مهما اعتاد المرء على السفر بالطائرة، يبقى للسفر جواً بعض المهابة. وهذه المهابة غالباً ما تكون قلقاً مفهوماً ومبرراً عند غير المعتادين على ذلك. فما الذي يجعل الطائرة بوزنها وحمولتها وسيلة آمنة للنقل؟ وهل ستمر مدة الرحلة من أولها إلى آخرها بسلام؟ وما الذي يقوم به مهندس الطيران وقائد الطائرة والطاقم، ومن قبلهم فرق الصيانة الأرضية، وحتى الشركة الصانعة للطائرة لضمان سلامة الرحلة وتوفير القدرة على مواجهة الأعطال الميكانيكية والمفاجآت الخطرة؟ وكثيراً ما نوسع مجال الطواف أمام خيالنا وأسئلتنا: فما هي المسيرة التي اجتازتها صناعة الطيران حتى وصلنا إلى هذا المستوى من الأمان. وكيف تحسنت معايير السلامة خلال السنوات الخمسين الأخيرة؟ ولماذا تقع بعض الأعطال الميكانيكية القاتلة من حين إلى آخر؟ وهل هناك طراز من الطائرات آمن أكثر من غيره؟ المهندس الخبير في صيانة الطائرات لطف الله ميشيل يجيب هنا عن كل هذه الأسئلة بما يشفي غليل المتسائل، ويبعث الطمأنينة في قلبه.
بداية، نتوجه إلى الذين يخشون السفر بالطائرة أو يتهيبونه بالإشارة إلى أن الطائرة آمنة أكثر من السيارة بأضعاف مضاعفة. فاستناداً إلى إحصائية أجراها المجلس الوطني الأمريكي للسلامة على مدى ثلاثة أعوام (1993 – 1995م), تبيَّن أن معدل عدد القتلى على الطرقات السريعة في أمريكا خلال ستة أشهر (حوالي 21,000) يعادل إجمالي كل القتلى في حوادث الطيران على مستوى العالم بأسره منذ ظهور الطيران النفّاث قبل ذلك بأربعة عقود.
ولو أخذنا العام 2000م على سبيل المثال، لوجدنا أن عدد ضحايا حوادث السير في أمريكا وحدها بلغ 41,800 قتيل، في حين أن إجمالي ضحايا حوادث الطيران في العالم كان 848 شخصاً فقط، أي أن الطائرة آمنة أكثر من السيّارة بنحو 22 ضعفاً.
ولكن رغم وضوح هذه الإحصاءات، فإننا نتهيب السفر جواً أكثر من السفر براً. إذ لا مجال عموماً لمقارنة الشعور خلال الانطلاق بالسيارة إلى وجهة ما بالشعور عندما تنطلق الطائرة على المدرج استعداداً للإقلاع. فالمسألة هي أولاً وأخيراً نفسية، وتعود إلى طبيعة الطيران بحد ذاته، حيث على الهواء الخفيف أن يحمل كتلة معدنية ضخمة بكل ما على متنها من ركاب وأمتعة، وإيصالها بدقة إلى نقطة محددة. وتتعزز مهابة الرحلة الجوية بما نسمعه من حين إلى آخر عن حوادث تحطم الطائرات. ولكن، علينا أن نتنبه إلى أن ندرة هذه الحوادث هي ما تجعلها تحتل صدارة الأنباء. ففي العام 2000م، نقلت شركات الطيران التجارية 1.09 بليون مسافر، في 18 مليون رحلة، ولم يقع غير 20 حادثاً أدى إلى وقوع وفيات.
ما الذي يجعل الطائرة تطير؟
لكي نفهم مجال سلامة الطيران، ونبدِّد بعض الأوهام من أذهان القلقين علينا أن ننطلق من مبدأ الطيران بحد ذاته.
