شهد العالم خلال الأشهر الماضية سلسلة من حرائق الغابات لا مثيل لها في ضخامتها, والتهمت ألسنة النيران في طريقها كل الأرقام القياسية المسجلة سابقاً على صعيد هذا النوع من الكوارث في عدد من البلدان, ولامست المستويات القياسية في عدد آخر. ووقف العالم وقتاً أطول مما اعتاد سابقاً أمام الأشجار المتفحمة ورمادها ليتأمل في الأسباب والنتائج, وأيضاً في هزائمه المتكررة أمام ألسِنَة النيران التي تتفوق عاماً بعد عام على ما يكون الإطفائي قد زعمه لنفسه من تطوير القدرات والاستفادة من التجارب السابقة.
فريق القافلة يتناول هنا هذه القضية التي باتت تؤرق بال العالم بعدما اتسعت دائرة ما يمكن لهذه الحرائق أن تلتهمه لتضم إضافة إلى الأعشاب اليابسة مستقبل الحكومات, وإلى الأشجار الباسقة وأرواح البشر مستقبل البيئة وحال المناخ العالمي.
كثرت خلال العام الجاري الأرقام القياسية الساخنة التي انقشعت حقيقتها بتبدد دخان حرائق الغابات. ففي ولاية كاليفورنيا الأمريكية أدت الحرائق التي اندلعت ألسنتها الأولى في 21 أكتوبر إلى إجلاء نحو مليون شخص عن أماكن سكنهم خلال ثلاثة أيام.
وهذه أكبر حركة هجرة داخلية في أمريكا (بعد تلك التي تسبب بها إعصار كاترينا), وتتجاوز إلى حد بعيد هجرة الذين نزحوا في حريق العام 2003م العملاق الذي أتى آنذاك على مساحة تقدَّر بـ 280,000 هكتار, مقابل 162,000 هكتار لحريق العام الجاري, الذي التهم أيضاً أكثر من 2,000 منزل.
وفي اليونان كانت الأرقام القياسية أوضح وأكثر مأسوية, فحرائق الغابات التي اندلعت في أغسطس كانت الأضخم منذ قرن. وامتدت ألسنة اللهب إلى مئة قرية لتدمرها تدميراً جزئياً أو كلياً, حاصدة أرواح أكثر من 60 شخصاً (رقم قياسي آخر), كما قدرت قيمة الخسائر الإجمالية وفق بعض التقديرات بنحو 5 مليارات يورو!!
وفي نطاق أضيق, ولكنه لا يخلو من الأرقام القياسية النسبية, استفاق لبنان صبيحة الأول من أكتوبر على رائحة الدخان المنبعث من أكثر من مئة حريق في الغابات والأحراج من جنوبه حتى شماله, وهو رقم قياسي لم تشهد البلاد مثيلاً له من قبل. صحيح أن مجموع المساحة الحرجية التي التهمتها النيران آنذاك بقيت في حدود 2,500 هكتار. وهذا الرقم يبدو صغيراً جداً أمام حرائق كاليفورنيا, وأن الخسائر المادية لم تتجاوز 10 ملايين دولار أمريكي، ولكن قياساً إلى مساحة البلاد الصغيرة, طالت النيران %0.25 من هذه المساحة، وأحرقت %2.5 من الغطاء الحرجي, أي ما يوازي خمسة أضعاف المساحة التي شجِّرت خلال 17 سنة, بعد انتهاء الحرب الأهلية.
