على الرغم من أن الهجرة كانت موجودة منذ القدم، إلاَّ أنَّ دراستها كإحدى وسائل معالجة الفقر في الدول النامية لم تظهر إلاَّ مؤخراً. وقد شدَّد تقرير أعدته مؤخراً الهيئة العالمية (Global Commission) على أهمية دور المهاجرين في التنمية الاقتصادية، وأوصت بضرورة الاهتمام بهذا الدور وتعزيزه. مهى قمر الدين تعرض قراءتها لهذا الموضوع.
يسلّط البنك الدولي الضوء، من خلال تقرير أصدره في نوفمبر 2005م على أهمية دور الحوالات المالية التي ترسل من قبل المهاجرين إلى ذويهم في بلدانهم الأم. وكانت الأرقام التي ذكرها هذا التقرير مذهلة، إذ تحدّث عن مبلغ 167 مليار دولار دخلت إلى الدول النامية عام 2005م من هذا المصدر بالتحديد. ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه هي الأرقام الرسمية فقط، وأن الأرقام الفعلية قد تكون أكبر بكثير، وأن هذه المداخيل بلغت بالنسبة لبعض الدول الصغيرة والفقيرة، أكثر من 20 بالمئة من الدخل القومي الإجمالي. كما أن هذه الحوالات المالية في ازدياد مستمر إذ إنها تنمو سنوياً بمعدّل 8 إلى 9 بالمئة.
أهم من المساعدات التنموية
وهناك نقطة أخرى مهمة أيضاً وهي أن حجم هذه الحوالات يبلغ ضعفي أو ثلاثة أضعاف حجم المساعدات التنموية التي ترسل من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة.
فمع ارتفاع عدد المهاجرين الذي بلغ 200 مليون شخص في العالم، نشهد اليوم تحوّلات ديموغرافية أو سكانية على الصعيد العالمي. هناك الكثير من الشباب الموجود في الدول النامية الذي يصعب عليه إيجاد فرص عمل في بلاده. لذلك يعمد هؤلاء الشباب إلى الهجرة، وأحياناً بطرق غير شرعية، على أمل إيجاد فرص عمل قد تعود عليهم بحوالي خمسة أضعاف ما قد يحصلون عليه في بلدانهم. وعندما يعمل هؤلاء يرسلون حوالي 20 بالمئة من مدخولهم إلى عائلاتهم في بلادهم الأم. وقد تمثل هذه المداخيل أكثر من نصف مدخول الأسرة كما أنها مصدر مهم للعملة الأجنبية.
دورها الاقتصادي
ولكن، مع الأهمية الشديدة التي يعلّقها بعض المتخصصين على هذه الحوالات بالنسبة للتنمية الاقتصادية في الدول النامية، إلاّ أنَّ هناك فريقاً آخر منهم يعتقد أن هذه الحوالات لا تُوظّفُ في التنمية. ولذلك، لا يمكنها أن تسهم في أي ازدهار اقتصادي. إلاّ أن الدفاع عن أهمية الحوالات المالية يأتي دائماً مع هذه الجدلية بأن المدخول الذي يرسله العاملون في الخارج إلى أسرهم يسهم في ازدياد المدخول الذي يتم استهلاكه، وهذه الزيادة غالباً ما تكون لها فاعلية مضاعفة اقتصادياً. ولذلك، فإنها تُنشطُ الوضع الاقتصادي في البلاد. كما أنها تسهم في دفع جزء من فاتورة تعليم الأجيال الجديدة. بالإضافة إلى أنها، وفقاً للبنك الدولي، تزيد من قدرة الدول النامية الشرائية في أسواق السندات. وعلى عكس المساعدات الأخرى التي يكون مصيرها الهدر، في كثير من الأحيان فإن هذه الحوالات تصيب هدفها بالإضافة إلى أن فعاليتها قد تكون أكبر. و تعطي الإحصاءات التي نشرها الاتحاد الأوروبي أخيراً فكرة عن مدى مساهمة الأموال التي حولت عام 2003م فقط من المهاجرين العاملين في أوروبا من خمسة بلدان عربية بالإضافة إلى تركيا، في الناتج الوطني الإجمالي لهذه الدول. وقد بلغ مجموع هذه الأموال المحوَّلة بصورة رسمية 8.46 مليار دولار. ويتضاعف الرقم إلى 16.2 مليار دولار اذا أدخلنا التحويلات غير الرسمية في حساباتنا. وهذا رقم يزيد على الرقم الذي منحته الدول الأوروبية كمساعدات إلى ثماني دول نامية في العام نفسه. وتشير البيانات التالية إلى النسبة المئوية لمساهمة هذه الأموال في الناتج الوطني الإجمالي لكل دولة:
