مرة أخرى، تفاجئنا الأكاديمية السويدية بمنح جائزة نوبل للآداب لاسم غير متوقع على الإطلاق: الروائي الفرنسي باتريك موديانو. ولا يعود عدم التوقع إلى أي شكل من أشكال التقييم أو التقدير، بل إلى كون صاحب الاسم، باعتراف الأكاديمية السويدية نفسها، شبه مجهول تماماً خارج بلاده، وخارج دوائر المثقفين الناطقين بالفرنسية.
جاء في إعلان الأكاديمية السويدية عن منح الفرنسي باتريك موديانو جائزة نوبل للآداب للعام الجاري 2014م، أنها اتخذت قرارها هذا بسبب «تمكنه من فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر البشرية العصية على الفهم وكشف العوالم الخفية للاحتلال».. الأمر الذي علَّق عليه في اليوم نفسه أحد النقَّاد في مجلة «نيويوركر» الأدبية الشهيرة بقوله إنه بات من تقاليد الأكاديمية السويدية وهي تعلن اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب أن تنمِّق إعلانها والدافع إلى منح الجائزة بعبارات شاعرية، علينا نحن القرَّاء العاديين أن نتلقفه، وأن نرى فيه قدرة الأكاديمية على أن تقرأ بعمق ما لا يستطيع أي كان قراءته.
وكما في كل عام، انقسم النقاد و«القرَّاء العاديون» بين مصفِّق، وبين متحفظ. ولكن قبل أن نتطرق إلى بعض ردود الأفعال هذه، لا بد من التوقف أمام سيرة هذا «الذي عالج المصائر البشرية العصية على الفهم..»!
سيرة تنقصها صفحات
من هو باتريك موديانو؟
يقول الجواب الذي أعطاه سكرتير الأكاديمية السويدية بيتر إنغلوند عقب إعلان الجائزة: «إن أناساً كثيرين خارج فرنسا يجهلون موديانو وأعماله. إنه معروف جيداً في فرنسا، ولكن ليس في كل مكان».
في ليلة واحدة، بين التاسع والعاشر من أكتوبر، لاحظنا أن سيرة موديانو على موسوعة «ويكيبيديا» مثلاً تضاعفت مرتين، وباتت تغطي العناوين الكبرى من مراحل حياته. ولكن هذه السيرة تثير كثيراً من الأسئلة التي لن تتأخر أجوبتها كثيراً، بعدما صار الرجل نجماً عالمياً، وسينبش الصحافيون والنقَّاد أدق التفاصيل في ماضيه.
جاء في سيرة الرجل أنه ولد في إحدى الضواحي الغربية لمدينة باريس في 30 يوليو 1945م، أي بعد شهرين من انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأنه تنقَّل بين مدارس الضواحي قبل وصوله إلى الدراسة الثانوية في «ليسيه هنري الرابع» في باريس، وهي أرقى المدارس الثانوية في العاصمة الفرنسية على الإطلاق. وفي هذه الثانوية، تلقَّى موديانو حصصاً في الهندسة من أستاذ كان أيضاً كاتباً متوسط الشهرة والمستوى هو ريمون كينو. وكان للصداقة التي جمعته بأستاذه أثر كبير عليه. فلم يتابع أية دراسة جامعية، بل صار رفيقاً لكينو الذي راح يعرِّفه على عالم الأدب والأدباء في باريس. حتى كان العام 1968م، عندما أصدر موديانو روايته الأولى «ساحة النجمة».
وتقول سيرة الأديب أيضاً إنه عاش طفولته في كنف جدّيه لأمه اللذين علَّماه اللغة الفلامنكية أولاً، دون أن تشرح لنا سبب تخلي والديه عنه. وتقول سيرته إن عائلته نبذته تماماً عندما كان في فتوته، حتى إنه عندما قصد والده ذات مرة في بداية الستينيات ليطلب منه بعض المال، كان جواب الوالد استدعاء الشرطة!؟
وروى موديانو بنفسه لإحدى المجلات الفرنسية قبل سنتين، أنه بعدما حاز الشهادة الثانوية، عمل في بيع الكتب في شوارع باريس ليؤمِّن لقمة العيش، وأنه تعلَّم تقليد خطوط بعض كبار الكتَّاب الفرنسيين ليزوِّر توقيعات الإهداء على كتبهم.
