لم يعد يخفى على أحد أن كثيراً من الناس يعجزون عن الادخار نتيجة إقبالهم على الاستهلاك بطريقة شرهة، حتى أن أصحاب الدخل المحدود صاروا ينافسون الأثرياء في ذلك، مستعينين بقروض مصرفية أو مستخدمين بطاقات الائتمان، ليجدوا أنفسهم في دائرة من الديون والسداد.
تسبب ذلك في أمراض مجتمعية خطرة ومشكلات مالية لا حصر لها في دول كثيرة جعل بعضها يحتل مراكز متقدمة في القروض الشخصية، مما يؤكد أن سبب الاقتراض واستخدام بطاقات الائتمان في الأمور الاستهلاكية وليس الاستثمارية، هو محدودية الدخل و«الإدمان الاستهلاكي».
فيما يلي تطرح القافلة هذه القضية، حيث يحلل المستشار الاقتصادي المصرفي فضل سعد البوعينين، أوضاع حياة الأسر الخليجية قبل النفط وبعده وما تسبب به من غياب للتدبير لمصلحة الإنفاق والشره، في حين يذهب الباحث رامي الخليفة إلى الحديث عن ثقافة الادخار وإدارة الفرد للدخل المالي، بينما تستعرض الباحثة مهى قمر الدين تاريخ بطاقة الائتمان وسبب نشوئها وطريقة غزوها لجيوب الناس، إضافة إلى أهم السبل والإرشادات ليضع الأفراد ميزانياتهم عبر تطبيقات وبرامج تسهم في ضبط إنفاقهم.
1
«الإدمان الاستهلاكي» وإدارة الفرد للدخل المالي
فضل بن سعد البوعينين
يُعدّ التخطيط المالي من أهم الأدوات التي يحتاج إليها الفرد، ومتى ما افتُقدت هذه المهارة تعرض الإنسان إلى مشكلات مالية لا حصر لها، خصوصاً أن معظم مشكلات التعثر يرتبط بسوء التخطيط المالي، حتى أن البنوك الخليجية أغفلت هذا الجانب في تسويقها للقروض الشخصية وبطاقات الائتمان وكان تركيزها الأكبر منصباً على عمليات التوسع في الإقراض لأسباب ربحية.
إلا أن مؤسسة النقد العربي السعودي أصدرت لائحة «حماية عملاء المصارف» التي تضمنت مادة تلزم البنوك بتوفير مستشار ائتمان في جميع فروعها لتقديم النصح والإرشاد لعملاء الائتمان بشكل خاص.
والافتقار إلى التخطيط الشامل في الجوانب المالية، يؤدي إلى تبعات مؤذية للمقترضين وأسرهم، ويتسبب في ظهور كثير من المشكلات الاجتماعية لأسباب مالية صرفة.
والتخطيط المالي لا يشمل الاقتراض وقراءة المستقبل والملاءة المالية والقدرة على الوفاء دون ضرر، بل يشتمل على الادخار وهو الأهم لأن الادخار الاستثماري هو قاعدة صلبة تُجنِّب الفرد الاقتراض مستقبلاً. ومتى ما نمَّى الإنسان ملكة الادخار واعتاد عليها، أصبح لديه رصيد كافٍ لبدء مشروع استثماري أو مواجهة مصاريف الحياة أو الأزمات الطارئة دون الحاجة إلى الاقتراض. ومن أسس التخطيط الادخاري أن يلتزم الموظف بتحويل جزء لا يقل عن 15 في المئة من مرتبه الشهري إلى حساب ادخاري لا تمتد يده إليه، أو أن يلتزم بمنتج ادخاري لدى البنوك التي أطلقت منتجات جيدة تقوم على الادخار والاستثمار في آن، أو عبر صناديق الادخار الموجهة للتقاعد أو التعليم أو تنمية رأس المال، إضافة إلى عدم ضم الزيادة السنوية إلى الإيرادات الموجهة للإنفاق وتحويلها إلى حساب ادخاري خاص مما يساعد على ضبط النفقات ضمن حدود معينة.