ميزان محكوم بعدم التكافؤ
في المواجهة بين الحرائق وعنفها وقدرتها التدميرية من جهة والجهات المسؤولة عن الإطفاء من جهة أخرى، يبدو أن الميزان محكوم بعدم التكافؤ الدائم بين كفتيه. فلبنان لا يملك ما يستحق الذكر من أدوات الإطفاء المتوافرة لليونان مثلاً. إذ لا طائرات إطفاء متخصصة فيه. ولو كان يملك بعضاً من طائرات الإطفاء الأربعين التي تملكها اليونان, لأمكنه إنقاذ الكثير من غاباته الجبلية. ولكن طائرات الإطفاء اليونانية انهزمت أمام عنف ألسنة اللهب في غاباتها, إذ كانت تحتاج إلى الكفاءات البشرية وما تملك عدة وعدداً المتوافرة في كاليفورنيا. ولكن الإطفائيين السبعة آلاف الذين جُمعوا من أرجاء الولايات المتحدة كافة لإطفاء حرائق كاليفورنيا, وصلوا بسرعة إلى نقطة العجز عن مواجهة عملقة النيران, ولم تجد الموازنة التي خصصتها ولاية كاليفورنيا فقط, والبالغة 850 مليون دولار, لإطفاء الحرائق, في توسعة قدرة الإطفائيين التي انحصرت بسرعة في دائرة إجلاء الناس عن بيوتهم, فلم يبق الكثير من الجهود المجدية في مكافحة الحرائق مباشرة لإخمادها.
تتعدد الأسباب والحرائق واحدة
قبل الدخول في تفاصيل الحرائق المشار إليها وما تكشفت عنه أو ما تنذر به على الصعيد البيئي, تجدر الإشارة إلى أن حرائق الغابات, من حيث المبدأ، ليست كلها كوارث ناجمة من عبث الإنسان بالطبيعة. حتى أن البيئيين فاجأونا منذ السنوات الأولى لتطور عملهم في القرن الماضي, بالتأكيد أن الحرائق الطبيعية في الغابات جزء طبيعي من دورتها.
فالأشجار الباسقة عند نموها إلى مستوى معين تحجب ضوء الشمس عن الأرض فيتهدد مصير الشجيرات والأعشاب التي تنمو تحت ظلالها, وحتى مصير البذور التى يفترض فيها أن تنبت شتلات نوع الأشجار نفسه. فيأتي الحريق الطبيعي الناجم من الصواعق أو الرياح الساخنة ليشعل الأعشاب التي تكون قد بدأت باليباس تحت الأشجار, ولتمتد النيران منها إلى الأشجار نفسها. وبانطفاء الحريق انطفاءً طبيعياً بفعل الأمطار أو بانعزال البقعة التي التهمها عن بقعة حرجية أخرى, ينقشع جو الغابة, وتصل أشعة الشمس إلى الأرض, فتعود الأرض إلى الاخضرار بالشتلات الصغيرة النضرة, والنباتات المختلفة. حتى أن هناك نوعاً من الصنوبر البري في أمريكا حيَّر العلماء بطريقة تكاثره, لأن كوز الخشب المغلق جيداً على البذور أطول عمراً من البذور. وتبين أن الحرائق وحدها هي التي تفسخه (من دون أن تحرق محتواه) لتسقط بذوره على الأرض، وتصبح قابلة للنمو.
ولكن العلماء البيئيين, مع تأكيدهم هذه الحقيقة العلمية, لم يفتهم أن يعيِّنوا الإيقاع الزمني لهذه الحرائق الطبيعية, فقدَّره بعضهم بما يراوح بين 50 و 100 سنة فاصلة بين حريق وآخر في الموضع نفسه. وهذا يختلف كثيراً عن إيقاع الحرائق التي شغلت العالم أخيراً, وعن مسارها ونتائجها أيضاً.
تنوَع ملفات الاتهام
عند البحث في أسباب حرائق كاليفورنيا واليونان ولبنان (وأيضاً إسبانيا وتركيا) تطالعنا ظواهر اختلاف شكلية في توجيه إصبع الاتهام التي تبقى مركزة على الإنسان.
