أن يتم تخصيص جائزة لأفضل بحث علمي في موضوعات مقترحة من قبل لجنة تحكيم عليا، هذا من محبّذ الأمور ومستحسن الأفكار، والعديد من الجوائز تكرِّم العلماء وتعترف بجهودهم فيما بذلوه في أقبية مختبراتهم من جهود كبيرة أرادوا بها خدمة العلم، وأمضوا لأجل الحصول على نتائجها سنوات عجافاً، ليهدوها في النهاية إلى من يفيد منها من بني البشر. أما أن نقول إن هناك جائزة عالمية مخصصة للأبحاث ذات الفائدة الضحلة التي تنقصها بعض الجدية العلمية أحياناً، فهذا من عجائب الأخبار وغرائب الروايات. وقد يعتقد البعض أن هذا نوع من الدعابة الإعلامية أو المبالغة التي يغلب عليها طابع الإثارة، إلا أن الأمر في الحقيقة واقعة طريفة تجري أحداثها في شهر أكتوبر من كل عام وتحمل اسم جائزة إج نوبل (Ig Nobel Prize).
وجائزتنا هذه محاكاة ساخرة لجائزة نوبل الحقيقية، وقد بدأ نشاطها في عام 1991م، وتضمّ عشرة مجالات بحثية مختلفة، كالطب والفيزياء والكيمياء والأدب والسلام، وتقام سنوياً لأجلها مراسم خاصة تغطيها أجواء من الفكاهة وطقوس من المرح، على خشبة مسرح ساندرس الشهير بجامعة هارفارد، ويتمّ بثها عبر الهواء مباشرة عن طريق موقع الإنترنت الخاص بالجائزة، كما يتمّ تسجيل وقائعها وبثّها لاحقاً عبر موجات الراديو.
لعلّ المقدمة قد شدَّتنا لمعرفة بعض النماذج البحثية التي أقرَّتْ بفوزها لجنة التحكيم، وأصدرتْ عليها حكمها النهائي بضعف مادتها العلمية وافتقارها للفائدة الجادة، ونجاحها في إرسال رسالة من الدعابة اللماحة نحو جمهور القراء والمستمعين.
قام عالمان نرويجيان بتقديم دراسة حول تأثير القشطة الحامضة في نظام الغذاء الخاص بحشرات القمل الطفيلية، ومدى تغيير تلك القشطة لشهيتها تجاه الأكل، واستحقَّا بذلك الفوز في فرع الجائزة المخصص لعلم الأحياء عن عام 1996م، وكانا جديرين فعلاً بالفوز. فما قدماه من معلومات بحثية طريفة أثار الفضول والدهشة، وبسببها تعرفنا إلى جانب خفي من شهية الديدان الطفيلية تجاه الأكل، ورأينا كيف يمكن للعلم الحديث فتح شهية الحشرات وتأمين غذاء دسم مقدَّم في صورة طبق القشطة الشهي.
ومن جامعة بريستول يزهو عالم آخر ببحث علمي، تحت عنوان استعمال المغناطيس في رفع الضفدع في الهواء ، واستحق هو الآخر أن ينال الجائزة بجدارة في مجال علم الفيزياء لسنة 2000م. وفي عام 2008م، فاز في مجال أبحاث التغذية بحث مقدَّم من أستاذ جامعي إيطالي وآخر بريطاني، يدور حول طريقة ما، تجعل رقائق البطاطا تقرمش بشكل أوضح ويصدر عنها صوت يخدع من يأكلها وتوحي إليه بأنها طازجة.
يمكننا تخمين ما سيطبعه بحث كهذا في جبين قارئه من علامات التعجب والحيرة والاستفهام التي سبقتها ابتسامة عريضة نجح البحث في رسمها، بعد الانتهاء من الاطلاع على نتائجه وتوصياته المثيرة، التي جعلتْ لجنة التحكيم ترشِّحه بحثاً ملائماً لمزاج جائزة رفيعة كتلك.
قائمة الفائزين طويلة، والأبحاث بها كثيرة، وتعكس جهوداً كبيرة أضفتْ جواً من المرح والدعابة. وقد تكون محاولةً نجحتْ في كسر حدة الطابع الجاد الذي يلفّ العلماء عادة، والذي يغلِّف الكثير من أبحاثهم. وكما تقول اللجنة المنظمة للجائزة، بأنها تُمنح للإنجازات العلمية التي لا يمكن، أو لا يجب، أن يعاد إنجازها! إنجازات تجعل الناس يضحكون أولاً، ثم يفكرون.
تبقى جائزة إج نوبل درساً خفيف الظل ينصح بتوخّي الحذر في طرح الموضوعات العلمية، وحين تمنحها لجنة الحكم هنا كجائزة، فإنّها تدعو الباحث إلى أن يفكر في النتائج المرجوة من بحثه، وأن ينتقي ما يقدِّمه من معلومات قبل أن يبذل في إخراجها جهده ووقته ومداد أقلامه.