من التدبير إلى التبذير
ويُعد التدبير أساس الخير وسعة الرزق، والتبذير من الصفات المذمومة المؤدية إلى الفقر، بل عدَّ الله المبذِّرين إخواناً للشياطين. والتدبير يعني الالتزام بأسلوب إنفاقي متزن يجمع بين الإنفاق من أجل الحاجة الضرورية من جهة، وبين الإنفاق والملاءة المالية من جهة أخرى؛ أي أن يكون هناك توافق بين الإنفاق والدخل، لا سيما أن أحد أدوات التدبير يكمن في تقسيم المبلغ المتاح على فترة زمنية محددة كتقسيم جزء من الراتب على عدد أيام الشهر، علماً بأن تجزئة الدخل بين الإنفاق والادخار تُعد قاعدة التدبير الصلبة.
وثقافة التدبير يمكن تنميتها لدى الأطفال من خلال المصروف الأسبوعي، بحيث يتم توجيههم بتقسيمه على أيام الأسبوع وتوفير القليل منه، بما يزيد من ثقافتهم الادخارية.
الخليجي قبل النفط
ففي فترات العوز وقبل النفط، كانت الأسر الخليجية تتصف بالتدبير والإنتاج، وكانت النموذج الأمثل للأسر المنتجة والجميع يعمل لتوفير لقمة العيش، والحاجة محركاً حقيقياً لسياسة التدبير والادخار.
وبعد اكتشاف النفط وبدء عصر الطفرة، أصبحت الأسر أكثر إنفاقاً وشرهاً في الجانب الاستهلاكي. وهذا انعكس سلباً على الأجيال التي تحوَّلت إلى أجيال غير منتجة ومبذرة ولا تظهر اهتماماً بالتدبير والادخار. إلا أن المجتمعات الخليجية تعرضت إلى نكسة بعد انخفاض أسعار النفط وتدني مستوى الدخل. ثم واجهت مشكلة حقيقية بعد انطلاق مؤشر التضخم من معقله؛ وظهور غلاء فاحش أثَّر سلباً في كثير من الأسر الخليجية التي لم تتمكن من التأقلم مع متغيرات الدخل وغلاء المعيشة؛ فأصبحت تعوِّض قلة الدخل بالقروض الشخصية من البنوك، وهذا ما أدى إلى ظهور مجتمعات مدينة في جميع دول الخليج.
فالأمر لم يعد مرتبطاً بمستوى الدخل، بل بحجم الإنفاق الاستهلاكي الذي تحوّل إلى إدمان، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن تحتل إحدى الدول الخليجية ذات الأجور المرتفعة المركز الأول في اقتراض مواطنيها من البنوك. وهذا يؤكد عدم وجود علاقة بين الحاجة والاقتراض، بل ربما كان إدمان الاستهلاك السبب الرئيس لذلك الإنفاق التوسعي الخطير على مستوى المجتمعات والاقتصادات الخليجية، وهو ما تسبب في مشكلات كبيرة للحكومات التي لم تعد تستطيع مراجعة الإنفاق الداخلي بسبب الضغط المجتمعي.
مخاطبة الغرائز
باختصار شديد؛ كانت الحاجة هي من تحرِّك الأسر والأفراد للإنفاق والشراء. أما اليوم فالرغبة هي المحرك الأول. وهذا ما ساعد الشركات والبنوك على تسويق منتجاتها اعتماداً على تحريك الغرائز لا مخاطبة العقول. اليوم لم يعد هناك فارق بين الأغنياء والفقراء فيما يتعلق بالمشتريات؛ بل إن بعض الفقراء باتوا ينافسون الأغنياء في المشتريات الثمينة اعتماداً على القروض الشخصية. وهذا تسبب في أمراض مجتمعية خطرة، ومشكلات مالية لا حصر لها، والسبب ليس في الدخل ومحدوديته بقدر ما هو في الشره الاستهلاكي، أو ما أستطيع أن أطلق عليه «الإدمان الاستهلاكي» الذي هو سبب أزمات الديون.
وهناك جانب مهم أيضاً، وهو أن من تعوَّد على القروض الشخصية فلن يتوقف عنها. فكلما سدَّد قرضاً طرأت له حاجة استهلاكية جديدة فاقترض من أجلها. واليوم باتت قروض السفر الأكثر رواجاً، وهذا من دون شك، نوع من أنواع العبث المالي وسوء التدبير وتحميل الإنسان نفسه ما لا تطيق. كما أن التباهي الاجتماعي والتقليد والتفاخر من أسباب الديون.
