لغويات

لعبةٌ معجميّةٌ..
على عتبة اللهجة المقارنة!

رغم الثراء التقني للألعاب بمختلف مستوياتها و تنوعها، إلا أنها تبدو ألعاباً استهلاكية لا تتماشى مع العقل الإنساني ولا حتى مع الروح الإنسانية التي حيل بينها وبين التفاعل مع الطبيعة من جهة، ومع العقل من جهة أخرى. ذلك أن الألعاب التقنية بعوالمها الموازية لا تمنح الإنسان أكثر من لذة بصرية وشعور استهلاكي لا يترك في نفسه أثراً عميقاً.

ولأنّ اللغة هي المدخل الأقدر على الغوص في عالم الإنسان الداخلي، وهي الأقدر على استخراج الشعور من أعماق البئر الإنسانية إن صحّ المجاز، فأظننا في حاجة إلى طرح مقترحات ومقاربات لغوية تمتاح من اللهجة، وتربط بين المحكي والفصيح في ذاكرة المعجم، وقد أًتيحَ لي قبل أعوام عديدة أن أقترح على رفاقي في إحدى سفرات الصيف أن نقوم بلعبة معجمية ترتكز على اللهجة المقارنة والحجاج اللغوي، بحيث نقوم باختيار شيء أو فعل، ثم نسمّيه باللهجة المحكية حسب الإقليم أو القبيلة. فخرجنا على إثر ذلك بلعبة معجمية ثريّة، استطعنا من خلالها أن نقف على الثراء اللغوي والروابط المعجمية في النسيج اللغوي المتنوّع الذي يشدّ بعضه بعضاً خصوصاً في الجزيرة العربية.

أذكر في هذا السياق، وعلى ذكر الشدّ والجذب، أنّي خضت غمار هذه اللعبة مع صديقين مختلفين، رغم قربهما من اللسان الإقليمي، وكنا قد وضعنا “شدّ شَعر الرأس” غرضاً لانطلاق اللعبة. قلتُ: نحن نطلق على هذا الفعل “شَعَف” فنقول: شعفتُ فلانا إذا شددتُ شعرَ رأسه “. فمفردة شعف وحدها تكفي للإشارة إلى شدّ شعر الرأس بشكل خاص دون الحاجة إلى ذكره.

فقال أحد الصديقين: ونحن نقول في ذلك  “عَفَش”، وقال الثالث: “ونحن “فَعَش”، فبدا أن بين مفرداتنا “قلبٌ مكاني”، كما بين ” جذب وجبذ “، وهو كثير في لغة العرب.

بيد أن المحاججة المعجمية، وهي جوهر اللعبة، اقتضت أن يوضّح كلُّ واحدٍ منّا مكانة مفردته بين المعجم والاستعمال. فكان عليَّ أن أحاجج عن لهجة قومي بأنَّ الشعف في المعجم له علاقة بالجنون: فالمشعوف هو المجنون ولعل هذا مرتبط بهيئته التي قد تظهر في تطاير شعــر رأس، كما أن شعفة البعير ما علا من شعر سنامه، وهي ذات علاقةٍ بكل شعر منبته فيما علا وارتفع من الجسد، وذلك ما يفسّر تخصيص شدّ شعر الرأس في لهجة قومي..

تلك بعض تداعيات اللعبة المعجمية التي يمكن أن تتحوّل إلى تجوال في ذاكرة المعجم بشعور إنسانيٍّ عميق وعقل متأمّل يربط بين المعاني الذهنية والمعاني الحسّيّة..

في الختام، لا بدّ من التنويه بمشروع جاد في هذا السياق يشرف عليه أ.د. عبد الرزاق الصاعدي هو “مجمع اللغة الافتراضي” (مجمعٌ لغويٌّ تفاعليٌّ للغةِ العربيّة) على الشبكة العالمية وقد صدر للدكتور ضمن هذا النشاط اللغوي كتاب في جزأين، عن الدار العصرية، بعنوان (فوائت المعاجم) ضبط فيه الفرق بين الفوائت القطعية والظنية ضمن شروط معجمية تتيح له الإيغال فيما سقط من اللهجات وردّها إلى المعجم اللساني العربي بالربط الحاذق والصنعة اللطيفة.

أضف تعليق

التعليقات