قد لا يختلف اثنان على أن قِدم الرياضة قديمة قِدم الحضارة نفسها. وهي تكاد تتداخل مع معظم مظاهر الحياة الاجتماعية لدى أغلب الشعوب، فنجدها تطبع الاحتفالات الاجتماعية والدينية تارة بطابعها، أو ترتبط بالشجاعة والإقدام كوسيلة لإعداد المقاتلين واستعراض القوة تارة أخرى. أما في الطبقات الأرستقراطية، فطالما برزت الرياضة كأداة للهو والترف، إذ عُرفت ألعاب الصيد والرمي بدافع التسلية وتنمية المهارات، والحركات الجمبازية والبهلوانية كوسيلة للترويح وحفظ اللياقة، فضلاً عن تطور بعض الفنون في كنف الرياضة، كالرقص المصاحب للموسيقى الذي ظهر عند قدماء المصريين، أو ذاك الذي أخذ بعداً درامياً على يد الأثينيين، وتطور ليصبح جزءاً من الفنون السبعة الراقية عند الإغريق. لكن في الوقت راهن، تكاد تفقد الرياضة مفهومها الإنساني إذ تحولت إلى مجرد هدف استهلاكي. أحمد دعدوش يستعرض هذا الواقع وشؤون الرياضة وشجونها من ألفها إلى يائها.
بداية القصة
مع نشوء دورات الألعاب الأولمبية عام 776 ق. م في أوليمبيا اليونانية، وعلى رغم ما تخللها من مظاهر دينية، بدأت الرياضة تؤدي دورها الاجتماعي والسياسي كوسيلة لالتقاء الشعوب وتبادل الخبرات، خصوصاً أنها كانت تقام خلال فترة أعياد مقدسة لا تتجدد إلا مرة واحدة كل سنوات أربع.
ولم تكن مكافآت الرياضيين الفائزين في تلك الألعاب، تتجاوز قيمتها الرمزية، وتمثلت في أكاليل غار وسعف النخيل، في دلالة واضحة على البعد الإنساني والديني الذي اتخذته هذه الألعاب عند نشوئها. بيد أن هذا الطابع الذوقي للرياضة لم يدم طويلاً، فمع انتشار الديموقراطية في أثينا واتساع نفوذ الطبقة الوسطى، بدأ اهتمام الشباب بالتحول إلى الجانب الفكري على حساب التربية البدنية، كما بدأت الرياضة للمرة الأولى تأخذ طابعها المهني مع انحسار دورها الديني والعسكري، فظهرت طبقة الرياضيين المحترفين، والمستعدين لبيع مهاراتهم في سبيل الحصول على مكافآت مالية يدفعها المشاهدون. كما ظهر المدرِّبون المتفرغون لتدريب محترفي الرياضة إلى جانب الفلاسفة والمعلمين. وأصبحت المباريات الرياضية ميداناً لالتقاء جماهير الإغريق، وفرصة نادرة لترويج البرامج السياسية، وعرض المواهب الخطابية والفنية والشعرية أمام الجماهير.
ومع صعود الأديان السماوية في العصر الوسيط، أخذت الرياضة بعداً عقائدياً أكثر التزاماً، فاعتنى الإسلام بالرياضة كوسيلة للتربية المتزنة في جانبيها العقلي والبدني، وتكاثرت النصوص في الحث على تعلم الرماية والسباحة والفروسية، كما تضاعف هذا البعد العسكري مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، بينما قُننت الألعاب كافة وفقاً لمفهوم الإسلام للهو البريء. وفي ذلك ورد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما مرَّ بأصحابه وهم يلعبون «الدركلة» فقال: «جدّوا يا بني أرفدة، حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة» (ورد في أكثر من رواية بعضها حسن).
أما في أوروبا، وعلى الرغم من أن اهتمام المسيحية الأولى بترويض الأبدان، أدّت السياسة دورها في تقنين وسائل اللهو بين الجمهور، فحرَّم ملك بريطانيا إدوارد الثالث عام 1365م على الرجال الأقوياء كافة «الألعاب التافهة عديمة القيمة» والتي كانت تقام للترفيه في أيام الأعياد، وسمح لهم بالألعاب العسكرية فقط كالرمي والمبارزة. ولكن شيوع التزمت الديني عند البيوريتانيين «المتطهرين» من البروتستانت مع بداية عصر النهضة، دفع خصمهم الملك جيمس الأول إلى السماح لكافة الألعاب بالظهور.
