لا مهرب لنا اليوم من التعايش مع ما تمطرنا به منصَّات التواصل الاجتماعي من محمولات تختلط فيها الإشاعات بالحقائق، حتى ولو كان القارئ متشبِّثاً بالوسائل الإعلامية التقليدية، فسوف يجد أن من هموم تلك الوسائل سرعة اندماجها في تلك المنصَّات وقطف ثمراتها، سواء أكانت إعلانات تجارية أم فرصاً تسويقية، وربما التعرف على ردود أفعال قرائها وتعليقاتهم تجاه ما يُنشر في تلك الوسائل من آراء ووجهات نظر مختلفة.
لم تَعُد هذه المنصات أوكاراً لمجهولي الهويَّة والمتربصين والباحثين عن الشهرة المباغتة فقط، بل أصبحت مقصداً لقادة العالم يقدِّمون من خلالها قراراتهم حول شؤون بلادهم السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية. ولذا فإن الاستهانة بأثر هذه المنصات على أي مجتمع وقدرتها على اختراقه وبرمجته لن تؤدي إلاَّ إلى الإضرار به وبمصالحه الراهنة أو تلك المتوقّعة.
جوهر هذه المنصَّات هو الحوار وتبادل المعلومات وتوسيع أثرها على الأفراد والمؤسسات بشتى أطيافها، ومنذ محاورات أفلاطون الشهيرة مع نخب أثينا التي كانت تجمع المفكِّرين والعلماء والفلاسفة إبَّان العصر الأثيني الزاهر، لم توجد منصَّات بهذه الضخامة والتأثير. فاليوم، باستطاعة الملايين المتناثرين في أرجاء العالم التحاور حول أية قضية تبثُّها “تويتر” أو “فيسبوك”، وإثراء الجدل حولها وفتح كل الأبواب المستغلقة دونها.
لكن ما يجري على منصَّة “تويتر” مثلاً محلياً وربما عربياً من حوارات وتعليقات حول بعض التغريدات، وما يستخدم فيها من أقذع العبارات وأحطّ الأوصاف تجاه هوية المغرِّد وأصله وأهله وقبيلته وطائفته وخِلقته، وربما تهديده قولاً وعملاً، هو مسلك شائن لا يقرّه دين ولا منطق ولا عقل ولا ضمير. وعلى الرغم من الآلام التي يخلّفها هذا الحوار الأسود على المشاركين فيه، فإن الضحيَّة الكبرى هي الحوار المُرتجى بشروطه الرفيعة التي تحميها الشرائع والقوانين، وبمناخاته التي تؤسِّس لمجتمع منفتحٍ ومتسامحٍ، تتعدَّد فيه الميول والأفكار والتوجُّهات وتتكاتف لصالح بناء أوطان وذَوات جديدة.
ولكن لكي نحمي وسائل التواصل الاجتماعي من أن تكون غابة يهدِّدنا فيها أولئك المتوحشون المتمترسون وراء أسمائهم الرمزية والمجهولة، فإنَّ على الجهات القانونية أن تواصل بحزم إقفال هذه الحسابات التي تضخُّ سمومها عبر هذه الشبكات، وربما فضح الأسماء والجهات التي تستخدم هذه المنصَّات لزرع مواقفها وإيصال رسائلها. فليس سراً أن حروب اليوم هي حروب رقمية وتقنية أيضاً.
من جهة أخرى، فإنِّ مهمة الجهات التربوية والتعليمية لا تنحصر في تعليم النشء المناهج الدراسية المعتادة، وهي مهمِّة جليلة بلا شك، بل ينبغي أن تبادر إلى بناء نظام تربوي وسلوكي معاصر يكرِّس احترام الآخر ويتعايش معه ويدرك حدود الاختلاف مع الآخرين، ويفتح الأعين على رؤية العالم بتعدّده الديني والحضاري والثقافي، كما يدرك في الوقت نفسه صرامة القوانين الجزائية التي تترتَّب على نبذ المواطن الآخر ضمن منطق عصبوي أو قبلي أو طائفي أو عنصري أو تحقيري عبر وسائل التواصل الجماهيري.
أقول، بكثير من الثقة، إن فُرص الحوار والجدل والنقاش الموضوعي والعلمي التي تتفتَّح في مجتمعنا لا تخدم ذوي الأجندات والنوازع الفردية، وعلينا حمايتها من الانزلاق إلى حفلات الشتائم الرخيصة التي لا يرتادها سوى الذين لم تعد لهم مهنة أخرى.