تتطلب الطائرة لتحلق قوتين: قوة دافعة، وقوة رافعة. المحرك يولد القوة الدافعة إلى الأمام، في حين أن الشكل الهندسي للأجنحة يولد القوة الرافعة. فالأجنحة هي التي تبقي الطائرة محلقة. وبالتوسع قليلاً في وصف الطائرة، نقول إنها تشبه جسم الإنسان. ففيها هيكل صلب مثل الهيكل العظمي، يغطيه غشاء رقيق من الخارج أشبه بالجلد. وللطائرة أطراف متحركة مثل اليدين والرجلين، وهي الجنيحات والروافع والدفة التي توجه حركة الطائرة في الجو، ثم العجلات التي تسير بها على مدرج المطار. فالمحركات هي عضلات الطائرة، أما الرادار واللاسلكي والجيروسكوب (جهاز حفظ التوازن) فهي في مقام الحواس عند الإنسان.
وتطير الطائرة وفق ما يعرف باسم مبدأ برنولّي، وهو ببساطة المبدأ القائل إن الهواء حين يسرع في حركته، يخف ضغطه. ولما كان الجناح محدودباً من فوق ومسطحاً من تحت، فإن الهواء تحت الجناح يتحرك ببطء حين تتقدم الطائرة، في حين أنه يتحرك بسرعة فوق الجناح حيث يصبح الضغط خفيفاً. وهذا الفرق بين الضغط الخفيف فوق الجناح، والضغط الأكبر تحته، هو ما يرفع الطائرة في الهواء. وتسهيلاً لفهم الأمر، أمسك بيديك ورقتين من طرفيهما وانفخ بينهما، فإذا بهما تلتصقان بدل أن تفترقا. وبذا يثبت لك باختبار بسيط أن سرعة الهواء خففت الضغط بين الورقتين، فأدى الضغط من فوقهما وتحتهما إلى التصاقهما. وكل من جناحي الطائرة يتألف من قسمين: أحدهما ثابت، والآخر متحرك يحدد وظيفة الجزء الثابت في مراحل الطيران المختلفة مثل الارتفاع والهبوط وتغيير الاتجاه.
سقنا هذا التمهيد حول مبادئ الطيران لأنه يساعدنا على فهم مكامن الخطر من عدمها خلال الرحلات الجوية، ومدى التطور الذي بلغته صناعة الطائرات في مواجهة المخاطر أينما وجدت.
المحرك: من تطوره إلى صيانته
في الطائرات القديمة، كانت محركات الطائرات شبيهة بمحرك السيّارة، تعمل بواسطة مروحة تسحب الهواء لتوفير قوة الدفع اللازمة لسحب الطائرة. ولكن المحركات الحديثة التي تعنينا اليوم، لأنها هي التي صارت معتمدة في كل الأساطيل الجوية حالياً، هي المحركات النفّاثة التي يعود اختراعها إلى السير فرانك ويتل (1907 – 1996م) العقيد في القوات الجوية الإنكليزية، والمعروف بأنه أب الدفع النفّاث.
تعمل هذه المحركات بواسطة وقود خاص يعرف باسم وقود الطائرات، وهو يشبه الكاز المنزلي، ويتميز ببطء اشتعاله مقارنة مع بنزين السيارات، وذلك ليس لأنه أرخص ثمناً فقط، بل لأنه آمن أكثر منه بالنسبة إلى سلامة الطائرة.
أما أكثر القطع حساسية في المحرك النفّاث فهو التوربين، المكون من شفرات تسحب الهواء من الأمام وتنفثه بقوة من الخلف. وتتولد من حركته درجة حرارة عالية جداً، فيصبح عرضة للأعطال. ولذا يثابر العلماء على تطوير توربينات المحركات، من خلال تطوير المزيج المعدني الذي تصنع منه الشفرات بحيث يصبح أخف وأقوى في آنٍ واحد، إضافة إلى المساعي الدائمة لتحسين طرق التبريد، بحيث يصبح المحرك قادراً على تحمل درجات حرارة أعلى، من دون التعرض للأعطال.