الظاهرة
مع ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا في القرن الثامن عشر، وانتشار الأفكار الديموقراطية والثورية الشعبية بين عامة الناس، تزايدت مخاوف الطبقة الرأسمالية الناشئة من انحلال الطبقة العاملة، خصوصاً أن طبيعة العمل الصناعي كانت تتطلب مستوى عالياً من الدقة والمهارة بما لا يتناسب مع ما كان سائداً في حقبة الإنتاج الزراعي، ما دفع البلاط الملكي إلى حظر كرة القدم مجدداً، بينما ظهرت حركة موازية تدعو إلى العناية بصحة العمال، بهدف الحفاظ على طاقتهم الإنتاجية، فمُنح العمال في مصانعهم على إثرها بضعة دقائق كل يوم لأداء التمارين الرياضية في الهواء الطلق، كما انتشرت التربية الرياضية الإلزامية في المدارس الإنجليزية كوسيلة لدعم النظام والانضباط ونشر روح التعاون.
وانطلاقاً من هذه العقيدة الرأسمالية الحازمة، أعيد إحياء الألعاب الأولمبية بعد توقف امتد إلى ستة عشر قرناً، فأطلق الإنجليزي وليام بيني بروكس دورته التمهيدية في مدينة ميتش وينلوك الإنجليزية عام 1850م، ثم أعلن الأرستقراطي الفرنسي بيير دي كوبرتان عن الدورة الأولمبية الأولى في العصر الحديث بالقرب من جبل الأولمب في اليونان عام 1896م. وعلى الرغم من أن كوبرتان كان يهدف إلى رفع الروح المعنوية للجيش الفرنسي إثر انهزامه على أيدي الروس، إلا أنه لم يغفل الدور المهم للألعاب الأولمبية، والمتمثل في تهيئة جو سلمي يجمع الشباب المتفوقين رياضياً وأخلاقياً من كل الأمم، ويدفعهم لنشر روح التآخي والتفاهم بين الشعوب.
ولكن طبيعة النظام الرأسمالي- الديموقراطي لم تكن لتسمح باستمرار هذه الرقابة الأخلاقية على الوسط الرياضي، فسرعان ما تغلغلت فيه الروح التجارية الباحثة عن الربح، إذ أدرك الرأسماليون أن عالم الرياضة يحتوي على فرص استثمارية كبيرة، وهو ما استفاد منه أيضاً الرياضيون الهواة الذين وجدوا في قدراتهم البدنية سلعة قابلة للبيع، ما دفعهم إلى دخول عالم الاحتراف والتخصص.
وعلى الرغم من أن المعارضة الشديدة للجنة الألعاب الأولمبية الدولية التي ما زالت ترفض حتى الآن منح الجوائز المالية للرياضيين، إلا أن البطولات الرياضية الأخرى ما زالت تستقطب الاهتمام الأكبر من قبل الجماهير والمعلنين على السواء، فقد لقي اقتراح ضم لعبة الجولف إلى مجموعة الألعاب الأولمبية تخوفاً من إعراض أبرز اللاعبين عن المشاركة، إذ تُقدم لهم البطولات الدولية الأخرى فرصاً أكبر لجني تلك الثروات الطائلة.
الرياضة والإعلام
لم تصادف إعادة إحياء الروح الرياضية صعود الحريات الشعبية في العصر الحديث فحسب، بل كانت الرياضة أيضاً على موعد مهم يجمعها مع وسائل الإعلام الجماهيرية الآخذة في الانتشار، وهو الموعد الذي أثمر واحداً من أنجح الزيجات في هذا العصر. فمع الظهور الأول للصحافة في بريطانيا، كانت أخبار مباريات الكريكت تحتل مكاناً مهماً على صفحات جرائد لندن في منتصف القرن الثامن عشر، وبتطور تكنولوجيا الطباعة، وتمكُن الحركات الشعبية من مواجهة العقبات السياسية التي كانت تعرقل إصدار الصحف، نجح عدد من كبار رجال الأعمال في بريطانيا في إصدار بعض الصحف الشعبية التي سرعان ما لقيت رواجاً واسعاً. واكتشف القائمون على هذه الصحف، أن ظاهرة التعصب للفرق الرياضية يمكن أن توفّر لهم فرصة إعلانية جيدة. وعلى رغم تحفظ الصفوة على انحطاط المحتوى الأخلاقي لتلك الصحف، إلا أن المكاسب المادية كانت كفيلة بالرضوخ لمطالب الجماهير ورفع الوصاية عنهم.
