إضافة إلى الإعلام الهادف إلى ترويج الأعمال الأدبية وقت ظهورها، الذي تتولاه جهات عديدة بأشكال مختلفة، يضطر بعض الكتَّاب أن يخوضوا بأنفسهم غمار الدفاع عن إنتاجهم، وحتى الترويج له بوسائل قد يكون بعضها مثيراً للاستغراب. حتى إن بعض الجامعات باتت تعلّم الكتَّاب كيفية الدفاع عن مؤلفاتهم، وتحضهم على ذلك، بدلاً من تركها رهينة مشيئة النقَّاد والقرَّاء الذين يصعب الجزم بفهمهم الكامل لمحتوى المؤلفات الأدبية.
لا يكتفي الكاتب بنتاجه الأدبي، بل يضطر في مواقف كثيرة إلى التدخل إما لتوضيح رأيه أو لتصحيح سوء فهمٍ متعلق بأفكاره. لا تنتهي مواقف الكتّاب في دفاعهم عن نتاجهم عند هذا الحد، فهناك عديد من الكتّاب يتعاملون مع منتقديهم بطرق أقرب للطرافة. من ذلك البيت الشهير للشاعر الدكتور شاكر الخوري، الذي أراد أن يذود عن شعره، ولكن عن طريق مهاجمة المتلقّين. حيث قال:
لو كان شِعري شعيراً لاستطيبته الحمير
لكن شِعري شُعورٌ، هل للحمير شعور؟
لقد صاغ الشاعر نقده اللاذع لمتلقّي شعره في بيت واحد لم يخلُ من المحسنات البديعية التي اشتهر بها الشعر العربي. بيتٌ يدافع فيه عن شعره بقدر ما يهاجم غيره. ومن ذلك أيضاً ما قامت به الكاتبة كانديس ساميس، كاتبة الروايات الرومانسية، حيث هدَّدت أحد قرَّائها بالاتصال بالمباحث الفيدرالية بعد أن كتب عن إحدى رواياتها مراجعةً أظهرت عيوب الرواية. وعبَّرت الكاتبة عن رغبتها في التبليغ عن القارئ بتهمة التقصّد والتتبع. هذان مثالان بسيطان على المنطقة الحذرة بين الكاتب والمتلقي، التي دائماً ما تكون أرضاً خصبة لكثير من الجدل حول الأفكار التي يطرحها الكُتَّاب أو جماليات إبداعهم. ويبقى السؤال ملحاً: لماذا يضطر الكاتب للدفاع عن نتاجه الأدبي؟
تتعدد طرق الكتَّاب وأسبابهم في الدفاع عن أدبهم، ولكن الشاعر الأمريكي والت ويتمان يقدِّم حالة فريدة في هذا الشأن من خلال دفاع استباقي عن أعماله جاء على هيئة الكتابة عنها والترويج لها. عُرف عن ويتمان إيمانُه بإنتاجه الأدبي، فهو تلميذ الفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو إيميرسون، وكان ويتمان متابعاً جيداً لكل ما يطرحه إيميرسون الذي تركزت اهتماماته في تلك الحقبة على أيجاد أدب أمريكي يُحيل الطبيعة والحياة الأمريكية إلى أدب خلَّاق، مستقلاً بذاته عن الأدب الإنجليزي، الذي كان يُباع للأمريكيين في القرن التاسع عشر. كان ويتمان يعارض الاستهلاك السلبي للأدب الإنجليزي، ورأى فيه استمراراً للاحتلال الإنجليزي وتعطيلاً لمَلَكَة الفكر. فقد كان الأدب الأمريكي حتى منتصف القرن التاسع عشر وكأنه صدىً يُرْجِعُ الصوت الذي صدر في إنجلترا. هكذا إذن، أخذ ويتمان على عاتقه هاجس التجديد الأدبي في الشكل والمضمون لكي يؤسس أدباً أمريكياً قائماً بذاته بعيداً عمّا وصفه في قصيدته الشهيرة «أغنية نفسي» بتأثير الأموات، في إشارةٍ إلى الكتَّاب الكلاسيكيين من إنجلترا وإلى الحياة الكامنة التي بإمكان الأدب الأمريكي أن يبعثها عند متلقيه.
