في الدار البيضاء عاش الكاتب المغربي محمد زفزاف ردحاً طويلاً من عمره، هذا إن جاز وصف سنوات زفزاف الست والخمسين، التي توفي عنها، بالعمر الطويل. وفيها كانت حياته نضالاً يحتاج إلى صبر مقاتل.
لم يبدأ هذا النضال الحياتي في حياة زفزاف من مدينة الدار البيضاء، لكنها كانت معتركه ومتنفسه ..فقد عبرت رحلته إلى هذه المدينة وسط المغرب، من غربه، من مدينة سوق الأربعاء حيث ولد سنة 1945، وحيث درس وتخرج من شعبة الفلسفة، ثم مدينة القنيطرة حيث اشتغل مدرساً وأمين مكتبة، وصولاً إلى كازابلانكا، الاسم الرديف للدار البيضاء، الجميل والمتخفف من كل ثقل، بينما هي مدينة ترزح
تحت أثقال شتى.
استقر زفزاف في الدار البيضاء كأستاذ. وعاش فيها كـ”بوهيمي”، هذا إن أخذنا من البوهيمية تجلياتها الأدبية السلسة التي تخرج أدباً من تحت الشمس، أي إن زفزاف كان روحاً برية ونابضة وقلقة، غير مشذبة فعلاً، لكنها سعت جهدها إلى أن تقيم بعض اعوجاج هذا العالم.
لقد أشرب زفزاف البساطة كمعيش. وفي الدار البيضاء امتلك التجربة ليناضل لأجل ما يؤمن به. عاش متواضعاً وشارك الآخرين كل شيء. وإذ ترى صورته تبحث في هدوئه عن هذا الشخص المقلق/الفارق في الأدب المغربي، ترى شعره الكثيف وتعرف أنها الأكمة التي تخفي خلفها صيداً ثميناً من الأفكار. وتشدّك الجاذبية التي وصفها الكاتب المغربي عبدالرحيم التوراني، بالقول : “كانت لزفزاف كاريزما من نوع خاص، يمارس بها جاذبيته على الناس الذين يلتقون به. حتى من غير قرّائه، وسمعت بعضهم من العامة يتكلمون عن زفزاف ويتهامسون في إعجاب مومئين إليه ها هو الشاعر أو ها هو الفيلسوف”.
“الفيلسوف” تسمية تطلق في المغرب أحياناً كثيرة في سخرية، كناية عن كل مجتهد أو محاولة للتفكر واستخدام العقل. لكنها أيضاً تقال بمعناها، تحمل التقدير للفكر وأصحابه، وزفزاف كان منهم. ويكفي أن طلبته يلجأون إليه لتقييم بحوثهم قبل غيره، وأن مؤلفاته أهمها “الثعلب الذي يظهر ويختفي” و”المرأة والوردة” و”الحي الخلفي” و”الديدان التي تنحني” و”حوار ليل متأخر” و”محاولة عيش” و”أرصفة وجدران” و”أفواه واسعة” لا يُمرّ بها استعراضاً، بل تُدرّس في أهم الجامعات المغربية والعربية، وترجمت نصوص منها لتدرّس في جامعات أمريكية وأوروبية.
معركته مع المدينة
في هذه النصوص تنضح الدار البيضاء ومدن أخرى كالصويرة، وتتوسَّع انطلاقاً منها لتصبح مشتركاً جمعياً في المغرب. تصدح الكلمات بأصوات المقهورين والمنبوذين، أولئك الذين يفدون على العاصمة الاقتصادية للمملكة جماعات، كمن يشحن أمله باتجاه واحد. وأيضاً أولئك الذين حُكموا بأن يتقنوا لعبة النعاج كما وصفها في روايته “الثعلب الذي يظهر ويختفي” بقوله: “رأفة بهذه النعاج التي لم تأخذ درساً من نهاية وانقراض القطعان السابقة، عبر سنوات خلت، فإن تلك القوة القادرة العليا والخفية، خلقت شيئاً اسمه الموت. إنه الحكمــة الصادقــة. الدرس الأزلي الذي ما زال يُلقّن لكل النعاج، لكن دون جدوى. وها هي الآن تسير حولي بعد أن قضمت عشب غيرها اليومي، دون أن تشعر بذرة واحدة من الندم. وتذكرت قول الشاعر العربي “إنما العاجز من لا يستبد”.
في هذه النصوص أيضاً تخرج بورجوازية المغرب، تلك التي تحفر في أكف العمّال شروخاً يحملونها كل الدهر. وفيها أيضاً تشم رغبات الجسد، وتبحث عن العاطفة وسط دوَّامة الطحن المعيشية
…وهدنته معها
إنها النصوص التي تلفظ المدينة الكبيرة الموجعة، وتلفظ الجهل والقهر. لكن، وإن كان كل هذا يموج في داخل زفزاف، تبقى المساحة مبسوطة للأوقات الطيبة والعلاقات الإنسانية وللأماكن الأثيرة مثل “بار ماجستيك” الذي كان يستدل عليه من وجود زفزاف به، ولقاءاته فيه مع أصدقائه من الكتَّاب والشعراء والمثقفين. هناك الألفة مع المدينة، والهدنة مع ضغطها وقسوتها. هناك يستقيم الناموس الكوني: الألفة تقود إلى المحبة.
“لا يمكن عزل زفزاف الروائي والإنسان عن الدار البيضاء، ولا يمكن قراءة أدبه خارجها، فهذه المدينة بكل ما فيها من بشر وأمكنة وروائح وتيه وضياع وأمل وخوف وجَمَال هي صورته السرية، هي متاهته الشخصية”.
يدعم ذلك ما قاله الكاتب المغربي، أحمد زيادي في وصف ارتباط زفزاف بالدار البيضاء : “لا يمكن عزل زفزاف الروائي والإنسان عن هذه المدينة، ولا يمكن قراءة أدبه خارجها، فهذه المدينة بكل ما فيها من بشر وأمكنة وروائح وتيه وضياع وأمل وخوف وجَمَال هي صورته السرية، هي متاهته الشخصية مثل أية متاهة أخرى، كمتاهات بورخيس، أو متاهات امبرتو ايكو، أو بصريات محمد خضير، فكل كاتب يصنع متاهته الخاصة بنفسه .. إنها مدينة، نص، ينفتح وينغلق على الروائي، وهذا التقلب هو سر الحنين الدائم في الهرب منها والعودة إليها، لقد دخل في غرام البيضاء”.