شخصيته تحدَّدت باكراً
تمحورت رواية موديانو الأولى «ساحة النجمة» (الميدان الشهير الذي يتوسط باريس) حول رجل يهودي يتعاون مع النازيين خلال احتلالهم للعاصمة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية. واللافت في هذا الموضوع أمران: أولهما، توقيت نشر مثل هذا الموضوع. ففي الستينيات كانت فرنسا قد بلغت ذروة انغماسها في أسطورة صوَّرتها كبلاد المقاومين للنازيين. وجاء توقيت نشر هذه الرواية في مايو 1968م، ليتزامن بدقة مع الانتفاضة الطلابية ضد حكم الرئيس المقاوم شارل ديغول. فكان لها وقعها الملحوظ عند الراغبين في تحطيم صورة المقاومة المبالغ فيها.
أما الأمر الثاني، فهي الصلة المحتملة بين هذه الرواية وشخصية والد الروائي. فوالده ألبير موديانو كان يهودياً. وتقول مصادر عديدة «إنه لم يتقدَّم إلى مراكز تجميع اليهود التي أقامها النازيون في باريس، بل ظل يمارس أعماله في السوق السوداء، ويشاهد دائماً بصحبة رجال الغستابو في أحد شوارع باريس»، دون إلصاق تهمة التعاون مع النازيين به. فهل كانت شخصية بطل «ساحة النجمة» مستوحاة من سيرة والد الكاتب. لم نجد مصدراً واحداً يربط بينهما. ولكن ما ترويه مصادر عديدة هو أن الوالد غضب بشدة من رواية ابنه وحاول شراء كل نسخها من السوق!؟
وسواء أكان هذا الرابط صحيحاً أم لا، فالأمر ليس مهماً، أو لم يعد كذلك. المهم، أن رواية موديانو الأولى هذه تضمَّنت كل ما هو أساسي في شخصيته الأدبية ومزاجه. وفي كل أعماله اللاحقة، ستحضر باريس كإطار مكاني والحرب العالمية الثانية كإطار زمني (قد يمتد إلى بداية الستينيات) لأشخاص يعانون من إشكالات مختلفة مع هويتهم.
رواياتٌ أصداءٌ لبعضها
كتب موديانو 29 رواية حتى اليوم، وصفتها الأكاديمية السويدية بأنها «تُعد أصداءً لبعضها البعض، تتكرر فيها مواضيع الهوية والفقدان والأمل». أما الباحثة كليمانس بولوك من جامعة بنسلفانيا التي أعدت أطروحة دكتوراة حول أدب موديانو، فعددت من القواسم المشتركة الحاضرة في كل رواياته: العودة إلى الماضي، خطر الاختفاء، ضبابية حدود الأخلاق، والجانب المظلم في النفس البشرية.
كفى ترشيحاً لفلان أو فلان
واحدة من أكثر المفارقات رواجاً في الإعلام الثقافي أينما كان في العالم، هو الزعم أن فلاناً مرشَّح هذا العام لجائزة نوبل. لأن الواقع يقول إن لا أحد يعرف من هم المرشحون فعلاً.فالأكاديمية السويدية تدعو جهات محدَّدة في عالم الأدب إلى ترشيح من تراه أهلاً للجائزة. وتشترط السرية المطلقة. ولا تعلن إلا عدد المرشحين الذي وصل لجائزة العام الجاري إلى 210. أما أسماء المرشحين حقيقة فتبقى طي الكتمان لمدة خمسين سنة!
وفي تفسير هذا الجانب الحائر والسوداوي إلى حدٍّ ما في أدب موديانو، يورد النقاد المناخ الاجتماعي القائم الذي عاش فيه الأديب خلال شبابه في باريس خلال حرب الجزائر، التي يقول عنها: «لقد خطفت حرب الجزائر القسم الأكبر من أفضل عِقد في عمري.. لقد كانت فترة حافلة باللقاءات الغريبة بأناس كبار في السن، غرسوا في نفسي الإحساس الدائم بالخطر».