حل بتوجيه رباني
أما فيما يتعلق بالحلول، فإنها تكمن بتوقف المقتدر عن الاقتراض إلا لأسباب استثمارية؛ لأن الاقتراض الاستهلاكي يُعد من أدوات الدمار. كما أن البنوك المركزية مطالبة بتقليص حجم الديون الاستهلاكية حماية للمجتمع والتوسع في القروض الاستثمارية والإنتاجية. والحل الأمثل نجده في القرآن الكريم وفي قوله تعالى: }وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا{. وفي هذا توجيه رباني بضبط الإنفاق في حدود الحاجة. كما أن الادخار خير وسيلة لمواجهة الديون، خصوصاً أن من يمتلك ادخاراً فلن يذهب إلى البنوك من أجل الاقتراض.
واللافت أن غالبية حاملي البطاقات الائتمانية، يجهلون أن تكلفة الاقتراض من خلالها تصل إلى 25 في المئة من أصل المبلغ، في حين أن المقترض يدفع 2 في المئة فقط على القرض المجدول، كما أنهم يستغلون الحد الائتماني كاملاً ثم لا يستطيعون السداد ويكتفون بدفع الحد الأدنى أي 5 في المئة من مجمل المديونية. وفي كثير من الحالات يعادل القسط المسدد حجم العمولة المحتسبة على الرصيد المدين فقط، وهذا يؤدي إلى بقاء أصل الدَّيْن دون تغيير، وارتهان حامل البطاقة للبنك مدى الحياة.
ومن هنا يجب على حاملي بطاقات الائتمان، أن يدركوا أنها من أدوات تنظيم المدفوعات، ومن الخطأ تحويلها إلى قرض عاجل لما ينطوي على ذلك العمل من مخاطر وتبعات مالية ثقيلة.
كما يجب أن يكون هناك تناسق بين الحد الائتماني المتاح في البطاقة وبين الملاءة المالية، وأن يعي حاملها تكلفة الدَّيْن فيها وهي مرتفعة تصل إلى 25 في المئة سنوياً، إضافة إلى عدم تحويل رصيد البطاقة إلى دَيْن وإلا وقع حاملها في المحظور. أما السداد الشهري، فيجب أن يكون كلياً دون تجزئة. فإن اضطر، فيجب ألاَّ يقل السداد الجزئي عن 33 في المئة من الرصيد، لضمان السداد في ثلاثة أشهر.
2
ثقافة الادخار وإدارة الفرد للدخل المالي
رامي الخليفة
غالباً ما يأخذ الحديث عن الهدر وغياب التخطيط والحفاظ على المال وانتقاد سياسة الحكومات الاقتصادية، حيزاً واسعاً في وسائل الإعلام المختلفة، بينما تغيب ثقافة الادخار وإدارة الموارد المالية الخاصة بكل فرد أو أسرة، مع أن هناك عناصر تشابه وتماثل كثيرة.
وغياب ثقافة الادخار يفترض طغيان ثقافة الاستهلاك التي تتحول في مرحلة متقدمة إلى ثقافة غير واعية وحاجة ملحة تفرض نفسها على الفرد والأسرة، وهي تنبع في كثير من الأحيان من حالة عدم القلق على المستقبل، لينطبق المثل الشهير: «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب».
الافتقار للتخطيط
والأسر مثل الدول تحتاج إلى ميزانية وتخطيط محكم يبقيها متوازنة بين الموارد والنفقات، ولكن ذلك يغيب عند معظم الأسر خصوصاً العربية منها. ويعود ذلك إلى أسباب متعددة ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويقع على رأسها ما يمكن تسميته بـ «العجز الادخاري»، أي العجز عن التحكم في الموازنة بسبب غياب التمييز الحقيقي في سلم الأولويات، فتصبح الأشياء الثانوية في رأس الأولويات بينما تهمل الأشياء الأساسية. وفي مرحلة لاحقة، تلجأ الأسرة إلى الاقتراض عندما تحتاج إلى الانفاق على الأساسي والضروري.
