احتلَّ المشهد المدني مكانة مهمة بين مواضيع الفن الحديث التي وجدت في محتوياته ثراءً مدهشاً يؤثثه الإنسان الحديث بعد أن استنفد تقريباً قدرته على الإضافة إلى المشهد الطبيعي الرومانسي الذي ظل موضوع الفن عدة قرون. هكذا بدأ الفن باستشكاف مادته وموضوعاته بين مظاهر الحياة المدنية التي لم تخذله أبداً، واتخذ في هذا السبيل مناحي شتَّى، تناولت في أغلبها التفاصيل الصغيرة التي تعج بها الحياة.
فالكراسي والأبواب والنوافذ والشوارع والمقاهي والمطاعم، كلها موضوعات جديرة بالاهتمام، لكونها تسجِّل حيزاً يعمره الإنسان ويتعايش معه يومياً. وعلى الرغم من اهتمام الفن بالحياة المدنية، إلا أنه قلما استوعبت اللوحة مشهداً مدنياً كاملاً كذلك الذي استوعبه الفن فيما يتعلق بالمشهد الطبيعي، سواء مشهد البحر أو مشهد الغابة أو خلافهما. ولعل مردّ غياب المشهد المدني الكامل نسبياً إلى حقيقة أنه لا يتيح في الغالب فرصة للعين البشرية لاستيعاب الأفق المدني، نظراً لكثرة العوائق بين المُشاهد وبين الأفق، إضافة إلى ازدحام تفاصيل الحياة المدنية بشكل مبالغ فيه أحياناً.
من هنا تأتي قيمة مجموعة اللوحات الزيتية التي رسمها الفنان الإيطالي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية فاليريو دوسبينا.
فخلال الأعوام القليلة الماضية أنجز دوسبينا عدداً من اللوحات التي اتخذت من مانهاتن مادة لها. ومانهاتن، أو نيويورك عموماً، ليست غريبة على الفن، بل جذبت اهتمام الفنانين منذ مطلع القرن العشرين. وطالما شخصت إليها أبصارهم بسبب أبراجها العالية وشوارعها المتقاطعة وأحيائها المفعمة بالحيوية، مما جعل أفئدتهم تهوي إليها، فجاؤوها من كل حدب وصوب. وهكذا يواصل دوسبينا الاهتمام الفني بنيويورك، ولكن المميَّز حقاً في لوحاته، والجديد فيها أيضاً مقارنة بغيرها، الزاوية غير المألوفة التي اعتمدها الفنان. إذ تصوِّر اللوحات مانهاتن من منظور استثنائي يحل محل المنظور المألوف الذي يعتمد على الأبعاد المتوفرة للشخص في ظروف عادية ترتكز حول نقطة التلاشي باعتبارها نقطة مركزية تحتل قلب اللوحة.
الجدير بالذكر أن لوحات دوسبينا تستجيب للثقافة البصرية التي حظي بها إنسان اليوم بفضل عوامل عدة لم توجد لدى سابقه. فالطيران، والرافعات، والكاميرات، وصعود الأبراج، هذه عوامل أتاحت للفرد فرصة مواتية لاستيعاب المشهد المدني ضمن أفق كامل لا تقطّعه العوائق الكثيرة المختلفة. ونتيجة محاكاة دوسبينا لهذه الفرصة البصرية واستثمارها في لوحاته أن وجد المشاهد نفسه أمام رؤية جديدة للمدينة على قماش اللوحة. وبتأمل هذه اللوحات، يجد المشاهد نفسه منجذباً إلى الدراما المتحركة عبر خطوط مستقيمة وجريئة توازي الشوارع أفقياً أو حواف المباني الطويلة عمودياً، وقد يغيب فيها مأخوذاً بالحركة المنقولة على القماش، لأن لوحات دوسبينا تظهر قدرته الفائقة على التقاط نبض الحركة المدنية في المدينة الكبرى وتسجيله دون إلحاق الضرر به. وغالباً ما كانت مقدمات تلك اللوحات تحتوي على تقاطعات الشوارع، التي تصف انسيابية الحركة، وربما اشتباكها، في المدينة المعاصرة.
ملمحٌ مثيرٌ لفضول مشاهد لوحات دوسبينا أنها تخلو تقريباً من العنصر البشري. ربما لأن الفنان يريد أن يقصر اهتمام المشاهد على الجانب الصناعي من الحياة المدنية: المباني والشوارع المتكتلة. هذا الجانب استحوذ على اهتمام دوسبينا طويلاً، حيث ركزت لوحات له سبقت لوحات مانهاتن كثيراً على البُعد الصناعي، وسلَّطت الضوء على مخلفات صناعية كبيرة الحجم، جاءت على شكل سفن ضخمة أو قطارات بخار مقبلة أو موانئ معطلة. ولهذا يستخدم دوسبينا لوحةَ ألوان درامية أحادية اللون، يسيطر فيها الرصاصي غالباً والنحاسي الباهت، ويستعير من الفوتوغراف أدواته فيما يتعلَّق بالمنظور والحركة في تناولهما للمعمار المدني. ويعمد إلى تشويش المشهد قليلاً حتى يصبح شبيهاً بذاك الذي يحصل عليه السائح الذي يرتقي ناطحة سحاب ويشاهد المدينة من علوّ بعد أن تغطي ألوانها غشاوة رقيقة تشكلها مسافة عازلة من الحركة والضجيج. كأنها صور التقطت من علو طائرة أو قمة برج، الشيء نفسه الذي فعله في لوحات أخرى رسم فيها مدناً إيطالية وإسبانية وكأنما هي صور التقطت من نافذة سيارة مسرعة.
إلى جانب ذلك، تتميز لوحات دوسبينا بالإتقان الذي اشتهر به الفن الكلاسيكي في أوج نشاطه، وفي هذا مفارقة مهمة، إذ جمع الفنان ما بين التقنية الكلاسيكية والموضوع الحديث والمنظور المبتكر. وهو وإن لجأ إلى تقنية كلاسيكية إلا أنه أضاف عليها لمساته الطفيفة الحساسة البارعة، التي تمثلت في ضربات فرشاة أو قطرات لون تكسر في معظمها حدة الخطوط المستقيمة وجرأتها. وفي المجمل، نستطيع القول إن لوحات دوسبينا الزيتية مقاربة لنقل التركيب البصري لمانهاتن بكل تعقيداته وأنساقه، استطاعت القبض بكل مهارة على الأفق المدهش لهذه المدينة.