محرك واحد يكفي؟
هناك طائرات تحمل على جناحيها أربعة محركات (اثنان على كل جناح) وهناك طرز من الطائرات المزودة بمحركين فقط. وقد أدى هذا الاختلاف إلى رواج اعتقاد شائع أن الطائرات ذات الأربع محركات هي آمنة أكثر من الطائرات ذات المحركين، لأنه في حال تعطل أحد المحركات يمكن لقائد الطائرة أن يحقق التوازن في الضغط على الجناحين من خلال إطفاء المحرك المقابل للمحرك المعطل على الجناح الآخر !؟ وهذا الاعتقاد خطأ.
فعندما تكون الطائرة ذات المحركين فقط محلقة في الجو، ويتعطل أحد المحركين فإنها لا تتأثر. إذ يمكن لقائدها متابعة الرحلة حتى أقرب مطار. الأمر نفسه ينطبق مع شيء من الاختلاف في حالة الإقلاع. ففي هذه المرحلة تولد المحركات قوّة عظيمة لدفع الطائرة، وتعمل حتى حدودها القصوى. فإذا تعطَّل محرك خلال عملية الإقلاع، لا خوف على الطائرة من السقوط، لأن القوة الدافعة من المحرك الآخر تخول القبطان السيطرة على الطائرة والعودة بها إلى المدرج. وهذه العودة إلى المدرج أو الهبوط الاضطراري في أقرب مطار، لا تعود إلى عجز الطائرة عن متابعة الرحلة، بل لدرء خطر تعطل المحرك الثاني.
أما في مرحلة الهبوط، فإن الحوادث القليلة التي تقع لا تأتي عادة من المحركات، بل من العوامل الطبيعية، وأهمها الجيوب الهوائية التي تتألف من هواء ساخن صاعد. فالهواء الساخن هو أقل كثافة من الهواء البارد، وبالتالي فإن قدرته على حمل الطائرة هي أقل. ولذا، عندما تكون الطائرة محلقة عالياً وتدخل في هذا الجيب من الهواء الساخن، فإنها تهبط فجأة حتى تصل إلى الهواء البارد الذي يحملها، تماماً كجسم يسقط على فراش من الإسفنج. ولكن في حالات نادرة جداً قد تكون هذه المطبات الهوائية قريبة من مدرج الهبوط، فتهبط الطائرة بسرعة وترتطم بالأرض قبل أن تجد الهواء الأبرد القادر على حملها.
أبرز المواضع الحساسة في الطائرة
ومن المواضع الحساسة في الطائرة جهاز الهبوط الذي يحمل العجلات والنوابض العاملة بضغط الهواء لامتصاص صدمة هبوط وزن الطائرة على مدرج المطار. ففي حال تعطل الآلية التي تسمح بإخراج جهاز الهبوط الذي يكون موضباً داخل الطائرة خلال التحليق، أو الآلية التي تؤمن حسن أداء النوابض العاملة على ضغط الهواء، يمكن للطائرة أن تواجه متاعب خطرة. أما أخطر مشكلة قد تواجهها الطائرة أثناء الطيران، فهي الحريق الناجم عن تماس كهربائي. ففي الطائرة المدنية الكبيرة نحو 100 كيلومتراً من الكوابل والأسلاك الكهربائية، وهذا ما يجعل، نظرياً، خطر احتكاك كهربائي أمراً وارداً.
ومن المتاعب الطارئة نذكر المشكلة التي تمثلها الطيور الكبيرة، التي يمكن للمحركات أن تشفطها إلى داخلها فتتعطل. وغالباً، يقتصر الأمر على محرك واحد. أما ما حصل مع الطائرة الأمريكية التي عطلت الطيور محركيها دفعة واحدة، خلال شهر يناير الماضي، فهو أمر نادر الحدوث جداً. ولكن حتى في هذه الحالة، فإن نجاح قائد الطائرة في الهبوط على نهر الهدسون ، وإنقاذ جميع الركاب أمرٌ يزيد من الثقة بالطائرة وبوجود فسحة أمل دائماً حتى في أسوأ الظروف.