وبحسب أستاذة التخطيط التربوي في الجامعة العربية المفتوحة الدكتورة سبيكة بورسلي، فإن هناك سبباً نفسياً يدفع بكثير من الأفراد إلى حُمَّى الاستهلاك والشراء، وذلك نابع من غياب الثقافة العامة والقراءة مما يولد شعوراً متزايداً بالنقص يدفع الفرد إلى الانغماس أكثر فأكثر في الاستهلاك المبالغ فيه.
وهنا يصبح الاستهلاك إحدى أدوات التعويض التي يتسلح بها الفرد لمواجهة من يعتقد أنهم يفوقونه علماً وثقافة.
وكذلك ساهم التطور التقني ووسائل الاتصال الحديثة، في تلاشي الهوة السحيقة التي كانت تفصل ما بين الأغنياء والطبقة الوسطى، مما أدى إلى ظهور فئات مجتمعية تسعى إلى مجاراة الأثرياء في الاستهلاك، إضافة إلى ظهور حاجات مبتدعة لا يحتاج إليه الفرد، بل هي جزء من التظاهر الاجتماعي.
من «الرعوية» إلى «الاستثمار»
ومنطقة الخليج لم تكن في منأى عن هذا الأمر. فالمنطقة التي أدخل إليها النفط تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة بعد قرون طويلة من الفقر والعوز، اتخذت حكوماتها خياراً استراتيجياً هو تعويض شعوبها عن عصور الضنك الاقتصادي، مرتكزة إلى ثلاثة أهداف رئيسة هي: إقامة بنية تحتية، وتنمية الموارد البشرية، وإقامة أسس الدولة الحديثة. وكان خيارها من أصوب الخيارات وأفضلها، ولكن في الوقت نفسه، أنتج شكلاً للدولة ربما يكون فريداً، وهو الدولة الرعوية، أي الدولة الراعية والمواطنين الرعايا. واستطاعت هذه الدول، أن تقتطع قسماً من وارداتها الضخمة خلال الطفرة النفطية الأولى كمدخرات للحفاظ على المستوى الاقتصادي الذي وصلت إليه. إلا أنها شعرت بعد تجاوز أزمة تدني أسعار النفط عام 1985، بضرورة الانتقال من الدولة الرعوية إلى نمط مختلف يتحمل بموجبه المواطن جزءاً من العبء الاقتصادي وهو «دولة الاستثمار»، فبدأت منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تنتهج سياسات اقتصادية تصب في هذا السياق.
السلوك الاستهلاكي
أما فيما يتعلق بثقافة الادخار، فهي جزء أصيل من الثقافة العامة لدى الخليجيين، ولكن استيعاب الموارد البشرية في مشاريع خدمية عملاقة، أسهم في تغيير سريع في مستوى حياتهم الاقتصادية وبدأت العادات الاستهلاكية تتغير رويداً رويداً، وبدأت تتولد حاجات كانت تُعد كماليات أو ثانوية. وخلال العقدين التاليين، كانت الحكومات الخليجية تسعى إلى أن ينعكس الرفاه الاقتصادي على شعوبها، وأحياناً بشكل مباشر عن طريق المنح والإعفاء من الديون.
وترتب على ذلك نشوء إحساس عميق بعدم القلق على المستقبل، وبأن الدولة ستقوم بمساعدة المواطن على تجاوز أي أزمة مالية يمكن أن يتعرَّض لها. وكذلك أسهم التكافل الاجتماعي والأسري الذي يُعد جزءاً أصيلاً من الثقافة المحلية، في زيادة الثقة بالمستقبل إذ بمجرد وقوع فرد في أزمة يكون حلها بالمال، تهب الأسرة لنجدته.
أما ما أسهم في زيادة البذخ وأشعل جنون الاستهلاك، فهي المظاهر الاجتماعية، إذ عندما بدأ التغير في السلوك الاستهلاكي بدأت حياة الناس تتغير وأصبحت السلع مثاراً للتفاخر الاجتماعي باعتبارها إحدى وسائل ارتقاء السلم الاجتماعي، ونشأ جيل جديد تبنَّى عادات استهلاكية تغيب عنها ثقافة الادخار. وبالتالي فإن المشكلة لم تعد مجرد وضع اقتصادي جيد، بل أصبحت مشكلة ثقافية وحالة نفسية.