وكان لشيوع مفاهيم السوق الحرة في الإنتاج دور بارز في هذا الانقلاب، فما أن تحولت الثقافة إلى سلعة قابلة للترويج في الأسواق، حتى أُخضعت هي الأخرى إلى تلك المفاهيم المجردة عن القيم، ومنها مفهوم «المصلحة العامة» التي تم تفسيرها في المجال الإعلامي بطريقتين، تقوم الأولى على الاكتفاء بتقديم الأخبار اليومية بموضوعية، بينما تذهب الثانية إلى منح الجمهور ما يريد. واتضح فيما بعد أن ما يريده الجمهور لا يخرج عادة عن كونه واحداً من اثنين، فإما أن يكون اهتماماً إنسانياً مفيداً، أو مادة مغرقة في التفاهة!.
استغلال محترف
وتطور هذا الاستغلال إلى حد الاحتراف بظهور التلفزيون الذي تزامن مع تحول الرياضة إلى أحداث عالمية كبرى، بل إلى ظاهرة ذات أبعاد ثقافية وقومية بالغة الخطورة، ليتم توظيفها بحرفية تتناسب تماماً مع معطيات عالم «ما بعد الحداثة». وإزاء هذا الواقع، لم يعد مستغرباً أن ينجح الإعلام في استحداث ولاء جماهيري من نوع مختلف. فبعد أن حققت النوادي الرياضية شهرتها العابرة للقارات، والتي تسمح لها بأن تجمع حولها الملايين من المشجعين الذين يفخرون بالانتساب إليها والولاء لها، تمكنت بعض الشركات العالمية الكبرى -وعبر توظيف استثمارات خيالية في الإعلان التجاري- أن تشارك تلك النوادي الرياضية في عالميتها، وأن تحقق لنفسها ولاء مماثلاً لدى ملايين المستهلكين.
وهكذا يمتزج العالمان، المال والرياضة، عبر وسيط ثالث يستمد حيويته من الاثنين معاً وهو وسائل الإعلام على تنوعها. فمن جهة أولى، تجد النوادي الرياضية نفسها تحت رعاية الشركات التجارية، ولا يجد الرياضيون غضاضة في حمل شعارات هذه الشركات على صدورهم وخوذاتهم وسيارات سباقهم، بل تتحول النوادي نفسها إلى شركات ربحية، ويفخر رجالها بأنهم أصبحوا من أصحاب الثروات الطائلة.
ومن جهة ثانية، تدخل الشركاتُ التجارية نفسها «القطاع» الرياضي، فتنشأ شركات ضخمة لصناعة مستلزمات الألعاب ولواحقها، ويتخذ كثير من المنتجات الاستهلاكية طابعاً رياضياً لضمان ترويجها، كما تظهر تخصصات علمية جديدة -في سبيل البحث عن الربح- تحت اسم الرياضة، فنسمع عن طب واجتماع رياضيين، وعن علم نفس رياضي، وهندسة للمنشآت الرياضية. أما وسائل الإعلام، فحققت نجاحاً باهراً في الإفادة من هذه الظاهرة، حيث خصصت للرياضة جرائد وقنوات وإذاعات ومواقع إلكترونية، وأفردت لكل منها حرفيين ومتخصصين مهرة، وهي اليوم على يقين تام بأن استثمارها في هذا المجال لا يمكن إلا أن يكون رابحاً.
صناعة الأسطورة
وبعد أن قلّصت الثقافة المعاصرة من مشاعر الولاء والتقديس للرموز التقليدية، كالدين والأسرة والانتماء للجماعة، وبحسب ميل الإنسان الفطري لإضفاء صفة القداسة على كثير من الأشياء والأشخاص لأسباب عدة، فإن عالم الرياضة يمكنه أن يقدِّم اليوم كثيراً من الحلول الجاهزة لإشباع هذه الرغبة.