ويتمان يكتب عن نفسه
بالنسبة لويتمان، كانت الحياة السياسية الأمريكية، الأكثر انفتاحاً من نظيرتها في إنجلترا، مصدراً رئيساً لأدب يناقش قضايا لا يستطيع الكاتب الإنجليزي طرحها. ومن هنا كانت الديموقراطية أحد أهم مواضيع مجموعته الشعرية «أوراق العشب». وبالإضافة إلى تجديده في المواضيع الأدبية، كان ويتمان مجدداً على مستوى الشكل الأدبي، تدفعه حاجته إلى تبنّي أشكالٍ أدبيةٍ تحمل أفكاره غير المسبوقة. اخترع ويتمان السطر الشعري الطويل الذي، بخلاف الشعر المقفى الكلاسيكي، يستطيع أن يحمل فكرة كاملة في السطر الواحد، ولكن الأهم أنه يحمل نفَسَاً شعرياً أكثر حريةً في مضمونه وفي اختلافه عن التقليد الشعري الموزون والمقفى.
كان ويتمان يدرك أهمية عمله بالنسبة للتاريخ الأمريكي وما يمكن أن يحققه لو وصل للمتلقي بالشكل الذي رسمه له. كان يخشى من هجوم النقَّاد على عمله، ويخسر بذلك فرصته في تجديد الأدب الأمريكي، إضافة إلى إخفاقه في تحقيق مجدٍ شخصي له. لهذا السبب، قام والت ويتمان بنشر مراجعة أدبية لكتابه «أوراق العشب« عام 1855م بعنوان «والت ويتمان وقصائده» تحت اسم مجهول. بدأ المراجعة بقوله «لقد حصلت أمريكا على شاعرها أخيراً». ثم وصف نفسه أنه شاعر الجميع، شاعرٌ جديدٌ يختلف عن كل من سبقه، يبغض الأنماط والأشكال الأدبية التقليدية ويتطلع إلى أدبٍ يشبه أمته، حراً ومستقلاً. يضيف بعد ذلك: «يدخل ويتمان عالم الأدب وكأنْ لم يُخلق قبله كاتبٌ ولا كتابٌ. إنه شاعرٌ عندما تقرأه تعلم جيداً أنه لم يقف في حضرة مَنْ هو أعلى منه مكانةً، فكل كلمة تخرج من فمه تُمَثّل احتقاراً لنظريات الأدب وأشكاله». لا يتوقف ويتمان عند هذا الحد، بل يتطرق إلى معاداة عمله لفردية المفاهيم، فهو مدافع شرس عن التعددية والاختلاف. ثم ينهي المراجعة بتعليقه أنه يتطلع إلى أن يُشَكّل عمله نواةً تؤسس لمستقبل الشعر الأمريكي، ويرى أنه قد علّمهم الاستقلال والابتعاد عن التبعية.