الهوس بالسلامة.. من المصنع إلى الصيانة
كيف يضمن المهندسون إذن سلامة الطائرة، بحيث أصبحت الرحلات الجوية آمنة أكثر من النقل بالسيّارة؟
لقد خطت هندسة الطيران خطوات واسعة خلال السنوات الخمسين الماضية أدت إلى جعل الطيران المدني آمناً أكثر فأكثر. فقبل ثلاثين عاماً كان يُسجَّل وقوع حادث طيران واحد كلما طارت الطائرات مجتمعة نحو 140 مليون ميل. أما اليوم، فقد صار هناك حادث واحد لكل 1.4 بليون ميل. أي أن النسبة انخفضت 10 مرات تماماً. وحتى اليوم، لا تزال موازنات الأبحاث عند أكبر صانعي الطائرات المدنية وهما بووينغ الأمريكية و إيرباص الأوروبية، تقاس بمليارات الدولارات سنوياً. ولا مجال هنا لتعداد التحسينات التقنية التي دخلت على صناعة الطائرات، ولا تزال تدخل كل يوم. غير أننا نشير إلى أهمها مثل اختراع الرادار الذي يسمح بمراقبة الأجواء بشكل شامل، ووسائل الاتصال اللاسلكي التي تحسن أداؤها واتسع مداها، وأخيراً الكومبيوتر الذي وسّع مجال المراقبة الميكانيكية وسرّعه وقلص هوامش الخطأ كثيراً. ولا أبرز في الدلالة على دور التكنولوجيا المتطورة في سلامة الطيران، أكثر من الكمبيوتر الذي صار يتولى على متن الطائرة مراقبة أداءها، وحرارتها وضغطها، للتأكد من أن كل شيء يعمل كما يجب. فحل بذلك محل مهندس الطيران الذي كان يحتل مقعداً إلى جانب قائد الطائرة. وصار طاقم الطائرة يتألف اليوم من قائدها ومساعده والمضيفين. وقلص بذلك كثيراً من الأخطاء البشرية التي تبقى على رأس الأسباب التي تؤدي إلى حوادث الطيران.
ومن عوامل السلامة التي تدخل في أسس صناعة الطائرات هو عمر الطائرة وعدد ساعات تشغيلها الممكنة، وأعمار كل جزء من أجزائها الميكانيكية على الأخص. فلكل قطعة حسّاسة عمر يحدده صاحبها بعد التجارب والاختبارات بمدة زمنية تقل عن عمرها الفعلي ضماناً لعدم تعرضها للتلف وهي لا تزال في الخدمة. ولذا على قائد الطائرة أن يدون بعد كل رحلة في سجل الطائرة عدد ساعات الطيران، كي يتمكن مسؤولو الصيانة من معرفة ما إذا كانت القطع التي تتكون منها الأجزاء الحيوية في الطائرة قد بلغت في عملها الفعلي أقصى عمرها أم بعد. كذلك يسجل أية ملاحظات عنده تتعلق بحدوث عطل أو أمر غير معتاد.
فبموازاة تطور هندسة الطيران وتصميم الطائرات، تطورت الصيانة أيضاً بشكل ملحوظ مع بدء عصر الكمبيوتر. فصار في الإمكان وضع سجلاّت دقيقة لعمر قطع الطائرات، ومراقبة حال كل جهاز خلال الرحلة من خلال اللوحة في قمرة القيادة ومن ثم لاحقاً في أقسام الصيانة.
