حياتنا اليوم

المشي
الفعل البديهي الذي أصبح قضية

  • 64a

مابين الطفولة والشيخوخة, يبقى المشي فعلاً بديهياً قلما يثير الاهتمام بحد ذاته. ولكن هذه الوظيفة الأساسية هي على بساطتها الظاهرية أصبحت محور قضية بمجرد التفات العلم إليها. العلم الذي ما أن بدأ بدراسة هذا الفعل, حتى وجد نفسه أمام استنتاجات وقضايا يتقاطع فيها علم الأحياء والطب والتكنولوجيا ومتغيرات الحياة اليومية في العصر الحديث, كما يبين أمين نجيب هنا..

على الرغم من تنوع الإنجازات العلمية والذهنية والمادية التي ترسم معالم الحياة الحديثة, يجد العلماء أنها تشترك كلها في سمة أساسية وهي أنها ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بقدرة الإنسان على المشي وتؤثر عن عمد أو عن غير عمد, في هذا الفعل الذي كان الأول في صناعة التطور البشري منذ أقدم العصور وحتى اليوم.

مايقوله العلم
إن المشي هو مصدر غني بالاستعارات والمجازات. إنه يختصر التاريخ البشري بكل تلاوينه على صعيد الجنس ككل وعلى صعيد الفرد أيضاً بدءاً من تمكن الطفل من أن يخطو خطواته الأولى. ويقول الكاتب الفيتنامي تيش نهات هانه في كتاب بعنوان الدليل إلى التأمل في المشي : إننا فقط عندما نواجه الموت، نتحقق من القيمة الغالية لخطواتنا على هذا الكوكب الأخضر .

في بدايات علم الأنتربولوجيا, أي علم تطور الإنسان ومعارفه وعاداته, كان التركيز منصباً على دور الدماغ كمحرك رئيسٍ لهذا التطور. ولكن بدءاً من العام 1925م, أدت اكتشافات عالِم التشريح ريموند دارت إلى تسليط الضوء على الدور الذي لعبه مشي الإنسان في تطوره. وكثر العلماء الذين تبنوا المقولة بأن دور المشي كان أكبر من دور الدماغ, لا بل تطور المشي هو الذي أدى إلى تطور الدماغ.

المشي في عالم اليوم
لم يبالِ الإنسان بالمشي سابقاً, إلا عندما كان يفتقد القدرة على القيام به. أما في العصر الحديث فقد أصبح الاهتمام به يتصاعد مع بروز ظاهرتين مثيرتين للقلق. الظاهرة الأولى, وهي أن الإنسان أصبح قليل الحركة. فالكثير من الاختراعات يلغي دور المشي أو ينفي الحاجة إليه. ومنها على سبيل المثال ما يقوم أساساً على فكرة إلغاء المشي: الدرَّاجة, السيارة, القطار, الهاتف, البريد التقليدي والإكتروني, البسط الكهربائي المتحركة.. ومنها ما يؤدي إلى الحال نفسه من غير تعمد, مثل وعد غوغل بأننا سنتمتع قريباً بالسياحة أينما شئنا في العالم, ونحن أمام شاشة الكمبيوتر في منازلنا!!

وفي هذا الصدد يقول بعض العلماء إنه إذا كانت الحضارة البشرية قد بدأت بوقوفنا على قدمين وتحرير اليدين لوظائف جديدة، فإنها قد تنتهي بتراجع نوعية المشي التي نمارسها. وإذا كان الديناصور قد انقرض منذ حوالي 65 مليون سنة بسبب ضخامة جسمه وقوته الفائقة التي لم تعد تتلاءم مع الظروف التي استجدَّت حينذاك، فإن القوى الذهنية والعقلية عند الإنسان المعاصر على حساب عضلاته وبنيته الجسمانية بما فيها القدمان, سيتسبب حتماً ببروز بعض المشكلات المستقبلية.

أما الظاهرة الثانية فتتمثل في شيخوخة المجتمع, وتزايد أعداد المسنين العاجزين عن المشي. ففي مؤتمر المؤسسة الأمريكية لمهندسي الكهرباء والإلكترونيات الذي انعقد في مايو من العام الجاري في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا, تحدث العالم الياباني أتسوو تاكانيشي من جامعة واسيدا في اليابان، وقال في محاضرته: إن المجتمع يشيخ بسرعة. وقد أصبح من الضروري جداً التخطيط لإنتاج إنسان آلي يستطيع المشي كما يستطيع الإنسان، لمساعدة المسنين على المشي . وأضاف مستنداً إلى إحصاء أجرته وزارة الصحة والعمل اليابانية: إن في اليابان حوالي 3.5 مليون شخص لا يستطيعون المشي. ولن يجد هؤلاء سوى الروبوت لمساعدتهم .