لم يكتفِ ويتمان بهذا الحد. فبعد نجاح عمله وصلته رسالةُ تهنئة من رالف والدو إيميرسون الذي أعجب كثيراً بالعمل، فكتب له مهنئاً: «لم تفُتني موهبتك الفذة في «أوراق العشب». إنني أراه عملاً استثنائياً فيه من الحكمة ما لم تعتدْ عليه أمريكا». وأضاف: «يا لها من بداية! لا بد أنك أسست نفسك في مكان ما، لقد أجبرني نور شِعْرِكَ الوهّاج على فركِ عينيّ». لم يكن إيميرسون شخصاً عادياً، فقد قضى وقتاً طويلاً يحث على الفردية والتنوع حتى أصبح أكثر الفلاسفة والشعراء في وقته شهرة. كلماته لويتمان كانت تعني كثيراً، وكان الأخير يعرف ما الذي يمكن أن تحققه له هذه الكلمات. لذلك قام ويتمان بتضمين رسالة إيميرسون، وهي رسالة تُعرف بأشهر رسالة في الأدب الأمريكي، في مقدمة النسخة الثانية من كتابه التي طُبعت عام 1956م. كما قام أيضاً بطباعة عبارة إيميرسون «مرحباً بك في بداية أدبية عظيمة» على ظهر الكتاب. الجدير بالذكر أن ويتمان لم يأخذ إذناً من إيميرسون قبل إعادة طباعة الرسالة، ففوجئ الأخير برسالته موضوعةً كمقدمة للنسخة الثانية. لم يحصل اختلاف بسبب هذا الأمر، ولكن كان معروفاً أنّ لدى إيميرسون بعض التحفظات على بعض ما جاء في مجموعة ويتمان الشعرية، خصوصاً بعض الإسقاطات التي رأى فيها إيميرسون تجاوزات، ولكن هذا لا ينفي إعجابه بروح التجديد في العمل. المهم في الأمر أن ويتمان نجح في تأسيس نفسه كشاعر أمريكا الأول وعاش فترة نجاحه واحتفال النقاد والأدباء به، والفضل في ذلك يعود لشخصيته الانتهازية، وشعره المتميز بالطبع.
الحماية القضائية
ما فعله ويتمان كان استباقياً لنجاحه، ولكنْ هناك كتَّابٌ يتبعون أساليب قضائية لحماية حقوقهم الأدبية، وهذا ما فعله الكاتب جي دي سالينجر حين قام كاتب سويدي ينشر تحت الاسم المستعار جون ديفيد كاليفورنيا، واسمه الحقيقي فريدريك كولتينج، بنشر جزء ثانٍ لروايته «الحارس في حقل الشوفان» عام 2009م. كانت ردة فعل سالينجر صارمة إذ استعان بفريق من المحامين لرفع قضية على الكاتب السويدي الذي، كما رآه سالينجر، قد تطاول على إرثه الأدبي. ولكن السؤال هنا: ما الذي جعل سالينجر يذهب للقضاء وهو يعلم أن قوانين الملكية الفكرية تحمي حق المحاكاة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من معرفة نظرة سالينجر لعمله وما أراد تحقيقه. كان هدف سالينجر من عمله هو تسجيل موقفٍ أخلاقي من العالم، ولذلك كان هولدن كولفيلد، الشخصية الرئيسة لروايته، سليط اللسان يتعامل مع عالمه بحدة واحتقار شديدين. يتمتع كولفيلد بذكاء القارئ الناقد لمجتمعه، لذلك نجده يفشل في دراسته ولكنه ينجح في كشف زيفِ مَن حوله. ربما يتلخص هدف الرواية في أمنية كولفيلد أن يكون حارساً لأطفال يلعبون في حقل الشوفان بالقرب من جرفٍ ويكون هو الحارس الذي يحميهم من السقوط. تبدو دلالات هذه الرمزية الأدبية وثيقة الصلة بشخصية هولدن، فهو يحلم أن يحمي براءة الأطفال من التشوّه حين تختلط بعالم البالغين المنافق كما يراه الكاتب. ولهذا السبب يرى سالينجر في عمله موقفاً شجاعاً لا يريد لغيره أن يتلاعب به ويقدِّمه في ضوء عمله الذي حقق نجاحاً مذهلاً، إذ يباع من روايته 250 ألف نسخة سنوياً، كما تُرجمت لمعظم لغات العالم.
