقافة التجارية السائدة. وعلى المسؤولين عن المدن أن يتمكنوا من ضبط عملية انتشار هذه الإعلانات وتنظيمها والنهوض بها إلى مستوى جمالي يرتفع بذائقة المشاهد ويحسن من مظهر المدينة بدل تشويهها. فالإعلان الخارجي أخطر من إعلان التلفاز أو الصحف، إذ يمكنك ألاَّ تشاهد الأول أو أن لا تقرأ الثاني. بينما لا يمكنك تجاهل الإعلان الخارجي الذي يفرض وجوده شئت أم أبيت.
هل هناك قاعدة عامة يمكن لفرض تطبيقها أن يؤسس إلى تقييم دقيق للإعلانات في الشوارع، فيساعد على التخلص من سلبياتها ويبقي على إيجابياتها؟
لو أخذنا حالة العاصمة اليونانية أثينا التي ورد ذكرها في متن هذا المقال، وحيث توجب إزالة مئة ألف لوحة إعلانية لتحسين مظهر المدينة عشية الألعاب الأولمبية، لوجدنا أن كثرة هذه الإعلانات كانت سلبية، وتشوِّه منظر المدينة ومعالمها الأثرية والتاريخية. ولكن ماذا لو أزلنا مئة ألف لوحة إعلانية من مدينة لاس فيغاس الأمريكية؟ هل سيبقى منها ما يميزها كثيراً عن صحراء نيفادا المحيطة بها؟ ونحن نعرف أن صخب هذه اللوحات بأضوائها التي لا تعد ولا تحصى بات يشكِّل البطاقة البريدية السياحية لهذه المدينة. تماماً كما تشكِّل صور الإعلانات الضخمة هوية «تايمز سكوير» في نيويورك ورمزاً للمدينة بأسرها.
مما لاشك فيه أن الإعلانات في الشوارع سواءً أكانت ملصقات ورقية أم مضيئة أم رقمية على شاشات عملاقة باتت جزءاً من نسيج المدينة الحديثة. ولو قارناها بالحدائق العامة (التي هي من نسيج المدن نفسها) لوجدنا أن هذه الأخيرة تقام بجهد كبير كواجب وكضرورة، في حين أن الإعلانات تفرض نفسها فرضاً لدواعٍ اقتصادية وتجارية وأيضاً ثقافية واجتماعية. وتميل إلى إعادة الظهور والنمو حتى ولو تم اقتلاعها من مكان ما، وأحياناً لبعض الوقت فقط.. فالمسألة إذن لا تخضع لقاعدة عامة، وتبقى مرتبطة بحالة كل مدينة على حدة، بخصوصيتها العمرانية وتخطيطها واهتمامات سكانها وغير ذلك.. وفي الحالة اللبنانية التي أشير إليها في متن المقال، يمكن القول إن كثرة الإعلانات في الشوارع، رغم سلبياتها الكثيرة التي تواجه بالنقد، باتت تشكِّل جزءاً من معالم المدن والمساحات والطرق الواصلة ما بينها. ولهذا يمكن للبعض، وخاصة السياح أن يتطلعوا إليها باهتمام، وربما بشيء من الإعجاب أيضاً.
أما النقطة الثانية التي تستدعي التوقف أمامها فتتعلق بمحتوى اللوحة. فهذا المحتوى موجه إلى الجمهور العام، أي إلى كل شرائح المجتمع. ومثل هذا التوجه يفرض مستوى عالياً من الجدية في التعامل مع اللوحة عند إنتاجها.
صحيح أن الكل يعلم أهمية العناصر التصميمية. ولكن قلة تنتبه إلى أن خطأ بسيطاً في التعبير النصي أو التصويري يمكنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً، فيثير النقد والسخرية والنفور مما يفترض للإعلان أن يروج له. أما سباق الفنانين إلى التميز عن نظرائهم، واعتبارهم أن كل الوسائل مقبولة طالما أن الغاية هي لفت النظر، فيمكنها أن تؤدي إلى الوقوع في فخ الفشل نفسه. ففي أمريكا تعرَّض معلنون للمقاضاة لأن إعلاناتهم كانت تتضمن تلميحات ذات طابع عنضري مثلاً. وفي لبنان أيضاً، تصدَّى رجال الدين والمسؤولون أكثر من مرة لإعلانات مسيئة إلى الآداب العامة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى كل إعلان ووجوب تقييمه على حدة، فإن حال مجموعة الإعلانات في مدينة ما، لا تقيَّم إلا وفق شخصية هذه المدينة وهويتها.