يعيش اليوم عزلة شبة دائمة، لا تخرجه منها إلا المناسبات الكبيرة. إنه محمود سالم الكاتب الصحافي والروائي الرائد في كتابة القصة البوليسية للصغار, وربما كان عن حق أيضاً رائد الرواية البوليسية العربية عموماً كما كتبت ذات مرة الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت التي ترسم لنا هنا صورته الشخصية.
يذكر الآلاف ممن عاشوا طفولتهم في الستينيات من القرن الماضي كيف كان الواحد منهم يركض إلى المكتبة للحصول على نسخة من الألغاز قبل أن يخطفها الأولاد الآخرون, فيمضي الشهر يتوسَّل لاستعارتها.
و ألغاز هو الاسم الذي أطلقة القرّاء الفتية في مصر والوطن العربي على تلك الكتيبات الصغيرة التي تحكي عن مغامرات بوليسية, يقوم بها خمسة أولاد صغار في مكافحة الجريمة من دون إراقة دماءٍ ولا عنف, وبالاعتماد فقط على قوة العقل وفك طلاسم الجريمة ثم تقديم المجرم للعدالة.
استمتع الصغار العرب بكل تلك الشقاوات والمكائد الطفولية التي يدبِّرها خمسة من الأطفال ليوقعوا بلص أو ليشاكسوا الشاويش (الشرطي).
أكثر من مئة مغامرة كتبها محمود سالم قبل أربعة عقود من الزمن وأعادت دار المعارف طبعها أربع عشرة مرة, وفي كل مرة كانت نسختها المائة ألف تنفد من المكتبات فور صدورها.
نشأتة على شواطئ البحار
ولد محمود سالم في 20 مارس من العام 1929م في الإسكندرية. وكعادة أطفال مصر آنذاك, دخل الكتّاب حيث كان الشيخ حسن الأكوع يعلِّم تلامذتة القرآن الكريم, وكان هولاء يعيدون على مسامعه ما حفظوه منه وهم يغزلون خيوط الحرير على النول. وكان الأثرياء يتهافتون على إنتاج هؤلاء الصغار لأنه مصنوع من حرير دود القز الثمين.
جاب محمود الكثير من موانئ مصر بسبب عمل أبيه كضابط في البحرية. الأمر الذي أثرى خبراته التأملية والبصرية. وفي هذا الصدد يقول تربيت على شواطئ البحار بحكم عمل أبي, طفلاً منعزلاً يعيش عالمة الخاص بعيداً عن البيت, أخرج وحيداً وعدتي صنارة لصيد السمك، وفخ لصيد العصافير، وصبر في انتظار السمكة والعصفور، وعصا أربط في نهايتها علماً أبيض تتوسطه دائرة سوداء كعلم القراصنة. طعامي هو البلح المتساقط على تلال شواطئ بحيرة أدكو والجُمِّيز والتوت من الأشجار، والطماطم والخيار من الحقول المجاورة لبحيرة قارون .
ويضيف: كانت رحلتي تبدأ عند الفجر. أنزل في مياه البحيرة المثلَّجة لأجرف الجمبري الصغير كَطُعْم لصنارتي. وكثيراً ما اصطدت أسماكاً كبيرة أبطأت حركتها برودة المياه, فاستسلمت للجرافة كالنائمة. وبجواري، في حقيبة من قماش صنعتها أمي، بضع روايات أنهمك في قراءتها في انتظار غمزه السمكة، أو زقزقة العصفور الذي وقع في الفخ, أو صوت بلحة الزغلول الساقطة من نخلة عالية. كنت أعرف مكان سقوطها من بين مئات الأشجار بحكم التدريب المتواصل. كنت أقوم برحلتي هذه حتى أيام الدراسة التي كنت أهرب منها، وأعود بعد الغروب لأنال من أبي توبيخاً اعتدت عليه. أما أمي فكانت تستقبلني باسمة معاتبة, ثم تأخذني للاستحمام, لأقوم أنا بعد ذلك بإعداد طعامي: عصافيري وسمكاتي التي لم أكن أقبل طعاماً آخر غيرها .