وعلى الرغم من أن حرائق كاليفورنيا هذا العام لم تخل من إشارات أو أسئلة عما إذا كانت شرارتها الأولى مفتعلة, فإن الأبحاث الجادة ركَّزت على دور المناخ وحالة الطقس المتمثلة بهبوب الرياح المعروفة باسم سانتا آنا من الصحراء العليا بين لاس فيغاس ولوس أنجليس. حتى أن مجلة تايم بدأت التقرير الموسع الذي أفردته لهذه الحرائق وتصَدَّر غلافها في 5 نوفمبر, بالحديث عن هذه الرياح وديناميتها التي ترفع حرارتها, وتصل بسرعتها حتى 160 كيلومتراً بالساعة.. أما حرائق اليونان ولبنان, وإن لعبت حالة الطقس الحار والجاف في أشهر الصيف ومطلع الخريف بعض الدور في إذكائها, فهي تبقي أصابع الاتهام موجهة بالدرجة الأولى إلى الإنسان بصفته مفتعلاً لهذه الحرائق عن عمد ولمآرب اقتصادية بحتة.
فمجلة الإكونومست البريطانية بدأت حديثها عن حرائق اليونان بتناول الحرائق التي اندلعت قبل عامين, عندما هدد أحد حرائق الغابات منزل رئيس الوزراء كوستاس كارامنليس نفسه على الشاطئ القريب من العاصمة أثينا. ورداً على ذلك أعلن كارامنليس عزم حكومته على اتخاذ سلسلة خطوات في إطار مكافحة الحرائق بينها سن قوانين تمنع تشييد المباني على أراضٍ خلت من الأشجار بفعل الحرائق. لأن القوانين القديمة كانت (كما في معظم دول المتوسط ومنها لبنان) تمنع استثمار أراضي الغابات, ولكنها لم تكن واضحة فيما يتعلق بالأراضي التي لم تعد غابات بفعل الحرائق. وناهيك بمساعي الحكومة اليونانية للاعتماد على الأقمار الصناعية في التقاط صور فوتوغرافية دورية للأراضي اليونانية, تمتيناً لهذه التدابير, فإن مجرد طرح قضية البناء على نحو ما ذكره رئيس الوزراء اليوناني يتضمَّن اتهاماً (أو حتى إعلاناً واضحاً) أن هذه الحرائق كانت مفتعلة لغايات تعود بالنفع على أصحاب مشاريع البناء.
ويصح الأمر نفسه في حرائق لبنان. فقبل إخماد هذه الحرائق كانت كل جهة قد توصلت إلى استنتاجها, ما عدا الجهات القضائية التي يفترض أن تصدر كلمة الفصل. فقد ظهرت تفسيرات لاندلاع الحرائق المئة في يوم واحد, تلقي بالملامة على حرارة الطقس وجفاف الهواء, (من دون إعلان درجات الحرارة التي يرى البعض أنها كانت معتدلة. ولا معدلات الرطوبة، كذا). فيما علت أصوات أخرى سعت إلى تأكيد أن هذه الحرائق مفتعلة لاستثمار الأراضي المحروقة لإنشاء مقالع الحجارة والكسّارات, أو لجني بعض المنافع الأخرى.
وفي الحالة اللبنانية (التي نعرفها أكثر من غيرها لقربها منّا), وعلى الأرجح في معظم الحالات المتوسطية كاليونان وتركيا, يجد بعض الناس عدداً من المنافع المباشرة في حرق أجزاء من الغابات.
فإضافة إلى استثمار الأراضي المحروقة لإقامة المشاريع الإنشائية الممنوعة في الغابات, هناك الرعاة الذين يجدون نفسهم أمام المعضلة التاريخية حيال النباتات الشوكية التي تكثر في جبال حوض المتوسط, وتعيق رعي الأغنام ووصولها إلى الأعشاب الندية تحتها. ولأن حرق الأراضي البرية ممنوع, يلجأ هؤلاء إلى إشعال حرائق صغيرة خلسة في موسم الرياح والجفاف الذي يبلغ ذروته في نهاية فصل الصيف, أملاً في توسعة دائرة الحريق وهم بعيدون عن الأعين, ويحصل غالباً أن الرياح تنقل النيران إلى مساحة أوسع بكثير مما كان يطمح إليه الرعاة.
