هناك روابط مثيرة بين الأطعمة التي نتناولها والكلمات التي نستخدمها لتسميتها بها، حيث يمكن القول إنّ هناك ما يسمى بلغة الطعام، لغة خاصة يمكنها أن تكشف لنا تاريخاً طويلاً من تفاعل الحضارات وتبادل الثقافات وأسرار اللغة، وكثير من الخدع التسويقية التي تحاكي تفاعلاتنا النفسية العميقة.
تتضمَّن الكلمات التي نستخدمها لتسمية أكلاتنا اليومية مفاتيح عن أصولها، وتلميحات عن رحلة مكوِّناتها حول العالم وهي تنصهر وتتغيَّر وتتنكه، وأحياناً، تتبدّل أشكالها تماماً. لنأخذ على سبيل المثال المعكرونة الإيطالية الشهيرة التي لها حكاية قديمة مع الفتح العربي لجزيرة صقلية الإيطالية في القرن الثامن. فقد أدخل العرب إلى هذه الجزيرة، من ضمن زراعات أخرى، زراعة القمح القاسي الذي كانوا قد اكتشفوه في شرق إفريقيا. وكانت زراعة هذا القمح القاسي سهلة وطحنه صعباً، فشكَّل أساس وجود المعكرونة الإيطالية. وهناك استخدمه العرب لتطوير صناعة «الروشتة»، وهي نوع من المعكرونة الرفيعة التي أخذها العرب من بلاد فارس. ويذكر أنّ «الروشتة» مذكورة في كتب الطهي في العصر الإسلامي الوسيط. وكان عالم الجغرافيا، الإدريسي، أوّل من ذكر هذا النوع من المعكرونة وإنتاجها على نطاق تجاري واسع، وذلك في مسح أجراه لصقلية بطلب من الملك روجر الثاني. كما عُرفت في الجزيرة أيضاً مربعات اللازانيا الصغيرة التي تُعرف الآن باسم «منديلي دي سي» التي تعني بالعربية «المنديل الحر». وكانت المؤرِّخة، ف. وود، قد كتبت لدعم الأصول العربية للمعكرونة في كتابها: «هل ذهب ماركو بولو إلى الصين؟» لتقول إنّ «احتلال الجيوش العربية لجزيرة صقلية عام 827 ميلادية أدخل القمح القاسي إلى الجزيرة ومن ثم انتشرت معكرونة القمح القاسي شمالاً إلى جميع أنحاء إيطاليا».
أما صلصة الكتشاب المعروفة اليوم في مختلف أرجاء العالم فلها قصة أخرى. فمَنْ منا لا يعرف الكتشاب؟ فهو حلو ومالح في آن، مكوَّن في أساسه من عصير الطماطم المكثَّف، ولكنّه لم يكن دوماً يتضمن الطماطم كما أنّه لم يكن دوماً يُنسب إلى الحضارة الأمريكية. فطالما كان سكان مناطق جنوبي الصين، وعلى مدى قرون، يحفظون المأكولات البحرية بوضعهم الأسماك التي يصطادونها في أوعية تحتوي على الأرز المطبوخ والملح ويغطُّونها بأوراق الخيزران ويتركونها لتتخمر. ومن ثم تعمل الأنزيمات الموجودة في الأسماك على تحويل النشاء الموجود في الأرز إلى حامض اللبنيك، لنحصل على السمك المخلل الذي يمكن تناوله بعد إزالة الأرز الملتصق به. وقد تم تدوين هذه الوصفة في القرن الخامس ولا تزال تستخدم في مناطق عديدة في جنوب آسيا.
وفي القرن السابع عشر، سافر البحارة والتجار الإنجليز والهولنديون إلى آسيا وتعرفوا إلى هذا النوع من الأسماك وجلبوا معهم كميات كبيرة منها إلى بلادهم. وهناك عُرفت صلصة هذه الأسماك المخللة بـ «الكتشاب». و«تشاب» أو «Tchup» تعني صلصة في اللغة المحكية الصينية و«ك» أو «Ke» تعني السمك المحفوظ في لغة الهوكين، اللغة السائدة في غربي تايوان.