إلى الكتابة في السنوات العاصفة
ومن مرحلة الفتوة والشباب يذكر محمود سالم أنه كان أول طالب تطارده المباحث بعدما أضرم النار بمدرج الكيمياء في مدرسة دمياط الثانوية عام 1944م، وذلك في إطار الإضرابات والاضطرابات التي عصفت بمصر آنذالك.
أراد أن يصبح ضابطاً في الجيش فقدَّم أوراقه إلى سلاح الطيران في الكلية الحربية، واجتاز الاختبارات، لكنه سرعان ما تعرض للفصل لأسباب سياسية.
توجه من الكلية الحربية إلى كلية الحقوق، حيث كان من بين زملائه عبدالرؤوف الريدي الذي أصبح لاحقاً سفيراً لمصر في واشنطن، وأسامة الباز مستشار رئيس الجمهورية, وغيرهما… ومن كلية الحقوق, حوّل أوراقه إلى كلية الآداب، ثم إلى الخدمة الاجتماعية. وحين طُلِب إليه إجراء بحث حول مستشفى للأمراض العقلية، هاله ما رأى فيه، وأصابة ذعر دفعه إلى ترك الكلية نهائياً. وانخرط في العمل موظفاً في وزارة الشؤون الاجتماعية، وتعرف هناك على زميلة له ستصبح زوجته عام 1957م.
خاض محمود معركة العدوان الثلاثي عام 1956م كصحافي في مجلة التحرير . واستمر في العمل في المجلة نفسها كسكرتير تحرير حتى عام 1959م، ثم في قسم الحوادث بجريدة الجمهورية حتى عام 1962م، ثم ترأس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون .
القصص البوليسية
وفي الستينيات، راح محمود سالم يكتب سلسلته الشهرية حول المغامرين الخمسة الصغار, وينشرها في مجلة سمير وبدءاً من العام 1968م، بدأ بنشرها كأعمال مستقلة. وفي العام 1971م ولأسباب سياسية مرة أخرى، وجد الرجل نفسه خارج وظيفته، فبدأ العمل ككاتب حر.
كان بعض النقاد يأخذون على أبطال سلسلة المغامرين الصغار كونهم جميعاً من المصريين. فأصدر محمود سالم في العام 1974م سلسلة جديدة بلغ عدد أبطالها ثلاثة عشر فتى وفتاة ينتمون إلى معظم الدول العربية، ويصف الكاتب نفسه مهمتهم بأنها كانت رمزياً السعي إلى الانتصار على إسرائيل . وحول هذا الإنتاج, كتب مرة الروائي التونسي كمال العيادي مخاطباً محمود سالم بقوله: أنا من جيل كبر في خيرك يا أستاذ. وكل ما كتبت محفوظ في قلبي ومكتبتي, وأعد لأن يكون من أهم ما عند ابنتي ياسمين لتورثه إلى أبنائها من بعدها .
العودة إلى العزلة
حياة العزلة التي عاد إليها محمود سالم في السنوات الأخيرة, لا تعود أبداً إلى انحسار الضوء عنه، بل هي أشبه بعودة إلى رفيقة الطفولة. فالوحدة تفتح باب التأمل, والتأمل يفتح باب الدهشة, والدهشة تفتح باب الإبداع . ولذا تراه لا يترك عزلته اليوم، إلا في مناسبات كبيرة, كأن يدعوه الكاتب رجاء النقاش للاحتفاء بحصول الطيب صالح على جائزة الرواية العربية من المجلس الأعلى للثقافة بمصر، وهي المناسبة التي التقته فيها القافلة.
والعزلة لا تعني الاعتزال. فقد عاد محمود سالم إلى الكتابة مؤخراً وأنجز ثلاثة ألغاز نشرتها بالفعل مجلة علاء الدين المصرية. وأما مجموعته القديمة التي بنت أبناء جيلنا، فيقول عنها إن دار نهضة مصر تحاول الآن إعادة طبعها, وأنه سيشرع في كتابة الجديد منها، بأبطالها أنفسهم الذين طاردناهم من شارع إلى شارع, ومن مغامرة إلى مغامرة: تختخ، لوزة, نوسة, محب, عاطف والكلب زنجر والشاويش فرقع والمفتش سامي. وكأس الليمون المثلج الذي تحمله لوزة إلى المفتش سامي كرشوة ليحكي لها عن مغامرة جديدة.