«أنا الوحيد يا أبي».. هذه هي الكلمة الأولى من قصيدتي التي تحمل العنوان نفسه. كانت أشبه بالحصان النافر، والومضة الخاطفة. قبل ثماني سنوات أتذكر لحظة الميلاد. أيام عديدة وهذه الكلمة تحاول فتح ثقب في جدار مخيلتي، مرة بحجارة صلدة، ومرات أخرى بآلة حادة، وفي كل مرة أحاول أن أكون منحازاً إلى لعبة الحياة اليومية ونمطيتها المعتادة.
عالياً..
أسمع النداء، ولن أرتجف.
العصفورة سقطت على الرخام
وأنا أجر الرنين بيد واحدة يا أبي..
لا أثر للصرخة، أو للسكين هناك.
سأنتظر الدليل يأتي، لكنه لا يأتي
حتى الصدى الذي ربيته في الطريق
ضاع من يدي..
لكن لا مفر: أدخل المنزل بعد عمل شاق وظهيرة لاهبة. وأنا أرمي بجسدي على الكنبة في صالة الطعام، يأتيني صوت زوجتي من المطبخ؛ ليذكرني بعدد من مستلزمات المنزل التي نسيت إحضارها من السوبرماركت. الصوت نفسه يأتيني بالتزامن مع صوت الأطفال المتقطع في الغرفة المجاورة للصالة. لكن فجأة، بمجرد أن يستقر جسدي على الكنبة، يرتفع رنين من داخلي شيئاً فشيئاً حتى يكاد يلامس سقف الصالة، في لحظة يختلط الرنين بالأصوات نفسها، ثم تختفي، ويظل الرنين يلمع كنجمة تضيء سمائي. هذا الرنين الطالع من أعماق الروح ليس سوى كلمة: «أنا الوحيد يا أبي».
أنا الوحيد يا أبي
دربت الوحشة لي ومضيت
شمسك غادرتني عند الضحى
والشعاع في المدن يتسوّل.
وأخوتي تركوا الوصية تكبر في الصحراء
في رحل طرفة بن العبد
في كلمة كانت تحوم كالطير فوق رؤوسنا
فلا بأس إذن
لو كان النهار يرتد مع السهم
ليعود إلى القوس ثانية .
لو كانت التعويذة المدفونة تحت سور البيت القديم
أصبحت في عتمة الجذور نواة لمواسم التمر والرطب.
المشهد نفسه يتكرر، ليس في المنزل فقط، وإنما في أثناء العمل، ومع الأصدقاء في المقهى. لم أكن يوماً من الذين يؤمنون بالوحي في مفهومه الأدبي. كنت دوماً أردد ثمة قَصْدِيَّة نتوجه فيها، بكل أبعادنا الإنسانية والروحية والفكرية، ثم ندخل في الكتابة بكل هذه الأبعاد. لذلك لاحقاً عندما شرعت في إكمال القصيدة، وأنهيتها، كنت أفكِّر أن إيقاع الكلمة هو الذي جعلني أصعد سلم القصيدة خطوة خطوة دون أن أقع أو أنزلق. لكن ما حيَّرني حقاً هو أنني لست وحيداً، وارتباطي بأبي لم يكن أوثق من ارتباطي ببقية العائلة. ربما القارئ يقول لي: نحن نحمل الكلمة على المجاز، وهذا هو ديدن الشعر؟ صحيح ولا يمكن المجادلة في ذلك. لكن الكلمات مهما تكثفت مجازياً وتحصنت تحت أسوار القصيدة، فثمة نسب يربطها بالواقع مهما بَعُد أو تناءى.
لكنّ الرماة خانوا، والماء في المجرى
أوقفته الأحجار والأكاذيب والطفولة
المدى أوشك أن يعوي مثل كلب جريح
والريح التي خلعت جلدنا ونحن نناجيك على هضبة عالية
اليوم مرت علينا..