ولا يسمح بقيام أية رحلة من دون فحص دوري لكل الأجزاء الحيوية في الطائرة وفق جداول تأخذ في الحسبان أعمار القطع الحساسة، وملاحظة ما يخرج على المألوف. فتبدل الأجهزة والقطع حالما ينقضي عمرها، حتى لو لم يظهر أي قصور في أدائها. ويتسع مجال عمل فرق الصيانة ليتجاوز المهام الدورية بعد الهبوط وقبل الإقلاع. فيراقب أيضاً مكونات الطائرة الأساسية بناءً على جداول الأعمار والتعليمات التي تصدرها الشركة الصانعة للطائرة.
فمهندس الصيانة، كما هو حال قائد الطائرة، يعرف أن الخطأ ممنوع. وكلاهما يخشى المحاسبة على الأقل، إذا لم تكن الاحتياطات التي يتخذانها كاملة. ولذلك، تتبع أقسام الصيانة جداول الشركات المصنعة بحذافيرها في كل قطعة وكل جزء من أجل ضمان استحالة وقوع خلل ميكانيكي.
أما قائد الطائرة ومساعده، فعليهما عند مشاهدة إشارة معينة على لوحة القيادة في القمرة، أن يفهماها ويفسراها التفسير الذي يضمن عدم المغامرة، لأن حياتهما وليس مسؤوليتهما المهنية فقط على المحك. وإذا تبين للقائد وجوب ما يستدعي الاحتياط، فإنه يتوجه إلى أقرب مطار طالباً للهبوط الاضطراري فيه. علماً بأن مثل هذا الهبوط الاضطراري يكلف الشركة الناقلة مبلغاً باهظاً يقدر متوسطه بما يراوح بين 60 و70 ألف دولار أمريكي، لدفع رسوم المطار وإيواء الركاب في الفنادق، وما إلى ذلك. فبشكل عام تطور أداء صيانة الطائرات بحيث باتت الصيانة تحتل أسفل قائمة الجهات المسؤولة عن حوادث الطائرات، بمعدل لا يتجاوز %3. أما النسبة الأعلى من المسؤوليات عن الحوادث فإنها تقع على عاتق الخطأ البشري .
أسباب الحوادث
تقول دراسة شملت 1،843 حادثة طيران وقعت بين عامي 1950 و2006م، ونشرتها موسوعة ويكيبيديا إن المسؤولية عن هذه الحوادث توزعت كالآتي: %53: خطأ بشري من القائد، %21: عطل فني، %11: الأحوال الجوية، %8: أخطاء بشرية مختلفة (المراقبون الجويون، الصيانة، خطأ في شحن الأمتعة، سوء تفاهم لغوي، تلوث الوقود….)، %6: تخريب متعمد (متفجرات، خطف، وإسقاط بالأسلحة النارية…)، %1: أسباب أخرى.
وتقترب هذه الأرقام كثيراً من الأرقام المستخلصة من دراسة أخرى أجرتها شركة بوينغ وشملت كل الحوادث في العالم ما بين 1996 و2005م. وتوزعت فيها المسؤوليات على الشكل الآتي:
%55: خطأ بشري من طاقم الطائرة، %17: عيب في الطائرة، %13: الأحوال الجوية، %7: سوء أداء بشري مختلف، %5: المراقبون الجويون في المطارات، %3: صيانة.
إذن الخطأ البشري هو على رأس اللائحة. وعلى الرغم من أن ذلك غير قابل للمعالجة بشكل جذري، لأن الخطأ جزء من طبيعة الإنسان نفسه، فإن شركات النقل وتلك المصنعة للطائرات، تستمر في تحسين لائحة الشروط المسلكية والصحية المفروضة على الطيّارين مثل عدد ساعات النوم، وعدم تعاطي الممنوعات، وتحديد ساعات الطيران التي يسمح بها يومياّ لقائد الطائرة، بحيث لم تعد تزيد على الساعات العشر، وإجراء دورات إعادة تأهيل وفحوصات طبية دقيقة قبل تجديد رخص الطيارين. وقد أدت هذه التدابير إلى تخفيض الأخطاء البشرية بشكل ملحوظ. فاستناداً إلى تفاصيل دراسة بوينغ التي أشرنا إليها، نلاحظ انخفاض مسؤولية الأخطاء البشرية من %70 في العام 1988م، إلى %56 في العام 2004م.