رأى التجَّار فرصة جيدة لهم في هذه الصلصة الغريبة باهظة الثمن، وراح البحارة ينقلونها بكميات كبيرة من آسيا إلى أوروبا. وفي القرن التاسع عشر بدأ البريطانيون بصناعة «الكتشاب» بأنفسهم، وقاموا بإضافة الطماطم مع الإبقاء على سمك الأنشوجة كمصدر أساسي للنكهة. ومن ثم تطورت الأذواق وتم استبدال أسماك الأنشوجة بالفطر والمحار ومن بعدها أصبحت كلمة كتشاب تستخدم لأي صلصة متبلة. وهكذا، في إنجلترا استبدلت الأسماك بالبندورة ومن ثم أضاف الأمريكيون السكر، وحصلنا على «الكتشاب» المعروف اليوم الذي يُستخدم في كثير من الوجبات في مختلف أنحاء العالم.
أثار موضوع تتبع مصادر «الكتشاب» تساؤلات حول روايات مختلفة عديدة، حيث إن وجهة النظر التقليدية للتاريخ الاقتصادي تقول إنه أثناء حكم سلالة مينغ، انعزلت الصين عن العالم ولم تنفتح على التبادل التجاري العالمي إلا في وقت لاحق. ولكن قصة «الكتشاب» تؤكد لنا غير ذلك، وتثبت أن الصين كانت مهمة جداً بالنسبة للتجارة العالمية حتى في ظل حكم سلالة مينغ.
وهناك أطعمة مختلفة اتخذت مسارات عدة، وتغيّرت لتلبية احتياجات المطابخ الجديدة التي تبنتها. فخسرت المربيَّات في الغرب نكهاتها المتوسطية من ماء الورد والمسك، وتحوّلت عصائر الفاكهة إلى بوظة. ولكن على الرغم من تغيّرها، حافظ البعض منها على تسميته الأصلية ليبقى شاهداً على تاريخ وثقافات متبادلة تدين لبعضها الآخر بالكثير.
لوائح الطعام وأسرارها
ولكن لغة الطعام ليست محصورة بدروس التاريخ ولا بتبادل الثقافات، إذ يمكن لتسميات الأطعمة وحدها أن تساعدنا على تحديد تكلفتها. فقد أجرى الأستاذ دان جورافسكي، أستاذ علم اللغة في جامعة ستانفورد الأمريكية، دراسة على لوائح الطعام في مطاعم عديدة ومتنوعة. ووجد فيها أنّ المطاعم الفخمة تستخدم كلمات طويلة وغريبة ومعقَّدة، وأنه مقابل كل حرف يضاف إلى الكلمات الموجودة على هذه اللوائح يزداد معدل السعر بحوالي 18 سنتاً أمريكياً.
كما أن لوائح الطعام في المطاعم الفاخرة غالباً ما تذكر مصادر مكوِّنات وجباتها، مثل أنّ هذه اللحوم تأتي من مواشٍ تمت تغذيتها بأفضل أنواع العلف، أو أن هذه الخضار عضوية تم جلبها مباشرة من هذه المزرعة أو تلك، إلى آخره. وكأن التسميات في هذه المطاعم الفاخرة تأتي لتبرر فاتورتها الباهظة. وغالباً ما يكون هناك في المطاعم الفاخرة إشارة إلى أن الطعام يقدَّم على طريقة الشيف على عكس المطاعم الشعبية التي تحرص على القول إن الوجبات ستقدَّم «على طريقتك الخاصة». أما المطاعم المتوسطة فتستخدم كلمات مثل «غنية» و«مخففة» و«معتدلة» و«مقرمشة»، وهي تختلف عن المطاعم الشعبية الرخيصة التي تستخدم كلمات إيجابية وغامضة مثل طازجة ولذيذة وشهية.. وكلها كلمات تشير إلى أنه عليك الاقتناع بتناول هذه الوجبات على الرغم من ثمنها الزهيد.
يقول الفيلسوف بول غريس إنه عندما ننطق بأي كلمة يكون هناك تفاهم ضمني بأننا ننطق بها لإيصال معلومات أو رسالة معيَّنة للمتلقي، ولا نقول أكثر مما نحن بحاجة لأن نقوله. وإذا ما ذكرت بعض المطاعم، كما في المطاعم الرخيصة، بأنّ الطعام طازج، مثلاً، نتساءل عن السبب الذي يدفعهم لذكر ذلك، فهل هناك سبب لنعتقد بأنه غير ذلك؟
في الطعام تركيبة لغوية ونفسية أيضاً
لا شك أن هناك جوانب أخرى في لغة الطعام تكشف كثيراً عن البُنى العميقة للغة وعلم النفس أيضاً. فهل يمكن لأسماء بعض الأطعمة أن تدلنا على مكوناتها أو إذا ما كانت خفيفة أو دسمة أو خلاف ذلك؟
قد يبدو ذلك مستبعداً. وكما يقول وليم شكسبير في «روميو وجولييت» على لسان جولييت: «إنّ الاسم ليس إلَّا اصطلاحاً عرفياً، تماماً كما اسم الوردة الذي يعبِّر عن شيء. فالتعبير كله والجمال والعطر في الوردة نفسها». تعبّر جولييت هنا عما نسميه بنظرية التقليد التي تقول إن الاسم الذي نعطيه لأي شيء هو ما هو متفق عليه تقليدياً. والتقليد هو السائد في علم اللسانيات الحديثة. ولكن هناك وجهة نظر أخرى تعود إلى أكثر من 2500 سنة إلى الوراء، تُسمى بالمذهب الطبيعي، الذي يقول إن الاسم يجب أن يلائم الشيء الذي يُطلق عليه بطريقة طبيعية، وإن هناك أسماء تبدو، طبيعياً، أكثر حلاوة من غيرها.