وترافق ذلك كله مع ظهور العولمة وتأثيرها المتزايد على الأنماط السلوكية الاستهلاكية ليس فقط على منطقة الجزيرة العربية وإنما على العالم برمته.
فخ البطاقة الائتمانية
في 15 يوليو الماضي، نشرت صحيفة «المدينة» السعودية نقلاً عن خبير مالي، أن 120 ألف عميل دخلوا إلى اللائحة السوداء في البنوك العاملة في المملكة، وذلك بسبب عجزهم عن سداد القروض المستحقة للبنوك وشركات التقسيط التي تم إقراضها بواسطة البطاقات الائتمانية أو ما يعرف بـ «كرديت كارد».
وكذلك نشرت صحيفة «الإمارات اليوم» في مطلع عام 2012، أن شرطة مدينة أبوظبي تلقت خلال عام 2011 نحو 6 آلاف و502 بلاغاً من البنوك، ضد متعثِّرين عن سداد مستحقات البطاقات الائتمانية.
وأثبتت دراسات غربية أن معظم الأفراد عندما يوقِّعون العقود مع البنوك، لا يقرأون شروط العقد لأنها تكون مكتوبة بخط صغير. والبنوك لا تترك وسيلة إلا وتستخدمها لدفع العميل لاستخدام البطاقة الائتمانية لأن ذلك يوفر لها أرباحاً خيالية، ويرسِّخ ثقافة الاقتراض باستهداف شرائح اجتماعية أخرى على رأسها الطبقة الوسطى وما دونها.
مواجهة العمالقة
قبل الخوض في اقتراح حلول تحد من الاستهلاك وتدفع الفرد إلى تبني ثقافة الادخار، علينا الاعتراف بأن هذه المسألة غاية في الصعوبة، لأنك تدخل في صراع مع مؤسسات وشركات عملاقة، بعضها عابر للقارات، تمتلك كل وسائل القوة والتأثير. فالأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم منذ عام 2008، دفعت بكثير من الدول والمؤسسات إلى إعادة النظر في النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة. وبما أن الحكومة وجهازها الإداري هما اللذان يقودان المجتمع ويديران الحياة الاقتصادية، فإن الدور الأكبر يقع على عاتقهما. والحكومة بالتأكيد يمكن أن تضع سياسات تشجِّع الفرد على ترشيد استهلاكه، وتشجِّعه على الادخار، كأن تقوم مثلاً بتخصيص جزء من رأس مال المشاريع الكبرى التي تمولها خصوصاً تلك التي تتمتع بالأمان الاقتصادي، للاكتتاب العام للمواطنين، وبذلك تستوعب مدخرات الأفراد وتستثمرها بما يعود بالفائدة على الجميع.
وإذا كان الادخار والاستهلاك مسألتي وعي وثقافة، فيجب أن يرتكز العمل على نشر الوعي بأهمية ثقافة الادخار، وهي عملية تراكمية تحتاج إلى نفس طويل والنتائج لن تقطف بين ليلة وضحاها.
وكما كان الإعلام وسيلة لنشر الثقافة الاستهلاكية، يمكن استخدامه لنشر ثقافة الادخار والاستثمار، ويمكن أيضاً الاعتماد على مؤسسات المجتمع المدني كالمؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية والجمعيات للعمل التوعوي والتربوي والإرشادي، إضافة إلى الدور الأساسي للأسرة في التنشئة الاجتماعية والادخارية أيضاً.