والواقع أن هذه الأرقام، وهي كلها نسب مئوية من أعداد صغيرة، تبعث على الكثير من الاطمئنان تجاه مصادر القلق الشائع: المحركات والأعطال الميكانيكية. كما أن الأخطاء البشرية الكبيرة في نسبتها المئوية إلى عدد الحوادث، تصبح أصغر من أن تذكر بالنسبة إلى أعداد الرحلات الخالية من الأخطاء وهي بالملايين…
وختاماً، يبقى أن نشير إلى خطر ظهر في العقود الأخيرة، ويتمثل في العمليات الإرهابية التي تستهدف الطائرات: خطفاً أو تفجيراً. وفي هذا المجال، حققت التدابير الأمنية إنجازات ملحوظة من خلال تزويد قمرة قيادة الطائرة بباب لا يفتح إلا من الداخل، وحضور عناصر أمن بين الركاب مؤهلين للتعامل مع أية مسألة أمنية وضبطها بمجرد ملاحظتها. كما أن التدابير الأمنية في المطارات ازدادت صرامة بشكل ملحوظ كما لاحظ ذلك كل من سافر جواً خلال السنوات الأخيرة.
فمن مصانع الطائرات ومختبراتها، إلى مستودعات أقسام الصيانة في المطارات، مروراً بالتدابير الأمنية، والأنظمة والقوانين، يبقى الهاجس بسلامة الطيران هو المنتصر على كل ما عداه. وانتصار هذا الهاجس هو ما يجعل الطائرة اليوم وسيلة نقل آمنة أكثر من السيارة، التي لا تثير قلق أحد، بنحو 22 مرة.
حادث الطيران .. نوعاً وعدداً
تحدِّد المنظمة العالمية للطيران المدني حادث الطيران في ملحقها الثالث عشر على أنه: حدث مرتبط بتشغيل الطائرة، يقع بين اللحظة التي يصعد فيها أي شخص إلى متن الطائرة بنية السفر، واللحظة التي يتم فيها خروج كل المسافرين من هذه الطائرة، ويتعرض من جرائه شخص أو أكثر إلى الوفاة أو جروح خطرة، أو تتعرض من جرائه الطائرة إلى أضرار دائمة، أو هيكلية، و/ أو تعتبر من جرائه الطائرة مفقودة، أو في موضع لا يمكن الوصول إليه . ويظهر الجدول التالي استمرار تحسن مستويات السلامة في الطيران المدني من خلال الانخفاض الملحوظ في عدد الحوادث وضحاياها مقارنة مع ما كانت عليه قبل نحو ثلاثة عقود.
وتتضح ضآلة هذه الأرقام بالمقارنة مع عدد الرحلات الجوية في العالم. ففي كل يوم يسافر جواً أكثر من ثلاثة ملايين شخص. وكل ثانيتين من أي يوم وعلى مدار السنة، هناك طائرة بوينغ تقلع أو تهبط في مطار ما من العالم. وعندما نعلم أن شركة بوينغ هي صانعة أقل من %70 من الطائرات العاملة في العالم، ونضيف إليها طائرات إيرباص والشركات الأخرى، يصبح بإمكاننا القول إن هناك طائرة تقلع أو تهبط في العالم خلال كل ثانية في أي وقت على مدار السنة. ولهذا يصبح عدد حوادث الطيران ضئيلاً نسبياً، بحيث لا يفترض فيه، منطقياً على الأقل، أن يشغل بالنا عند السفر بالطائرة.