ويربط ماكس فيبر في كتابه «أخلاقيات المذهب البروتستانتي وجوهر الرأسمالية» بين ثلاث مؤسسات، وهي الدين والرياضة والرأسمالية، ويقول ديفيد روي في كتابه «الرياضة والثقافة ووسائل الإعلام»: لو أن العمر امتد بفيبر-الذي توفي عام 1920م- فإنه كان سيرى أن السعي نحو الحصول على الثروة في الدول الرأسمالية لم يأخذ شكل الرياضة فحسب، بل إن كافة أشكال الترفيه الأخرى قد بدأت بلعب دور الوظائف الدينية، فقد أخذت الرياضة فعلاً باتخاذ طقوس شبه دينية، إذ يقوم بعض مشجعي الرياضة بنثر رمادهم فوق «التراب المقدس» لملاعبهم المفضلة، كما يتقدَّم رجال الدين أحياناً لمنح مباركتهم للاعبين قبل خوضهم إحدى المباريات المهمة.
لقد وصل نجاح الإعلاميين في ترويج هذه الظاهرة إلى درجة إقناع الجماهير بأن الرياضة لم تعد ترفاً بل هي ضرورة، وبالرغم من أن هذا شأن تطور الحضارة، حيث تتحول الكماليات إلى ضرورات يصعب الاستغناء عنها، إلا أن المبالغة في الاهتمام بالرياضة قد يصل غالباً إلى حد يتجاوز كل الأمثلة الأخرى، بالرغم من خلو هذه الظاهرة من أي منفعة يمكن قياسها بالنسبة لغيرها.
أساطير وقديسين
أما الأبطال الرياضيون، فيتم تحويلهم من حملة للأهداف الإنسانية النبيلة للرياضة إلى نجوم لامعين، ثم إلى أساطير تستحق التقديس. وعلى سبيل المثال، يرصد ديفيد روي التحول العجيب لصورة لاعب الكرة البريطاني ديفيد بيكهام. فعندما طُرد من الملعب لضربه لاعباً أرجنتينياً في قدمه ضمن مونديال عام 1998م، شنَّت عليه الصحافة البريطانية حملة شعواء ورمته بأقذع الشتائم. ولكن هذه الصحف نفسها لم تلبث أن أعادت إليه اعتباره عندما قاد فريق بلاده بنجاح في مونديال عام 2002م، بل تحول الشاب الوسيم وزوج المطربة الشهيرة فيكتوريا آدمز، إلى نموذج للرجولة، ما أهله مجدداً لإعادة استثمار هذه الصورة استثماراً مربحاً في عالم الإعلان، في الوقت الذي تناولت فيه بعض الأبحاث الاجتماعية دوره كظاهرة فريدة تجسد روح الانتماء لدى الشباب البريطانيين. ومع تضخم نزعة التسليع والاستهلاك، بالغت بعض وسائل الإعلام في استثمار صور اللاعبات الرياضيات كنماذج قياسية للأجساد الصحية والمثيرة. وثار كثير من الجماعات المنادية بالمساواة بين الجنسين في الدول الغربية، لتغيير الصورة السيئة وغير المتكافئة للاعبات قياساً إلى زملائهن من الرجال، إذ كثيراً ما يُحترم اللاعبون الرجال لمهاراتهم وإنجازاتهم الرياضية، بينما تركز عدسات التصوير على عناصر الإثارة في تقديمها للاعبات من النساء.
علاوة على ذلك، لم تعد الأعداد الجماهيرية الهائلة لمتابعي الرياضة كافية لإشباع نهم وسائل الإعلام، ما دفع بعض القائمين عليها إلى ابتكار وسائل جديدة لجذب مزيد منهم، إذ بينت إحدى الإحصاءات أن نصف عدد مشاهدي التلفزيون البريطاني لمباراة تم نقلها في مونديال عام 1990م كان من السيدات. ويعزو ميلر هذه الظاهرة إلى إتقان شركات الإنتاج التلفزيوني دمج الجانب الإنساني بالترفيهي أثناء البث، الأمر الذي يثير عادة فضول النساء، على رغم عدم ميلهن الطبيعي إلى مشاهدة الرياضة. كما تلجأ هذه الشركات أحياناً إلى توظيف شخصيات كرتونية أثناء نقل المباراة، مما يشجع الأطفال أيضاً على المشاهدة.