وكان أفلاطون هو الذي أشار إلى أن ألفاظ الأسماء نفسها هي التي تحمل معها معانيها. ففي مختلف اللغات تدل الأحرف التي تُلفظ واللسان مرتفع نحو الجهة الأمامية للفم أو الأحرف الأمامية، على ما هو صغير ونحيف رقيق، وتدل الأحرف التي تُلفظ واللسان منخفض باتجاه الحلق أو الأحرف الخلفية، على ما هو ثقيل وكبير وكثيف.
وفي دراسة في مجال التسويق أجراها الأستاذ ريتشارد كلينك في جامعة ميريلاند في الولايات المتحدة الأمريكية، قام خلالها بتأليف أسماء مختلفة لمنتجات عديدة، وعرضها على عينات مختلفة من الناس. وقد وجد أن الاعتقاد السائد لدى معظم الذين شملهم البحث هو أن أسماء المنتجات الغذائية التي كانت تحتوي على أحرف خلفية أكثر هي الأكثر دسامة وحلاوة وتحتوي على كمية أكبر من السعرات الحرارية. واللافت في هذا الموضوع أنّ الشركات بدأت تتنبه لهذه النقطة وأخذت تسعى لاستخدامها لأهداف تسويقية.
كما أن هناك علاقة بين لغة الطعام وعلم النفس. ففي بعض الأوقات، نصف الطعام بطريقة تعكس كثيراً من مشاعرنا النفسية. عندما يتناول بعض الأشخاص الأطعمة والحلويات الدسمة، يشعرون بالذنب ويميلون إلى التحدث عن هذه الأطعمة على أنها تسبب الإدمان، ويلقون باللوم عليها لكونها لذيذة إلى درجة الإدمان، أوعندما يقولون إنّ: «قطعة الحلوى هذه هي التي أغرتني» وكأنهم ينأون بأنفسهم عن «الذنب» الذي اقترفوه. وفي الواقع، تميل النساء أكثر من غيرهن إلى استخدام هذه الاستعارات الغريبة، لأنهن يشعرن بالضغوطات لاتباع الأنظمة الغذائية قليلة الوحدات الحرارية.
وفيما يتعلَّق بالجانب النفسي أيضاً، وجدت دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية على أكياس البطاطا (تشيبس) في المتاجر، أنه كلما كانت الأكياس أغلى ثمناً، كانت اللغة المستخدمة على أغلفتها أكثر براعة و«زخرفة». تستخدم أنواع «التشيبس» الأغلى ثمناً أسلوب النفي أكثر من غيرها مثل «لم يتم قليها»، «دون ملوّنات»، كما أنها تستخدم أسلوب المقارنة أكثر من غيرها، أيضاً، مثل «أقل دسماً» أو «الأفضل على الإطلاق» أو «ليس مثل أي نوع آخر». واستخدام هذه اللغة التي تميِّز الشيء عن غيره تدعم نظرية عالِم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو التي تقول إن مذاق الطبقات العليا في الطعام له دور في تمييز هذه الطبقات عن غيرها الأدنى منها، تماماً مثلما تميِّز أكياس البطاطا نفسها عن غيرها من الأصناف. فهذه الطبقات تحرص على تناول الأطعمة النادرة وباهظة الثمن التي تجد الطبقات الأدنى صعوبة في الوصول إليها.
ومما لا شك فيه أننا محاطون بلغة الطعام، وفي كل مرة نختار فيها الوجبات من أي لائحة طعام أو نفتح هذا الكيس من البطاطا، علينا التدقيق جيداً.. ربما استطعنا فك شيفرة لغة الطعام، هذه اللغة المثقلة بالخلفيات الثقافية واللغوية والتسويقية والنفسية العميقة.