حياتنا اليوم

هـل نحـب عصـرنا؟

كيف ينظر رجل بلغ الستين اليوم إلى جوَّال فيه كاميرا رقمية، يحمله بيده ويستقبل عليه مكالمات ويرسل عبره رسائل؟
ماذا نشعر ونحن نجلس أمام جهاز تلفزيون يضم آلاف المحطات الفضائية، فنجد أحياناً، ولا نجد أحياناً أخرى، برنامجاً واحداً نرغب في رؤيته؟
حتى أية درجة نستسيغ جلسات اجتماعية لا تخلو أي منها من حديث عن السمنة والتخسيس والأكل المفيد والأكل الضار؟
كيف نحكم على هذا الشعور المتنامي بالغربة مع الكتاب، وبشعورنا بأن حتى الجريدة اليومية بدأت تضيع من بين أيدينا؟
ماذا يشعر الإنسان حين يدخل متجراً للموسيقى فينظر ليرى الكاسيتات و السيديهات المصطفَّة لا أول لها ولا آخر، لكنه يندر أن يجد نوع الإبداع الموسيقي أو الغنائي الذي يصبو إليه؟ ثم يجد نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى التسجيلات القديمة التي ظهرت قبل العقدين الأخيرين من الزمن؟
ماذا يقول لنفسه حين تمضى سنوات لا يسمع فيها، رغم انتشار وسائل العلم والإعلام، إلا نادراً عن رواية جديدة جيدة أو قصيدة تستحق القراءة؟
وكيف يرى شغف كل الناس بالتعامل بالأسهم وبهذا الاندفاع والتركيز، فيخسرون كثيراً أو يربحون كثيراً؟
ماذا يقول إذا التفت يساراً ليجد اكتشافات علمية وطبية متقدمة للغاية لكنها تبدو وكأنها تحمل في طياتها خطراً ما على الجنس البشري أو القيم التي يحب أن يصونها، ثم ينظر يميناً ليرى أمراضاً مستعصية قديمة وجديدة ليس لها علاج أو تكاد؟
ثم كيف يستقبل التكنولوجيا الجديدة التي غزت بسرعة مفاجئة حياته اليومية أكان في الكاميرا الرقمية التي ألغت كاميرا الفيلم، أو الكومبيوتر ذي الذاكرة الكبيرة التي تقوم بأعمال مكتبية ومراسلات شخصية بلا انقطاع، والبيع والشراء والبحث على الإنترنت، كلها أدوات ووسائل دخلت إلى حياتنا من دون استئذان، وما زلنا ننظر إليها متسائلين!

يعرِّف أحد المفكرين النظرة الرجعية بأنها تلك التي ترى الخير والجمال والقيمة دوماً في الماضي، لا في الحاضر. ومثل هذه النظرة يمكن اتهامها بأنها ضرب من ضروب التشاؤم في الحياة. فالتشاؤم في أكثر أشكاله رواجاً يأتي على لسان الذين ينظرون نظرة ريبة إلى كل جديد حل محل أي قديم.

والحديث في هذا حديث يكاد لا ينقطع في الجلسات الاجتماعية. بدءاً بالتغنِّي بحياة البادية القديمة والقرية مقارنة بحياة مدن اليوم، مروراً بوصف محاسن رجالات العصر الماضي، وصولاً إلى صفات السيارة كما كانت والموسيقى والملابس انتهاءً بالحديث عن القيم والأصول والعادات. وغالباً ما يأتي هذا الحديث على ألسنة أناس يسمح لهم سنِّهم بأن يعقدوا المقارنة بين اليوم والأمس، وقد عاصروا فترات سابقة واختبروا شكل الحياة فيها.

إلا أن ذلك يأتي أحياناً على لسان شباب وفتية قرأوا كتباً أو شاهدوا أفلاماً تاريخية. تسمع فتى يبدي إعجابه بعصرٍ ماضٍ موغل في القدم أحياناً، وليس فقط بالعصر الذي سبق عصرنا مباشرة. فتراه يعبِّر عن أسفه بأنه لم يولد في عصر البطولة والفروسية، أو في خضم الإمبراطوريات القديمة الإغريقية أو الرومان والفرس أو العصر الأموي أو العباسي أو الأندلسي، أو عصر النهضة في أوروبا، أو بما يسمى بالعصر الجميل Belle Epoque أو غيره. يجذبه في هذه أو تلك شكل الحياة اليومية من اللباس والأثاث المنزلي وقصص الحب ومشاهد الحرب والمبارزة وأسلوب الكلام والتحديات المطروحة أمام الساسة وأصحاب الفكر والفن والأقدمين من العلماء.

لكن الشاب الذي ينشدُّ إلى تلك العصور، لا يرى بشكلٍ قاطع من تناقض بين ما وضعه العصر الحاضر بين يديه وانجذابه هذا. وليس هناك ما يستدعي، بنظره، أن يجيب عن السؤال ما إذا كنا نحب عصرنا؟

سؤال ربما يبقى من دون إجابة شافية من أيٍ كان. وعصرنا على ما يبدو يمتلك من طاقة الدفع الذاتي بقدراته الاقتصادية وعلومه وأساليبه الحياتية المتجدِّدة ما يجعله أقوى علينا من الإجابة، لأنه أقوى علينا من أن نؤثر فيه.

أوليس هذا العصر أقوى على أهله من أي عصر مضى، وكأنه امتلك ليس فقط نفسه بل كل ما سبقه من العصور؟

أضف تعليق

التعليقات