الخطوة هي الخطوة، والآثار هي الآثار.
كنت في طفولتي أثناء مرحلة الدراسة الابتدائية، وبعد نهاية كل يوم دراسي أنتظر أبي، يأخذني معه إلى مكتبه. كان موظفاً حكومياً، ولا يخرج إلا بعد ساعتين من خروجنا من المدرسة. في هذه الأثناء كنت أجلس على الكرسي المقابل لمكتبه، وأتأمل في وجوه المراجعين. لكن ما شد انتباهي أكثر، هو تركيز نظري على حركة القلم الذي كان أبي يحرر به بعض المعاملات التي بين يديه، كانت طريقة تحريكه القلم، والخط الذي يخلفه وراءه، كثيراً ما كانت تحتل حيزاً من ذاكرتي، وكانت توسع هذا الحيز بطريقة تشبه الإيقاع. وبالمقارنة أدركت الشبه بين الإيقاعين: بين الكلمة الأولى وحركة القلم.
سأنتظر عبورك ثانية يا أبي
أقدام الأخوة غاصت في الوحل
والحبل الذي عقدوه للنجاة، أخذته العاصفة
إلى غابة كثيفة الأشجار
ولا منجى من حرب
قد تصل متأخرة بالبريد
هل يمكن أن يحدث ذلك معي في بقية القصائد؟ ولماذا هذه القصيدة بالذات؟ لا أدعي بهذا التفسير أن يكون هو السبب الوحيد لتفضيلي هذه القصيدة من بين القصائد الكثيرة التي تضمها تجربتي الشعرية. هناك أسباب أخرى كما أرى، هي التي تجعلها أكثر حميمية لقلبي من غيرها، هي أشبه بظلال وارفة تستظل تحتها أجمل ذكرياتي التي ارتبطت بأجمل الأصدقاء. سافرت معي إلى اليمن في ملتقى الشعراء العرب، وكذلك إلى باريس في ملتقى لوديف للشعر العالمي، وأيضاً إلى بيروت. هي أصبحت جزءاً من هذه المدن بالقدر الذي أصبحت فيه جزءاً من جسد ذكرياتي. ورغم مسحة الحزن والصوت الخافت الذي يتغلغل في أجواء القصيدة. لكن صدقني أيها القارئ العزيز هي من فرط حميميتها فرح مشرق خلف هذا الحزن الشفيف.
وعندما تعود..
ستجد الليل أعمى يتكئ على سحابة
وأنا أجمع القطرات في إناء
ستجد رسائل أمي مبعثرة في صحن الدار
وهذه السلة على العتبة
مليئة بالحنين
بالوقت
بالعرق الذي عنونّاه «حياتنا تصعد السلم»
كل قصيدة هي مشروع حزن. الفرح هو الاستثناء. ربما لم أتعلم في حياتي كيف أقذف الفرح كما هو في القصيدة دون رتوش أو كليشيهات؟ على القارئ أن يكتشف معي مكامن هذه الروح من الحميمية؛ كي يكتشف فرحه الخاص، عندها القصيدة في ظني تكون ملكاً للقارئ… للقارئ وحده فقط.
سيكون أمل
لو احتسينا الرنين دفعة واحدة
في حانة الأيام
سيكون أمل..
عندما عشبة صغيرة
في وسط البحر تتشبث
بأجساد الناجين من الغرق
لذا سأنزع ظلي، وأرميه على الجدار مثل حجر
لأن العراء هو عبورك الأخير.
محمد الحرز
شاعر وناقد سعودي من مواليد العام 1967م. له عدد من المؤلفات النقدية والمجموعات الشعرية أهمها: «رجل يشبهني» 1999، و«أخف من الريش أعمق من الألم» 2002 دار الكنوز، و«أسمال لا تتذكر دم الفريسة» 2009 – دار النهضة العربية، و«سياج أقصر من الرغبات» 2013 – دار طوى.