وإضافة إلى الرعاة, هناك أيضاً تجار الفحم. فكل طن من السنديان مثلاً ينتج ربع هذا الوزن من الفحم, الذي يباع بـ 70 سنتاً أمريكياً للكيلوغرام. وبالتالي فإن حرق جزء صغير من غابة يمكنه أن يوفِّر دخلاً ملحوظاً للذي أشعله أو استفاد منه.
إنها جنايات ولا شك. ويمكن للتشدد في تطبيق القوانين أن يقمع الكثير من هذه الحرائق. ولكن الأسئلة التي تثيرها حرائق الغابات باتت تتجاوز هذه المواجهة السطحية والمباشرة, لتدخل في مسائل بيئية بالغة التعقُّد وكلها تضع دور الإنسان غير المباشر في موضع الاتهام, وتنذره بعواقب أوخم مما اعتاد عليه سابقاً.
النمو السكاني ودوره
في تفسير احتراق هذا العدد الكبير من المنازل في كاليفورنيا خلال حريق أكتوبر, كشفت مجلة تايم أن فورة البناء التي رافقت تضاعف عدد سكان كاليفورنيا ثلاث مرات منذ العام 1950م حتى الآن, أدت إلى إقامة %50 من المنازل الجديدة التي بنيت منذئذ في مناطق على درجة عالية من خطورة تعرضها للحرائق.
ولم يخل حديث مجلة إكونومست عن حرائق اليونان وحجم خسائرها المادية المرعب, من الإشارة إلى طفرة البناء التي تعززت بنمو معدل دخل الفرد، وتكاثر الراغبين بامتلاك بيوت ثانية في مناطق طبيعية ولا سيما الحرجية. الأمر نفسه ينطبق على لبنان حيث باتت المباني والمنشآت عبارة عن مجموعة سلاسل تخترق الأماكن الحرجية من دون انقطاع يستحق الذكر على طول البلاد وعرضها.
هذا الحضور اليومي للإنسان بكل ممتلكاته وأوجه نشاطه الحديثة على مسافة قريبة جداً من الغابات ينشئ خطراً مزدوجاً.
الخطر الأول هو توفير المزيد من الشرارات الأولى لإشعال الحرائق. كما في بعض حرائق اليونان حيث اتهمت شرارات تطايرت من أعمدة الكهرباء بإشعالها. ويستطيع عقب سيجارة مشتعل أو زجاجة مرطبات فارغة أن تشعل حريقاً في موضع آخر.
والخطر الثاني يكمن في ازدياد حجم الخسائر المادية والبشرية (احتراق 2000 منزل في كاليفورنيا).
دور العادات والتقاليد
حتى عقود قليلة خلت, كانت توجد في المناطق المتوسطية تقاليد معيشية وصناعات صغيرة تعتمد على أشجار الأشواك التي تيبس صيفاً لتكون وقوداً لها. مثل صناعة الحرير الطبيعي والكلس والدبس وغير ذلك. فكان القائمون على هذه الصناعة يجمعون الأعشاب والشجيرات اليابسة من المناطق القريبة إليهم, فيقتلعون بذلك, ومن غير عمد, الفتيل السريع الاشتعال الذي يمكنه أن يحرق الغابة. ولكن هذه الصناعات اندثرت, واندثر الاعتماد على هذه النباتات البرية اليابسة في أي مجال آخر. فراحت تتكاثر, وتتكدس فوق بعضها, وصولاً إلى حواف الطرق, لتصبح وقوداً متراكماً بانتظار الشرارة الأولى.
وفي هذا الإطار يشير البيئيون إلى أن شتاءً مميزاً بمعدلٍ عالٍ للأمطار, يمكنه أن يزيد عنف حرائق الصيف. لأن النباتات والأعشاب الموسمية تنمو وتعلو أكثر من العادة, فتزيد بعد يباسها كمية الوقود القابل للاشتعال بسرعة.