اختار سالينجر أن ينهي روايته بالتعتيم على أحداث لم يرغب في كشفها، وربما يكون هذا ما دفع كولتينج إلى التفكير في جزء آخر يكشف هذه الأحداث. فقد قام الكاتب السويدي بتقديم هولدن كولفيلد بعمر 76 عاماً لكي يحكي تجربته بدءاً من حيث توقف سالينجر. ولكن بعد سلسلة من المرافعات القضائية قدَّم فيها طاقم المحامين فعل كولتينج بوصفه سرقة أدبية وليس محاكاة، إذ تظهر شخصية الرواية الأصلية هولدن كولفيلد التي يمتلك سالينجر حقوقها الأدبية في رواية الكاتب السويدي. بعد وفاة سالينجر عام 2010م صدر حكم قضائي في السنة التالية بمنع الرواية من التوزيع داخل الولايات المتحدة الأمريكية سواء بنسختها الورقية أو الإلكترونية. ولن يُسمح بتوزيعها حتى تنتهي فترة الملكية الفكرية حين تدخل الرواية النطاق العام. وبهذا يكون سالينجر قد سجَّل موقفاً آخر من العالم، وهو أنه قال كلّ ما يريد قوله في روايته بالطريقة التي رآها مناسبة، فقد كان سالينجر، مثل ويتمان، مجدداً في الشكل والمحتوى الأدبي ولم يكن يريد لغيره أن يشاركه هذا الإنجاز.
دور الجودة ليس حاسماً
ليس صحيحاً أن نجاح العمل الأدبي مقرونٌ بجودته، فهناك عديد من الأعمال الأدبية التي لم تلقَ رواجاً لسنوات عديدة، وعندما اكتُشفت من جديد أصبحت من روائع الأدب العالمي. «موبي ديك» (1855م)، مثلاً، خير شاهد على ذلك. فقد بذل هيرمان ميلفل جهداً مضنياً في صنع عالم روايته، استمد فيها إسقاطاته من الحياة الأمريكية في القرن التاسع عشر، وكان يريد لها أن تقف شاهداً على أكثر الفترات الحرجة في التاريخ الأمريكي إذ تشكّل في ذلك الوقت الأدبُ الأمريكي بشكله المنفصل عن التأثير الإنجليزي. لم تُقَابَل روايته بأي ترحيب نقدي، بل هوجمت، خصوصاً من الصحف الإنجليزية، وتوفي عام 1891م وهو موقنٌ بفشلها. في عام 1917م قام الكاتب والناقد الأمريكي كارل فان دورين بدراسةٍ صنَّف فيها «موبي ديك» بوصفها «قمة الأدب الرومانسي الأمريكي». وبعد تلك الدراسة بدأ النقاد والقرَّاء على حد سواء بإنصاف الرواية حتى أصبحت من أكثر الروايات شهرةً حول العالم.
يعي الكتَّاب هذه الحقيقة، لذلك لا يعتمد كثير منهم على إيمانه بجودة عمله فحسب، بل يسعى في سبيل ضمان تحقق رؤيته لعمله سواء عن طريق التسويق أو التواصل المباشر مع الجمهور أو حتى الجنوح في ممارسات أكثر غرابة. بل إن عديداً من الجامعات المتميزة في الولايات المتحدة الأمريكية تعطي الكتَّاب دروساً في إدارة السمعة لكي يعلن الكاتب عن نفسه، كأي سلعة، بلا خجل، لأن فشل الكاتب في الوصول للمتلقي والناقد يعني التعامل مع أعماله المستقبلية في ضوء هذا الفشل، وعدم قدرته على تسجيل اسمه في الذاكرة الأدبية. ومن هنا تأتي استراتيجيات مختلفة يتبناها الكتَّاب بعد النشر لكيلا تُفهم أعمالهم بطريقة خاطئة، ولكي يضمن الكاتب أيضاً مسألة التسويق. فحين ينتهي الكاتب من عمل أدبي يكون مشغولاً عادةً بردود الفعل المباشرة على عمله التي تتمثل بالمراجعات التي من شأنها أن تجعل من العمل أيقونة أدبية أو تصرف المتلقي عنه.