مهرجان استعراضي
ويضاف إلى ذلك عوامل الإبهار والجاذبية الأخرى التي تحول المباراة إلى مهرجان استعراضي، مثل الأسلوب الذي يتقنه بعض المعلقين الرياضيين لزيادة جرعة الإثارة إلى المشاهدين، أو حتى فرق المشجعات اللواتي يستفتحن مباريات كرة السلة الأمريكية بالحركات الاستعراضية المثيرة، والتي ثبت علمياً أنها تؤدي إلى ارتفاع معدل الهرمون الذكري «التستوستيرون» لدى الجمهور والمشاهدين ما يعني مزيداً من الحماس والعنف. ويبلغ هذا الاستغلال مداه عندما تُفرغ بعض الأحداث الإنسانية من قيمها النبيلة، كأن تتحوَّل صورة الاحتجاج التاريخي الذي قام به اثنان من اللاعبين السود، هما تومي سميث وجون كارلوس في أولمبياد المكسيك عام 1968م، وبعد ربع قرن من التقاطها، إلى إعلان تجاري لإحدى شركات الأحذية الرياضية، ويملأ صفحة كاملة في إحدى المجلات الاستهلاكية الموجهة للأمريكيين من أصل إفريقي!
بين الفرد والجماعة
في كتابه «سيكولوجية الجماهير» يدرس غوستاف لوبون سلوك الأفراد أثناء انخراطهم في المؤسسات الاجتماعية على اختلاف أنواعها. وفي وصفه لمفهوم العقل الجمعي، يؤكد على أن العقل الفردي غالباً ما يخضع للتهميش اللاشعوري أثناء انصهار الفرد في مجموعته، إذ سرعان ما يفقد استقلاليته وقدرته على التحليل وتحكيم قناعاته الشخصية، وينضم طوعاً إلى الجموع في توجهاتها أو حتى هيجانها العاطفي، وهذا ما يحدث غالباً في الثورات الشعبية التي قد يتحول فيها الإنسان المتزن إلى آلة للقتل لا تعرف الرحمة.
أما في عالم الرياضة، فتُعد هذه الظاهرة عنصراً جوهرياً في الحفاظ على جماهيرية الألعاب ورواجها، إذ لم تعد لعبة كرة القدم مثلاً قابلة للتحليل الساذج الذي لا يرى فيها أكثر من اثنين وعشرين رجلاً يركضون على مرج عشبي، ويسعون جاهدين لقذف كرة من الجلد باتجاه شبكة ممتدة بين ثلاث عوارض خشبية، بل أصبح هذا السعي لرمي الكرة إلى الشباك بحد ذاته أداة لحشد مئات الآلاف من البشر، وعلى كافة الاختصاصات والمستويات الثقافية والأعمار، والذين يستعدون لبذل كثير من الوقت والمال في سبيل مشاهدة هذا الحدث، فضلاً عن تجمهر الملايين- وقد تصل إلى المليارات- من المشاهدين المتسمرين إلى شاشاتهم في الأماكن العامة أو المنازل. وكثيراً ما يفقد هذا الجمهور الحاشد رصانته، ويتحوَّل من افتعال الصراخ ورفع الأعلام إلى ارتكاب أحداث شغب مدمرة.
وكما يقول ر. إي. رينهارت- الأستاذ في جامعة إنديانا- فإنه لم يعد من الممكن الفصل بين المباريات الرياضية وبين الجو الذي تحدث فيه، فقد أصبح الجمهور نفسه عنصراً رئيساً من عناصر اللعبة.
وأمام هذه الظاهرة، لم يعد المعلنون ورجال الأعمال هم وحدهم المستفيدون، إذ تنبهت حكومات كثيرة إلى العنصر القومي الذي يمكن استثماره في الحفاظ على ولاء جماهيرها عن طريق الرياضة، خصوصاً عندما يقدَّم الرياضيون في صورة الجيش المدافع عن كرامة الوطن.
حل النزاعات
يصر عدد من الباحثين على أن الرياضة تقدِّم فرصاً فريدة لحل النزاعات وإحلال روح التآخي بين الأمم، وقد كان لتلك المفاهيم دور رئيس في إحياء دورات الألعاب الأولمبية من جديد. ويرى بولدينغ أن الرياضة تُعد حرباً دون سلاح، أي أنه من الممكن- نظرياً على الأقل- الاستعاضة عن الحروب بمباريات رياضية لا تسفك فيها أي قطرة من الدماء.