حرائق قديمة تغذي الجديدة
ويقول البيئيون أيضاً إن مكافحة الحرائق القديمة تؤدي بشكل غير مباشر إلى تعزيز عنف الحرائق الجديدة. فعند إخماد حريق أية غابة, لا يبقى الرماد وحده على الأرض. بل الأشجار المتفحمة والأعواد اليابسة أيضاً. والفحم كما هو معروف مادة قابلة للاشتعال بسرعة لا سيما إذا كان جافاً وساخناً بفعل الحرائق المجاورة. ولطالما أثارت سرعة انتشار النيران في أراضٍ محروقة سابقاً دهشة الإطفائيين في كاليفورنيا, الذين باتوا يرون فيها وقوداً حياً يضاعف خطر الحرائق الجديدة.
قمع الحرائق يؤدي إلى انفجارها
طبيعي أن يتصور سكان المدن أن أفضل سبل مواجهة الحرائق وأسهلها, هو إخمادها عند بداية اندلاعها. وهنا، يبرز البيئيون ليناقضوا هذه النظرية.
يقول البيئيون إن بعض الحرائق الصغيرة عندما تندلع في أراضٍ ذات غطاء عشبي رقيق ويابس, يجب أن تترك لتمتد. لأنها في هذه الحالة قد تبقى ذات حرارة منخفضة نسبياً فلا تلتهم الأشجار الباسقة, إذ ينطفئ الحريق بعد التهام الأعشاب بسرعة.
ولكن الذي حدث في كاليفورنيا تحديداً, هو أن آلاف الحرائق الصغيرة تُخمد فور اندلاعها, خاصة عندما تكون قريبة من المنازل، ويؤدي هذا إلى تكدس مخزون الأعشاب اليابسة في الغابات المجاورة. فيؤدي احتراقها لاحقاً إلى درجة حرارة عالية قادرة على حرق الأشجار. وما إن تبدأ الأشجار بالاحتراق حتى يصبح للحريق وتيرته الخاصة, فيستمد قوته من الهواء الجاف, ويزيد بدوره سخونة الهواء وجفافه, وهكذا عندما يتغذى الحريق من الأحوال الجوية الملائمة ويعود ليغذيها بدورها, يمكن أن تصل الحرارة إلى مستويات, تحول الأشجار الخضراء فجأة إلى جمر أحمر من دون المرور بمرحلة اندلاع اللهب منها… وهذا يضع الإطفائيين, مهما بلغت وسائلهم من تطور في موقع المتفرج العاجز, إلاّ عن التخبط وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ويشبِّه البيئيون النجاح في إطفاء مئات الحرائق اليومية الصغيرة، بتكديس الصحف اليومية في المطبخ. فلا بد وأن تصل أطرافها ذات يوم إلى الموقد ليصبح إطفاء حريقها أصعب بكثير من إطفاء جريدة واحدة مشتعلة.
صورة المستقبل وسط الفحم
في متابعة حريق أي غابة, تنقل إلينا وسائل الإعلام تفصيله, والخسائر المباشرة التي تسبب بها هذا الحريق. وقد أشرنا سابقاً إلى بعض خسائر الحرائق موضع البحث على سبيل الأمثلة، تبقى ذيول حرائق الغابات ونتائجها أعقد من أن يضع أي مسح حدأً لها. ففي هذا العالم الجهنمي يتغذى كل خطر من خطر آخر ويغذيه بدوره, لتتسع مسببات الحركات وذيولها في دوائر حلزونية يكبر قطرها باستمرار.
فقد زادت الحرائق الأخيرة، على سبيل المثال, مقادير ثاني أكسيد الكربون في الجو. وستسهم هذه الزيادة, ولو إسهاماً محدوداً, في زيادة الاحتباس الحراري الذي سيغذي المزيد من حرائق الغد. والمشاريع الإنشائية التي ستقام على الأراضي المحروقة, ستقرِّب مصادر الشرر أكثر فأكثر مما بقي من الغابات.