المشي المستعصي على العلم
ولكن التطور العلمي والتكنولوجي الذي حقق إنجازات مذهلة في تعقيداتها وقدراتها، لا يزال عاجزاً عن صناعة هذا الإنسان الآلي الذي يستطيع أن يقلد تماماً مشي الإنسان في خفته ورشاقته واتزانه. لأن مشي الإنسان يتم من خلال آلية بالغة التعقيد وسرعة التنفيذ يشترك فيها الدماغ والنخاع الشوكي والعامود الفقري وعضلات الظهر والذراعان والعينان, إضافة إلى الساقين طبعاً, بكل ما فيها من عضلات ومفاصل.. وهذا ما يعجز العلم عن محاكاته آلياً حتى اليوم.

المشي لحياة أفضل
والحل؟ يتساءل البعض..
يكمن الحل بكل بساطة في الانتباه إلى أهمية المشي في الحياة اليومية فهو دواء لجسم الإنسان وذهنه أيضاً.

إننا نستعمل اليوم السيارة للانتقال إلى مسافات يمكننا المشي إليها. وقوة السيارة هي حوالي 20 حصاناً. إننا نهدر هذه الطاقة الكبيرة لينتعل الواحد منا مسافات محدودة ومعه مئات الكيلوغرامات من المعادن وغيرها ذهاباً وإياباً. ولهذا تأثير سلبي كبير على البيئة وعلى صحة الإنسان. فالسيارات هي الملوث الأكبر للبيئة. كما أن استعمال السيارة بديلاً عن المشي له مضار صحية كثيرة. كما أننا نستعمل أدمغتنا بديلاً عن المشي والحركة عند تسمرنا أمام شاشات الكمبيوتر والتلفزيون وغيرها. إزاء كل ذلك, أخذت الدراسات تراهن على العودة إلى المشي كسبيل لتغيير العالم من جديد وليس استعمال التكنولوجيات على أنواعها.

فعند المشي نستعيد الشعور الأول عندما مشينا كأطفال ونستعيد اكتشاف اللحظة الحميمة الأولى في حياتنا. وفي الطبيعة يستطيع نظرنا أن يجول في أفق متنوع وحر وغير مقيد بنافذة المركبة. فمشاهدة الأشياء على الأرض هي غيرها من هذه النافذة. وعند التصاق أقدامنا بالأرض والتراب والنباتات، نشعر بالعودة إلى البيئة الأولى التي عاشها الجنس البشري منذ ملايين السنين وليس الانتماء فقط إلى بعض سنين من عمر التكنولوجيا.

نستطيع مع المشي أن نقيم علاقة حميمة مع الإزهار والأشجار والعصافير والحيوانات التي لطالما شاطرناها الشمس والريح والعتمة وقوة الطبيعة المختلفة.

وكثيراً ما ترتبط مشاعرنا في لحظات مثيرة أو مهمة من حياتنا بالأماكن التي كنا نمشي فيها. بل يذهب بعض المفكرين إلى الاعتقاد بأن كافة الإبداعات الفنية والعلمية مرتبطة بتجوالنا في الطبيعة. وكان معروفاً عن الأديب شارلز ديكنز في القرن التاسع عشرأنه كان يمشي يومياً 20 ميلاً. وأحياناً كان يقوم باكراً ويمشي من لندن إلى سكنه خارجها.. وكان يردد دائماً إذا لم أستطع يوماً أن أمشي بعيداً أو سريعاً, أعتقد أنني سأنفجر أو أزول . كما أن الأديب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو جمع مادة واحد من أهم كتبه خلال تجواله مشياً في حدائق باريس، وهو بعنوان أحلام متنزه وحيد . والشيء العظيم في المشي أنه بسيط جداً. فما عليك إلا أن تقوم، تفتح الباب وتبدأ. أما فوائده الصحية والنفسية فتكاد توازي في أهميتها صيدلية كاملة.

أضف تعليق

التعليقات