1 – الأردن: %22
2 – لبنان: %15
3 -المغرب: 6 – %9
4 – تونس: 4 – %5
5 – الجزائر: 2 – %3
6 – تركيا: %2
عندما تكون الخسارة أكبر من الفائدة
ولكن، في الوقت نفسه، فإن العنصر الذي يهاجر ليعمل في الخارج لا يتضمّن فقط اليد العاملة غير المتخصصة. بل قد تُفقد الهجرة في كثير من الأحيان بعض الدول النامية قسماً كبيراً من نخبتها المتعلمة والمتخصصة. إذ إن ثمانية من أصل عشرة من خريجي الجامعات في جاميكا وهايتي مثلاً تركوا بلادهم. وفي بعض مناطق إفريقيا حصل 4 بالمئة فقط من السكان على شهادات بعد المرحلة الثانوية، ولكن هؤلاء الخريجين يكوّنون 40 بالمئة من مهاجري المنطقة. يرسل هؤلاء الحوالات المالية إلى ذويهم من بلاد المهجر، ولكن الخسارة التي يشكّلها فقدان مهاراتهم في بلادهم تفوق القيمة الاقتصادية لهذه الحوالات. لذلك نحن بحاجة لمعرفة المزيد من أجل وضع قوانين قد تزيد من الإيجابيات، في الوقت الذي تُقلل فيه السلبيات التي يمكن ظهورها.
الحاجة إلى قوانين داعمة للتبادل
من ناحية ثانية، تساعد الهجرة في زيادة الإيجابيات الكامنة في الدول النامية التي يواجه الكثير منها عدم تكافؤ ديموغرافي. هناك مصالح مشتركة بين الدول النامية والدول الغنية التي تأخذ على عاتقها إرسال مساعدات لتحسين أوضاع تلك الدول النامية. ولكن تحقيق تلك المصالح المشتركة يتطلَّب وجود قوانين جيّدة مرتكزة على معطيات ومعلومات وأبحاث موثوقة. هذه القوانين يجب أن تشمل زيادة المنافسة بين الشركات التي تعمل على إرسال الحوالات المالية من أجل تخفيف الرسوم التي غالباً ما تكون منظمة بطريقة تنازلية ولذلك يكون وقعها أكبر على الفقراء. وهناك أمثلة حقيقية موجودة. ففي عام 1999م، كان المهاجر المكسيكي يدفع 26 دولاراً من أجل إرسال 300 دولار أمريكي إلى بلاده، ولكن في عام 2005م بلغت كلفة إرسال المبلغ نفسه 11 دولاراً، مما يعادل انخفاضاً بنسبة 56 بالمئة خلال 6 سنوات. وقد جاءت هذه النتيجة بفعل المنافسة المتزايدة بين البنوك وغيرها وذلك بسبب التعديلات القانونية التي أقرّت في الولايات المتحدة والمكسيك بطريقة منسَّقة.
ولكن هناك أمراً غريباً ومحيّراً جداً بالنسبة للدول، وهو إيجاد توازن مقبول وصحيح بين الإجراءات المتخذة لمواجهة تهريب الأموال من جهة، وتسهيل انتقال الأموال من خلال قنوات فاعلة من جهة أخرى، ومن الصعب الاعتقاد بأن يكون هذا التوازن محققاً في الوقت الحالي.
أخيراً، لا يجب أن ننظر إلى هذه الحوالات المالية كمساعدات للدول النامية كما اقترح البعض. هذه الحوالات هي أموال خاصة تُرسل من مداخيل مكتسبة بطريقة صعبة من الفقراء إلى ذويهم الفقراء أيضاً. لا يجب أن تخضع هذه الحوالات إلى أيّ نوع من الضرائب في الدول التي تُرسَل إليها، كما أنه لا يجب أن تعتبرها الدول الغنية التي تُرسل منها بمثابة مساعدات تنموية إلى الدول الفقيرة. وبالتالي تخفف من مساعداتها المالية التي ترسلها إلى تلك الدول. لا يكمن التحدّي بالنسبة للهجرة العالمية في الحصول على جزء من الإفادة التي تعود بها تلك الهجرة. ولكن التحدّي يكون بإيجاد حلول تفيد الدول الفقيرة والدول الغنية والمهاجرين أنفسهم في وقتٍ واحدٍ.