وعلى الرغم من أن ذلك لم يتحقق حتى الآن، بيد أنه من الممكن -نظرياً على الأقل- أن تلعب الرياضة دوراً مهما في التقريب بين الشعوب، ويحق للمدافعين عن هذا الرأي أن يستشهدوا ببعض الوقائع، فبعد أن قاطعت الدول الغربية دورة موسكو للألعاب الأولمبية عام 1980م، ثم قيام الكتلة الشرقية بمقاطعة مماثلة لدورة لوس أنجلوس عام 1984م، ارتأى السوفييت إقامة «بطولة النوايا الحسنة» للمرة الأولى في موسكو عام 1986م، وقاموا فعلاً بتكريم الرئيس الأمريكي ريغان لموافقته على إقامة هذه الدورة بهدف إذابة الجليد بين الطرفين. بل إن الاتصالات الأولى التي جرت بين الولايات المتحدة والصين، تمت بفضل مباراة في تنس الطاولة، حيث أبدى لاعبو الطرفين احتراماً متبادلاً، ما ساعد فيما بعد على تحسين صورة الآخر لدى شعبي كل منهما.
وعلى الصعيد الفردي، سجل التاريخ عدداً من القصص الإنسانية الرائعة بين الرياضيين، ومنها تعرّفُ رامي الصحن الأمريكي هارولد كونولي على زميلته التشيكوسلوفاكية أولغا فيكتوا في أولمبياد 1956م، مما أدى إلى زواجهما على رغم التوتر الذي كان قائماً بين الشرق والغرب. من جهة أخرى، يرى آخرون أن النتائج المسجلة لم تكن بحجم التوقعات الطموحة التي طرحها بعض علماء الاجتماع، إذ يقول ماكس كلوغمان: «إن التوازن بين امتصاص النزاعات وإذكائها غالباً ما يكون عابراً». كما يرى «أن الألعاب الرياضية يمكن أن تثير كما يمكن أن تسكن هيجان الجماهير على حد سواء».
وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد بعيد، فأحداث النزاعات التي حدثت بسبب تعصب محبي الرياضة تكاد تزيد بمراحل على تلك الإنجازات التي أمكن تحقيقها على صعيد إحلال روح التفاهم بين الشعوب. ولدينا «حرب كرة القدم» الشهيرة التي اندلعت عام 1969م بين السلفادور والهندوراس إثر خسارة الهندوراسيين بهدف مقابل ثلاثة. على الصعيد نفسه، يعلق باحثون آخرون على المبالغة التي يتعمدها الإعلاميون في وصف قدرة الدورات الأولمبية على تعزيز السلام العالمي، إذ يرصد ديفيد روي عدداً من التعليقات المبالغ فيها من معلقين رياضيين، مثل ادعاء أحدهم أثناء افتتاح دورة لوس أنجلوس عام 1984م بأنها «الدورة التي جمعت أكبر عدد من الدول واللاعبين»، وذلك بالرغم من مقاطعة الكتلة الشرقية للدورة.
هوليود
وبمزيد من التعمق، قد يجد الباحث أن هذه المبالغة غالباً ما تمتد إلى الصورة نفسها التي يراد للرياضة أن تقدم بها، إذ يرى أحد الصحافيين البريطانيين أن معظم الأفلام الهوليودية تعمد إلى تقديم الرياضة كرمز للحياة، أو حتى تقديم الحياة نفسها على أنها رمز يعبِّر عن الرياضة. فطبيعة المنافسة بين الرياضيين، والطموح الكبير الذي يدفعهم للفوز، قد تتم قولبتها في السياق الدرامي لتقدم على أنها رموز لطبيعة الحياة الاجتماعية ككل. بيد أن هذا لا يمنع أيضاً من ظهور أفلام سينمائية أكثر واقعية، ففي فِلم «درجة الحمى» (1997م)، يقدِّم الكاتب البريطاني نيك هورنبي نقده الواقعي للذات، إذ يحكي قصة شاب يخصص كل طاقاته لتشجيع نادي الأرسينال، ثم يجلس في نهاية الفِلم ليتأمل شريط حياته، ويقتنع أخيراً بأن كونه زوجاً وأباً أفضل بكثير من أن يقضي حياته في تشجيع فريق رياضي، وكأنه يريد بذلك أن يبيِّن للمشاهدين أنه من الخطأ تعويض الفشل في الحياة بوهم الانتصار الذي تقدِّمه الفرق الرياضية لمشجعيها، وهو ما قد تلجأ إليه بعض الحكومات أثناء وقوعها في مشكلات اقتصادية، لتشغل شعوبها عن واقع الحياة السيء.
