قبل نصف قرن من ظهور مصطلح «المجتمع المعرفي» بما فيه من دلالات جديدة، نشرت القافلة في عدد يناير من عام 1963م، مقالاً للأستاذ نبيه غطاس حول المعرفة وما هيتها وأهميتها، نختار منها المقتطفات الآتية:
ليست المعرفة وقفاً على شعب أو بلد واحد، وليس لأمة من الأمم الحق في أن تفاخر غيرها -إن جاز التفاخر- بأنها أورثت الأجيال المطلقة أو أنها صاحبة الفضل في إرساء المعرفة وصروحها. فالمعرفة بحر خضم تلتقي فيه الروافد من كل جهة (…).
لقد كانت أساليب النشر وطرق المواصلات والإعلام تتطوَّر مع تطور المعرفة، الأمر الذي ساعد على نشرها بين أكبر مجموعة من سكان العالم. ويشاهد العصر الحضاري الحالي أروع تلك الأساليب والطرق وأنشطها وأكثرها فعالية. فهناك الكتب والإذاعة والصحف والتلفاز ووكالات الأنباء والمؤسسات الثقافية، الدولية والخاصة، وغيرها. فالمعرفة اليوم، حقاً، تهزأ بالمسافات وتتحدى الفروق بين الناس، اجتماعية كانت أو جنسية أو طبقية (…).
وبين المؤرخين من يزعم أن لانتشار المعرفة شرطاً رئيساً وهو أن تكون لدى شعب من الشعوب قابلية واستعداداً للتعلم والمعرفة. غير أن هذا الرأي فيه كثير من الجور والمغالاة والسطحية. ورأي هؤلاء يعني أن هذا الشعب أو ذاك جاهل ومتخلف لأنه لا يملك قابلية التعلم ولا يستطيع أن يتقبل المعرفة… وفي هذا القول خطأ واضح: فالخطأ هو أولاً التقرير القاطع بوجود معرفة مطلقة أو جهل مطلق، وتقرير كهذا يحتاج إلى كثير من البحث والجدل، إذ إن هناك تداخلاً غير منظور بين المعرفة والجهل في الشعب الواح: فقد نجد في أمة جاهلة معارف كامنة دفينة ممكنة التطوير، كما نجد في أمة متطورة خلايا من الجهل ورواسب خرافات تُعد وصمة في جبين المعرفة. والخطأ الثاني هو أن نحسب -كما يسوقنا هذا «المنطق»- أن الشعب الجاهل سيظل جاهلاً وأن الشعب الذي حصل على شيء من المعرفة سيزيد منها ويضاعفها ويطورها كماً وكيفاً، تشبهاً بالقول المعروف: «من له يُعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه»..
وفي غمرة الجهود التي تُبذل اليوم في سبيل المعرفة وتطويرها ونشرها -مع ما تنطوي عليه من تحد وسباق- نلمح بارقة أمل تبشِّر بمستقبل باهر للمعرفة وللبشرية جمعاء.
وانتشار المعارف بين الناس والشعوب يساعد على إقامة العلاقات الطيبة بينها وإزالة الأحقاد والضغائن ورفع السدود والحواجز: المعرفة بثقافات الشعوب الأخرى وعلومها وآدابها، المعرفة بعاداتها وتقاليدها وتواريخها وأنماط معيشتها، كل ذلك من شأنه أن يقرب بينها ويمكنها من العيش معاً على وجه هذه الأرض بحب وتفاهم وسلام، كما جاء في قوله تعالى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
وفي حديثنا عن سعادة الجنس البشري يجدر بنا أن نذكر سقراط، فيلسوف اليونان الأكبر، وتعريفه للسعادة بقوله: «إن السعادة هي المعرفة».
أجل إن سعادة الفرد وسعادة الأمة وسعادة الجنس البشري هي في المعرفة. وستظل نوافذ الإنسانية تتفتح على آفاق ومجالات من المعرفة جديدة، وستظل المعرفة أداة لإسعاد الإنسان ووسيلة لنشر الرخاء والسلام والتفاهم بين أبناء العالم الواحد.