أكثر الأسئلة شيوعاً حول الطائرات
يتضمَّن موقع شركة بوينغ الإلكتروني صفحة تعرض إيضاحات وحقائق تجيب عن بعض الأسئلة أو تصحِّح مفاهيم شائعة خطأً حول بعض المسائل المتعلقة بسلامة الطيران، وهذه بعضها:
أي المقاعد آمنة أكثر من غيرها في الطائرة؟
يعتقد البعض أن المقاعد القريبة من الجناحين، أو تلك التي في آخر الطائرة آمنة أكثر من غيرها. ولكن لا دليل علمي على ذلك. فكل المقاعد تتمتع بنسبة الأمان نفسها إذا كان حزام الأمان محكماً.
هل الطائرات ذات الأربعة محركات أفضل من الطائرات ذات المحركين؟
يمكن للطائرات النفاثة أن تكون بمحركين أو ثلاثة أو أربعة. وكلها تتساوى لجهة الأمان، والواقع أن السجلات تشير إلى أن الطائرات ذات المحركين واجهت مشكلات فنية أقل من الطائرات ذات الأربعة محركات. وكل من المحركين مصمم بحيث يمكنه أن يطير بالطائرة بمفرده. كما أن خطوط الطيران محددة على الخرائط بحيث تبقى الطائرة بجوار أحد المطارات، يمكنها بسهولة أن تصل إليه بمحرك واحد. أما احتمال تعطل المحركين دفعة واحدة، فهي محتسبة على أنها أقل من واحد على مليار في ساعة الطيران الواحدة. ولذا فإن %90 من الطائرات التي تصنع اليوم، هي مزودة بمحركين فقط.
هل بعض طرز الطائرات آمنة أكثر من غيرها؟
هناك طرز تعرضت لحوادث أكثر من غيرها، ولكن عدد هذه الحوادث يبقى ضئيلاً جداً بحيث لا يمكن القول إن هناك طرازاً آمناً أكثر من غيره، خاصة وأن نسبة الحوادث التي تقع مسؤولية حصولها على الطائرة هي نحو %13 فقط من إجمالي الحوادث.
إن كل الطائرات ومهما كان طرازها تتسم بمواصفات السلامة نفسها، لأنها كلها خاضعة لقوانين وشروط موحدة، تفرض عليها الالتزام بمواصفات محددة قبل الترخيص لها بالطيران.
هل هناك مراحل في الرحلة الجوية أخطر من غيرها؟
نعم. فمن خلال مراجعة تاريخ حوادث الطيران، تبيَّن لنا أن %60 من الحوادث وقعت خلال مرحلة هبوط الطائرة، ونحو %35 خلال مرحلة الإقلاع والارتفاع، ونحو %6 فقط خلال الطيران الأفقي عالياً. ولذا، فإن الرحلة الطويلة ليست أخطر من الرحلة القصيرة. لا بل يمكن القول إن رحلة طويلة من دون توقف هي آمنة أكثر من رحلة يتخللها التوقف في عدة مطارات.
هل يمكن لأبواب الطائرة أن تفتح وهي في الجو؟
لقد صنعت هوليود أفلاماً سينمائية نرى فيها أناساً يشفطهم الهواء خارج الطائرة بسبب باب فتح أثناء التحليق. وهذا أمر غير وارد عملياً على الإطلاق.
فأولاً، تصنع الطائرات وهيكلها من مواد في غاية الصلابة. كما أنها مصممة وفق ما يعرف بمبدأ تحمل الخطأ . أي أنه إذا حصل عطل في جزء أو جهاز معين، فهناك جزء أو جهاز آخر يقوم تلقائياً بمعالجة الخلل. وفيما يتعلق بالأبواب، لا يمكن فتحها بمجرد ارتفاعها في الهواء. فلتسهيل التنفس على المسافرين، يرفع الضغط الجوي داخل الطائرة إلى نحو ما هو عليه طبيعياً على ارتفاع 8000 قدم فوق سطح البحر، وعندما نعلم أن الطائرة تحلق على ارتفاع 30,000 قدم ندرك أن الضغط داخل لطائرة هو أكبر بكثير عما هو عليه خارجها. وهذا الفارق في الضغط هو ما يجعل فتح الباب مستحيلاً، حتى ولو أراد شخص ما أن يفتحه عمداً. لأن آلية فتح الباب تتضمن سحبه إلى داخل الطائرة أولاً (حيث الضغط مرتفع) ومن ثم دفعه إلى الخارج. أما في حالات الهبوط الطارئ، فإن قائد الطائرة يكيف الضغط داخل الطائرة بحيث يمكن فتحها فور وصولها إلى الأرض. أما مخارج الطائرة فمصممة لتفتح بمجرد هبوط الطائرة.