3
بطاقات الائتمان.. «اشترِ الآن وسدّد لاحقاً»
مهى قمر الدين
تعود فكرة إقراض الأموال من خلال بطاقة معينة، إلى القرن التاسع عشر، عندما كان التجار والوسطاء الماليون يوفرون قروضاً من أجل الزراعة والسلع المعمرة، ثمّ بدأت تتوسع لتغطي مجالات أخرى وأخذت الفنادق والمخازن الكبرى تقدِّم بطاقات إلى زبائنها الدائمين. وفي عام 1949، أصدرت شركة Diners Club أوّل بطاقة ائتمان يمكن أن يستخدمها أعضاؤها في مطاعم نيويورك ونواديها، وكان الأعضاء يدفعون رسماً مقابل امتياز وضع توقيعهم على شيكات يمكن دفعها لاحقاً، وخلال سنتين وصل عدد Diners Club إلى 20 ألفاً. أما الخطوة الكبيرة فكانت التحول إلى الائتمان المتجدد الذي كان ينص بداية على أنّ جميع مستحقات البطاقة يجب أن تُدفع نهاية الشهر. وكانت الشركات تحقق أرباحاً من جرَّاء رسوم سنوية يدفعها الأعضاء. وقد تغيَّر ذلك عندما سُمح للزبائن بتمديد الرصيد غير المسدد إلى الشهر التالي، مقابل رسوم. بعد ذلك، انطلق مفهوم «اشترِ الآن وسدّد لاحقاً» انطلاقة كبيرة، لتعمد شركات بطاقات الائتمان الكبرى في السبعينيات إلى التعامل مع بعض البنوك كوسيط يسهِّل عمليات الدفع بين التجار والبنوك.
مزايا الانتشار
ويعود سبب الانتشار السريع لبطاقات الائتمان، إلى عدّة مزايا يمكن أن توفّرها تلك البطاقات لأيّ مستهلك:
ضمان مساحة أمان أكبر من حمل المبالغ النقدية، وتأمين قرض موقت دون فائدة، اعتبارها وسيلة دفع مقبولة في أغلبية البلدان، منع حصول أزمة سيولة وإنقاذ حاملها في حالات الطوارئ، التعريف عن الشخص كزبون مؤهّل وتعطيه مكانة اجتماعية فورية مع التجار والأصدقاء، حماية الزبون الذي يشتري سلعة فيها عيب إذ تسمح له بتأجيل السداد حتى تتم تسوية المشكلة.
آثار سلبيّة
في المقابل قد يكون لبطاقات الائتمان، تأثير سلبي على المستهلك. وتشير إحصاءات إلى أنّه إذا ما استخدمها أي شخص بدل الأوراق النقدية، ستزيد نسبة إنفاقه بين 12 و18 في المئة، وهي نسبة عالية جداً. ويقول الخبير المالي ديف رامزي في مؤلفه «كتاب الأجوبة المالية»: «عندما يدفع الشخص مستخدماً الأوراق النقدية يمكنه أن يشعر بأنّه يفارق أمواله، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبطاقات الائتمان لأنّ تمرير البطاقة البلاستيكية على العدّاد لا يثير لدى المرء أي شعور».
ألم الفراق
ويقول الباحثان بريا راغوبير وجويديب سريفا ستافا في دراسة عن استكشاف العلاقة بين سلوك المستهلك وأساليب الدفع المختلفة ونشرتها «مجلة علم النفس التجريبي»، إنّه كلّما كانت وسيلة الدفع أكثر شفافيّة زاد الشعور بالنفور من الإنفاق أو «ألم الفراق» (أي فراق الأموال).
وعندما يدفع المستهلك من خلال البطاقات البلاستيكية، تتكوّن لديه نزعة للاستعانة بمصادر خارجية، ولا يتذكر تفاصيل الأشياء الصغيرة التي دفع ثمنها، ويكون لديه احتمال أكبر للإنفاق المتزايد.
كما أنّ معظم المستهلكين ينظرون إلى بطاقات الائتمان كمدخول إضافي وليس كنوع من أنواع الدَّيْن لأنّه كلما زاد استخدامها كلما تراكم الدَّيْن، إضافة إلى أنّ التأخير في تسديد الديون يمكنه أن يكون مؤذياً بالنسبة للتصنيف الائتماني للمستدينين مما يجعل أي استدانة مستقبلية أكثر تكلفة مع احتمال رفضها أيضاً.