أما على صعيد إحلال المساواة بين الأمم، فمن الواضح أن الرياضة لم تحقق حتى الآن الهدف الذي كان مرجواً منها، إذ لا تخضع اللجنة الأولمبية الدولية حتى الآن للنظام الديموقراطي في تعيين أعضائها، وما زالت هذه اللجنة ترفض إدخال كثير من الألعاب الشعبية التي نشأت في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث. وإذا استثنينا الجودو اليابانية والهوكي الهندية، فإن معظم الألعاب الأخرى تأخذ طابعاً غربياً، حتى وإن كانت من أصل شرقي، ما يحرم الشعوب الأخرى من إحراز فرص الفوز بالألعاب التي يجيدونها.
الرياضة للجميع
ينتقد كل من جون وكارول بولي هذا التوجه العالمي الحاد نحو تشجيع الرياضة التنافسية، والتي أُفرغت من كافة القيم الإنسانية والصحية التي وجدت الرياضة من أجلها، إذ لم تعد برامج رعاية الشباب في كثير من الدول موجهة أصلاً لتحقيق تلك الأهداف السامية، مقارنة بالدعم الذي تلقاه الرياضة الجماهيرية المجردة عن القيم. كما يؤكد كل من آلان وباربرا بيز على أن معدل الهرمون الذكري «التستوستيرون» في الدم يرتفع لدى الرياضيين بعد المباريات، مما يعني أن الرياضة التنافسية تزيد من العدوانية بدلاً من أن تضع حداً لها. ويستشهد الباحثان بلجوء بعض الفرق الرياضية النيوزيلندية إلى رقصة حرب الماوري -التي تعود إلى السكان الأصليين- قبل بدء المباراة، وذلك بهدف بث الذعر في نفوس الخصوم ورفع مستوى التستوستيرون لدى اللاعبين، ما يطعن في ادعاءات الإعلام المتكررة حول الدور السامي للرياضة التنافسية في التنفيس عن المشاعر المكبوتة بين المتنازعين وتوجيه طاقة الشباب نحو المنافذ المشروعة.
منظوران
وعليه، يميل معظم الباحثين إلى أن الرياضة التنافسية، كإحدى الظواهر التي أفرزتها مفاهيم ما بعد الحداثة، لم يُعد من الممكن دراستها خارج إطار منظورين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكون وسيلة رائجة لابتزاز أموال الشعوب، وبما يتناسب مع المبررات البراغماتية التي تبيح هذا التوجه، أو أنها أداة تستخدمها بعض السلطات لإلهاء شعوبها، وتحويل اهتمامهم عن مشكلاتهم الحياتية اليومية.
على أي حال، فإن وجود مثل هذه التفسيرات -كافتراضات على الأقل- يدفعنا إلى البحث مجدداً عن القيم الإنسانية المفقودة في الرياضة، والتي تكاد تختفي من عالمنا اليوم. ومن الجدير بالذكر أن مؤتمراً عالمياً كان قد عُقد في فرنسا -في عام 1975م- بهدف نشر مفهوم «الرياضة للجميع»، وقد حُددت فيه معالم هذا المفهوم الجديد الذي يسعى لتحقيق أهداف من قبيل الحفاظ على الصحة البدنية، تحقيق الذات، التفاعل الاجتماعي، إحياء روح التعاون والتضامن، وتقبل الهزيمة بروح رياضية متسامحة، كما يدعو لرفع التمييز بين الشعوب أو الجنسين، وجعل الرياضة أسلوباً لتحسين الحياة لجميع الناس، وليس مهنة يحتكرها بعض الأفراد الذين تُخصص لهم الأموال الطائلة، ثم يُحولون إلى نجوم يرفلون في عالم أسطوري من الترف والشهرة، وتُستثمر كافة تفاصيل حياتهم بدءاً من إنجازاتهم البطولية ومروراً بأجسامهم الرائعة، ووصولاً إلى ما قد يقعون فيه من فضائح جنسية.
هذا المفهوم الإنساني الراقي، هو نفسه الذي اجتمع له الإغريق عند جبل الأولمب قبل ستة عشر قرناً، وهو الذي رُفعت من أجله راية هذه الألعاب مرة أخرى قبل ما يقرب من قرن واحد فقط، عندما كانت الأمم تتطلع إلى مستقبل يزهو بالسلام والأمن، وهو ما يستحق منا إعادة إحيائه من جديد، وقبل فوات الأوان.