هل المطبات الهوائية خطرة؟
يمكن أن تكون خطرة. ولكن المطبات الهوائية لا تشكِّل إلاّ جزءاً صغيراً من النسب الإجمالية التي تشكلها الأحوال الجوية في مسؤوليتها عن حوادث الطيران. ولكن خطورة المطبات الهوائية الشائعة أكثر من غيرها
لا تتمثل في تسببها بحوادث تحطم الطائرات، بقدر ما تؤدي إلى جروح وإصابات في صفوف المسافرين من دون أن تتحطم الطائرة. فالطائرة مهيأة لمواجهة الاضطرابات الجوية، حتى العنيفة منها. ولكن المسافرين يمكنهم أن يفقدوا توازنهم إذا كانوا واقفين أو يتجولون في الممرات، حتى أن الجالسين من دون ربط حزام الأمان يمكنهم أن يرفعوا عن مقاعدهم حتى ارتطام رأسهم بمخزن الحقائب فوق رؤوسهم.
إن الطيارين يعرفون عادة ما إذا كانوا سيواجهون مطبات هوائية لأنهم يراجعون باستمرار معلومات أجهزة الرصد، ويتحدثون إلى الطائرات التي سبقتهم على الخط نفسه. ولكن يمكن لهؤلاء الطيارين أن يؤخذوا على حيت غرة في مطب هوائي، وخاصة مطبات الأجواء الصافية . ولذا، يستحسن أن يبقى المسافر جالساً على كرسيه وحزام الأمان حول خصره مربوطاً.
هل يمكن لأجنحة الطائرة أن تتحطم خلال الطيران؟
في الواقع يمكنها أن تتحطم إذا تعرضت للقوة اللازمة لذلك. فعند اختبار الأجنحة في المصانع، تعرض إلى ضغط حتى تنكسر. ولكن هذا الضغط اللازم لتكسير الأجنحة يتطلب قوة هي أعظم بكثير من أية قوة تم اختبارها خلال الطيران الفعلي. أحياناً، نلاحظ أن جناحي الطائرة يهتزان قليلاً (يرفرفان)، والواقع أنهما مصنوعان من مواد وأجزاء مرنة تسمح من خلال هذا الاهتزاز بامتصاص الضغط، وحماية الأجنحة من التحطم.
هل الطائرات القديمة آمنة مثل الحديثة؟
تتمتع الطائرات القديمة بمستلزمات السلامة نفسها الموجودة في الطائرات الحديثة. وفي عام 1990م، تم تشديد القوانين المتعلقة بعمل الطائرات القديمة، بحيث باتت أجزاؤها الحساسة تخضع إلزامياً لعمليات تجديد في مهل زمنية محددة وخاصة بكل منها. وأكثر من ذلك، فإن بعض الطائرات القديمة زودت نفسها ببعض الأجهزة الحديثة. فإذا قررت شركة طيران الإبقاء على طائرة قديمة في أسطولها العامل، فإنها تضيف إليها بعض الأجهزة المتطورة لمساعدة طاقمها. وفي الواقع فإن القوانين تلزم هذه الطائرات بالتزود ببعض هذه الأجهزة، مثل جهاز تلافي الاصطدام، وجهاز الإنذار من الاقتراب من الأرض وغير ذلك. بعبارة أخرى، إن الطائرات القديمة، ليست قديمة تماماً كما تعتقدون.