ولو راجعنا معظم ما كتب خلال الأشهر الماضية عن هذه الحرائق الشهيرة, لوجدنا أن معظمها يحاول أن يستخلص الدروس النظريّة والعبر, ولكن ليس فيها ما يبشر بمعالجة جذرية تبدو مستحيلة لارتباطها بقضايا النمو السكاني والرخاء الاقتصادي والعادات اليومية وغير ذلك من المسائل البيئية العديدة.
فلو شئنا أن نلخص صورة المستقبل كما ترسمه التجارب والعبر, لخلت هذه الصورة من أي تباشير بالحل. ولاقتصرت على الدعوة إلى إبقاء الإطفائيين في حالة تأهب ورفع مستوى عتادهم وعديدهم, لأن الآتي سيكون على الأرجح أسوأ مما مضى. والآتي قد لا يتأخر كثيراً… لا سيما في ولاية كاليفورنيا الأمريكية, حيث ستستمر رياح سانتا آنا بالهبوب طول فصل الشتاء.
الإنسان يُقامر.. والطبيعة تخسر
ترتبط خسارة الغابة من جرَّاء احتراقها كلها أو بعضها بنوع الحريق. إذ ان هناك ثلاثة أنواع من الحرائق، هي:
1 – الحرائق السطحية (Surface Fire)،
وهي سريعة الاشتعال وتقضي على الشجيرات الصغيرة من دون أن تؤثر في الأشجار المرتفعة إلا من جهة منظرها. أما النباتات والأزهار فتحترق تماماً. ولكنها، في المقابل، تعود إلى النمو بسرعة كبيرة بعد الحريق.
2 – الحرائق التاجية (Crown Fire)،
وهي الحرائق التي تبدأ في الأغصان العليا بسبب عوامل طبيعية، أو من حريق سطحي انتقل بفعل الهواء إلى أعالي الأشجار. هذه الحرائق تؤثر في الجذوع، وقد تقتلها إذا كانت نحيلة، كذلك تقتل الشجيرات الصغيرة على نحو يؤدي إلى تغيير شكل الغطاء النباتي. ولكن الغابة تعود إلى الاخضرار بدءاً من موسم سقوط الأمطار، وتستعيد عافيتها خلال سنوات قليلة.
3 – الحرائق الجوفية (Ground Fire)،
أخطر أنواع الحرائق لأنها تقضي على الجذوع والجذور والبذور والمواد المعدنية المغذية للأشجار. وتحتاج الغابة إلى سنوات كثيرة لتعويض خسائرها.
تُعدُّ التربة عازلاً مهماً للحرارة. فتحمي البذور والجذور في النوعين الأولين من الحرائق. ولهذا نرى أن معظم الغابات المحروقة تعود إلى الاخضرار في أوقات لاحقة، من دون أن يعني ذلك محواً كاملاً لآثار الحريق البيئية على صعد تلويث الهواء، والكائنات الحية التي تكون قد هلكت فيه، وما إلى ذلك..
ولعل عودة الغابات إلى الاخضرار، تحوِّل علاقة الإنسان بهذه المسألة إلى ما يشبه المقامرة، وتحديداً المقامرة الخاسرة.
ففي اليونان، يبدو أن بعض الحرائق كانت لإنشاء مساكن فوق الأراضي المحروقة. وفي كاليفورنيا، فإن المناطق التي راحت ضحية حرائق عملاقة في الأعوام 1970، 1993، و2003م، شهدت عودة كبيرة للنازحين إلى التلال المتفحمة لإعادة بناء المساكن والاستيطان. ولا شك في أن ضحايا حرائق العام الجاري سيعودون لاحقاً للإقامة في الأماكن نفسها. فثمة ما هو مشترك في الظاهر بين الغابة والإنسان في عدم الرضوخ لما يمثله الحريق من قدرة على التدمير. ولكن الغابة تقاوم وتعود إلى النمو في مكانها الطبيعي والسليم. أما الإنسان، فهل كل الأمكنة التي يختارها للإقامة طبيعية وسليمة.