وفي تصفح سريع لمحاور عدد من رواياته، نجد في «شارع الدكاكين المظلمة» (المترجمة إلى الإنجليزية بعنوان «شخص مفقود» وإلى العربية لاحقاً عن الملحقية الثقافية السعودية في باريس)، شخصاً يعاني من فقدان الذاكرة، ويسافر من بولينيزيا الفرنسية إلى روما بحثاً عن ماضيه. وهي أكثر الروايات وضوحاً لجهة قمة البحث الذي لا ينتهي عن الهوية.
وتدور رواية «دورا برودر» (التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان «مذكرة تفتيش دورا برودر»)، حول فتاة عمرها 15 سنة تهرب من الدير الذي كانت تحتمي فيه لتنتهي في أحد المعتقلات النازية.
وفي روايته السادسة والعشرين «الأفق» التي صدرت عام 2011م، نرى رجلاً يُدعى بوسمان يطارده شبح أمه، ويغوص بحثاً عن أناس فقدهم منذ زمن طويل. فقد أحب هذا الرجل امرأة في ستينيات القرن الماضي، وأمضى معها عدة أسابيع في شوارع باريس، ولكن أقلّها ذات يوم قطارٌ اختفى بها. وبعد أربعين سنة، ها هو البطل يبحث عنها.
أديب فرنسي جداً، ولكن..
حاز موديان جوائز عديدة قبل جائزة نوبل. ومن أهمها جائزة الأكاديمية الفرنسية للرواية عام 1972م على روايته «شوارع الحزام»، وجائزة غونكور المرموقة عام 1978م على روايته «شارع الدكاكين المظلمة».. وجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي عام 2012م.. وكان يفترض بمثل هذه الجوائز أن تدفع بترجمة أعماله إلى معظم لغات العالم، وأن تسلِّط عليه الضوء خارج فرنسا. ولكن لا شيء من ذلك تقريباً قد حصل.
فنحو ثلث رواياته فقط تُرجمت إلى الإنجليزية. وحصلت مجلة نيويوركر على أرقام مخجلة لمبيعات كتبه في أمريكا، حيث لم تتجاوز مبيعات روايته الشهيرة «شخص مفقود» حتى لحظة إعلان فوزه بنوبل 2425 نسخة.
المطلِّعون من النقَّاد ردُّوا وجود هذه الستارة حول أدب موديانو إلى كونه «شديد الفرنسية». ولكن المنصفين منهم أضافوا إلى تجانس أعماله مع بعضها، عنصراً أساسياً يجعله يستحق جائزة نوبل، بإشارتهم إلى أن البيئة المحددة، والفرنسية جداً، هي مجرد منطلق إلى هموم إنسانية عامة. وهنا بالذات تكمن مهمة الجهة المانحة لجائزة نوبل، ألا وهي لفت أنظار العالم إلى أدب يفترض بكل هذا العالم أن يكون معنياً به، وليس فقط البيئة التي أنجبته.
ولذا، وبموازاة المفاجأة التي شكَّلها فوز موديانو بجائزة نوبل للآداب، حتى للأديب نفسه ولأقرب الناس إليه وأكثرهم اطلاعاً على أعماله، سارع الكثير إلى الترحيب بالنبأ، واعتبروه إحقاقاً للحق.
ففي يوم 9 أكتوبر، وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» باتريك موديانو بقولها إنه «مارسيل بروست عصرنا»، ووصفه تومسون روبرت في صحيفة الغارديان في اليوم نفسه بأنه «واحدة من أروع الأشجار في الأدب الفرنسي».