كلّ تلك العوامل تسهم في إفقار الأشخاص وتراكم الديون عليهم، وبالتالي فإن بطاقات الائتمان قد تزيد التفاوت الاجتماعي بجعل الطبقات الفقيرة أكثر فقراً والغنية أكثر ثراء، خصوصاً عندما يحاول الفقراء التماهي مع الأغنى منهم. ويقول الباحثون سكوت شو وأوز شاي وجوانا ستافنير في دراسة عنوانها «من يكسب ومن يربح من خلال مدفوعات بطاقات الائتمان؟»، إنّ بطاقات الائتمان تكلف رسوماً تجارية تظهر في أسعار سلع أخرى. وبما أنّ التجار لا يستطيعون فرض عقوبة إضافية على مستخدمي بطاقات الائتمان كغيرهم، فإنهم يعمدون إلى رفع الأسعار على جميع الزبائن مما يزيد التكلفة على غير حاملي بطاقات الائتمان. وبالتالي تسهم بطاقات الائتمان في تقليص عدم المساواة الاجتماعية على المدى القصير وتفاقمه على المدى الطويل.
أرباح طائلة
وكلما أنفق الأشخاص من خلال بطاقات ائتمانهم زادت أرباح شركات بطاقات الائتمان، إذ تكسب الشركة نسبة من كلّ عملية شرائية كرسم تجاري. وكلما زادت مشتريات الأشخاص، ارتفعت إمكانية الاستدانة من الجهات التي تُصدر بطاقات الائتمان وبفوائد مرتفعة، وكلما تراكمت الرسوم بسبب تجاوز حدّ الائتمان، تمّ فرض عقوبات مالية، ولذلك تشجع هذه الشركات الأشخاص على استخدام بطاقات الائتمان، وتستثمر مبالغ كبيرة في الترويج لها بعروض مغرية. ويقول الخبير المالي ديف رامزي: «قد يكون الدَّيْن، المنتج الأكثر تسويقاً على هذا الكوكب».
أنجع الطرق
وهناك عدة أمور يمكن أن تساعد على التقليل من الآثار السلبية لاستخدام بطاقات الائتمان، أبرزها الانتباه للبطاقات التي تقدِّم نسب فائدة قليلة اليوم ولكنّها يمكن أن ترتفع في المستقبل، وقراءة العقد بالتفصيل عند الحصول على البطاقة وأي رسائل أخرى من الجهة التي تصدرها، إضافة إلى ضرورة الاطلاع على كيفية تقييم الفوائد على الحسابات غير المدفوعة.
ويجب عدم استخدامها لشراء الكماليات بمبالغ كبيرة أو بشكل ارتجالي، وإنما فقط للحاجيات الأساسية مثل الطعام أو الوقود، وعلى أصحاب الإرادة الضعيفة ترك بطاقاتهم في المنزل وعدم اصطحابها في أي عملية تسوق ترفيهية.
الميزانية المنزلية الصحيحة والالتزام بها
هل يبدو أن مدخولك الشهري يأتي ثم يتبخر قبل منتصف الشهر؟ هل نادراً، ما يتبقى منه مبلغ إضافي للادّخار؟ هل تشعر بالضياع بالنسبة لأوضاعك المالية؟
بالنسبة لكثيرين، لا يستقيم الأمر سوى بوضع ميزانية، والأهم من ذلك الالتزام بها إذ يبدو الأمر بمنزلة تحدٍ لمن لم يسبق له أن وضع ميزانية.
ولكن قبل وضع أية ميزانية، يجب تحديد الأهداف والسير باتّجاه تحقيقها، سواء أكانت الذهاب في رحلة استجمام قصيرة أو شراء منزل. ومن المهم تغيير العقلية التي تركز على المداخيل المستقبلية وليس فقط على مدخول الشهر الحالي.
كيفية وضع الميزانية
لكي تكون الميزانية مناسبة تماماً لظروف الشخص المالية، يمكن اللجوء إلى تطبيقات متوافرة على الإنترنت مثل: Budget Teacher ,Pear Budget ,Billster، التي يمكن أن تساعد على إدارة المصاريف، وربط الحسابات المصرفية بالمصادر التي يتم شراء الخدمات منها، إضافة إلى أنّ هناك خدمة موثوقة اسمها Mint تساعد في وضع الميزانية وتذكر بمواعيد تسديد المستحقات.
ووضع الميزانية من خلال هذه التطبيقات المجانية، فعّال للغاية. وإذا كان الشخص جديداً في عالم وضع الميزانيات، فيمكنه وضع الميزانية يدوياً عبر برنامج أكسل أو مجرد ورقة وقلم، ليكوّن فكرة أوضح عن كيفية سير أموره المالية بشكل شهري وأن يحدّد المجالات التي يجب معالجتها والانتباه لها.
الدخل والنفقات
وبغض النظر عن طريقة وضع الميزانية، لا بد أن تكون الخطوة الأولى هي تحديد المداخيل. أما بالنسبة لأصحاب الأعمال الحرة، فمن المفيد الميل إلى تحديد الحد الأدنى الذي يمكن أن يصل إليه المدخول في شهر معين. وبذلك يمكن ضمان أن يكون أيّ خطأ في الحسابات لمصلحة توفير مبلغ إضافي.
أما الجزء المتعلق بالنفقات فقد يكون أصعب، وأهم ما فيه هو تحديد الأولويات التي تكون بالنسبة لمعظم الأشخاص إيجار المنزل أو أقساط السكن، ومن يليها الطعام والتأمين الصحي والهاتف والماء والكهرباء. وإضافة إلى الفواتير الشهرية، يجب زيادة المصاريف الشهرية التناسبية مثل تأمين السيارة وضريبة الأملاك وغيرها. ولا يجب إغفال النفقات الصغيرة التي قد تصل إلى مبالغ لا بأس فيها نهاية الشهر، مثل شراء مجلة أو احتساء فنجان قهوة. كما يجب الانتباه إلى الديون المترتبة من جرَّاء الفوائد العالية على بطاقات الائتمان.
أماكن التوفير
يتّخذ معظم الأشخاص قرارات الإنفاق على أمور معيَّنة بشكل ارتجالي ولا يحسبون ما ستجمع عليه تلك النفقات في آخر المطاف، إلا أن لديهم فكرة عن مصاريفهم الأساسية مثل الإيجار وفواتير الكهرباء والمياه لكنهم لا يفندون جميع مصاريفهم الصغيرة لإيجاد طرق للتوفير فيها. ويقول الخبير المالي كين وينغارتن: «كلما تم التركيز على المصاريف وكنا مدركين لها، كلما خفت لدينا النزعة إلى الإنفاق الزائد».
وهذا التركيز على المصاريف يؤدي بنا إلى طرح بعض الأسئلة على أنفسنا مثل: هل هناك ضرورة لذلك الاشتراك في النادي الرياضي؟ وهل يمكن الاستعاضة عنه بساعة من المشي صباحاً؟ وهل يمكن جلب كوب قهوة من المنزل بدل شرائه من أي مكان في الخارج؟ وهل يمكن أن نستدعي كهربائياً للمنزل ليبيِّن لنا الأماكن التي يمكننا التوفير من خلالها في استهلاك الطاقة؟ أبذلك وبكل بند من البنود يجب أن تكون الحجة دفع الحد الأدنى من تكلفة ما يمكن أن نستهلكه في حياتنا اليومية؟
مراجعة دورية
وعلينا مراجعة الميزانية الموضوعة دورياً وإدخال التعديلات الضرورية عليها، ومن الضروري البحث عن توفير مبالغ من بنود أخرى. وبمجرد رؤية فائض، يجب التأكد من استخدامه بشكل صحيح كالاستثمار في مشروع صغير أو البدء بالتوفير لتعليم جامعي للأطفال أو الادّخار لشراء منزل كبير، علماً بأنه لن يكون للميزانية أي قيمة إذا ما استثمرنا ثمارها لتقوية أوضاعنا المالية.
كما أنّه لضمان نجاح الميزانية، من المهم أن يكون هناك اتفاق بين الشريكين على تحقيق الأهداف الأساسية منذ البداية، وذلك ليكون لديهما الحافز نفسه لمراقبة المصاريف والحرص على تحقيق المبتغى من الميزانية، وإلا فمصيرها الفشل.
وإذا لم تكن النظرة إلى الميزانية سبباً في فشلها ولا التناقضات بين الشريكين، فإن هناك عوامل سيكولوجية يمكن أن تفسّر ذلك، وعلى كل شخص أن يسأل نفسه ماذا يعني له المال؟ وهل يستخدمه لأسباب غير أهدافه الواضحة؟ وهل تستخدم النقود كوسيلة لزيادة الثقة بالنفس أو كطريق لتحقيق السلطة والنفوذ؟