ولكن، وفي صحيفة الغارديان نفسها ظهر رأي مغاير. إذ يبدو أننا نحن العرب لسنا وحدنا في التذمر من «انحياز» الأكاديمية السويدية.. فقد كتبت إيما بروكس مقالة غاضبة بعنوان «الفضيحة الكبرى في فوز موديانو بنوبل»، اتهمت فيها الأكاديمية السويدية بتفضيل آداب غير الناطقين بالإنجليزية، خاصة بعد منح جائزة العام الماضي للكندية الفرانكوفونية أليس مونرو. ورأت الناقدة التي كان الدافع الرئيس إلى كتابة مقالتها، التعاطف مع الأديب الأمريكي فيليب روث الذي كان «مرشحاً» محتملاً، أن جائزة نوبل صارت منصة ممتازة للتصدي للحضور الثقافي الأمريكي. وأن هناك اعتقاداً «بأن حكَّام جائزة نوبل المتعجرفين لا يحبون الأدباء الذين تباع كتبهم كثيراً».
باتريك موديانو
•
1945: ولد الأديب الفرنسي باتريك موديانو من أب ذي جذور إيطالية وأم بلجيكية تدعى لويسا كولبين.
•
1965: أنهى دراسته في الهندسة على يد الأستاذة والأديبة ريموند كوين التي فتحت عينيه على عالم الأدب.
•
1968: أصدر أولى رواياته «ساحة النجمة» (place de l’etoile) بعد لقائه بالكاتب كينو الذي شكل مفصلاً مهماً في مسيرته الأدبية، ومنذ ذلك الوقت تفرغ للكتابة.
•
1978: فاز بجائزة «غونكور» للآداب عن رواية «شارع الحوانيت الغامض».
•
1996: نال الجائزة الوطنية الكبرى للآداب تكريماً لمسيرته الأدبية الطويلة التي نشر خلالها حوالى 30 كتاباً تدور وقائع معظمهما حول الحياة في العاصمة الفرنسية إبان الاحتلال النازي.
•
2014: حاز باتريك موديانو على جائزة نوبل في الأدب.
• مؤلفاته:
نشر موديانو قرابة عشرين رواية، منها: «ساحة النجمة» سنة 1968م، وهي باكورة أعماله، حاز عليها جائزة «روجيه نيميه» و«جائزة فينيون». ثم تلتها روايات: «دائرة الليل» سنة 1969م. «شوارع الحزام» سنة 1972م التى حصلت على الجائزة الأدبية الفرنسية. «المنزل الحزين» سنة 1975م التى حصلت على جائزة المكتبات. «كتيب العائلة» سنة 1977م. «شارع الحوانيت المعتمة» سنة 1978م. «شباب» سنة 1981م. «أيام الأحد في أغسطس» 1984م. «مستودع الذكريات» سنة 1986م. «دولاب الطفولة» سنة 1989م. «سيرك يمرّ» سنة 1992م. «محلب الربيع» سنة 1993م. «بعيداً عن النسيان» سنة 1994م. «دورا بروريه» سنة 1997م. «مجهولون» سنة 1999م. «الجوهرة الصغيرة» سنة 1999م. «حادث مرير» سنة 2003م. «مسألة نسب» سنة 2005م. «في مقهى الشباب» سنة 2007م. «الأفق» سنة 2010م. «عشب الليالي» سنة 2012م، التي استلهم فيها قصة اختطاف المهدي بن بركة. ورواية «حتى لا تضيع في الحي» سنة 2014م، السنة التي توج فيها بجائزة نوبل للأدب.
• مساهماته للسينما في سيناريو أفلام:
– 1973: لاكومب، لوسيان (مع لويس ماليه)
– 2003: رحلة سعيدة (مع جان بول رابيني)
• أفلام مقتبسة من مؤلفاته:
– 1983: الشباب (إخراج موشيه مزراحي).
– 1994: عطر إيفون مع رواية البيت الحزين (إخراج باتريس لوكونت).
• ترجمت له روايتان إلى العربية، هما: «مجهولات» عن «دار ميريت» و«شارع الحوانيت المعتمة» عن «روايات الهلال». لم يترجم العديد من رواياته إلى الإنجليزية، بسبب ما اعتبر اتسامها بـ «إشكاليات سياسية».