تشمل القواعد التي تستعملها الأنساق اللغوية العديد من المسائل، من بينها مسألة قواعد التأنيث والتذكير. ونقتصر هنا على مقارنة هذه القواعد في كل من العربية من جهة والإنجليزية والفرنسية والألمانية من جهة أخرى.
تتبنَّى هذه اللغات مواقف من قضية التذكير والتأنيث لأسماء الكائنات الحية والجامدة على حد سواء:
1 –
فالإنجليزية لا تكاد تهتم على الإطلاق بعمليتي التأنيث والتذكير كما نجد ذلك في اللغات الثلاث الباقية. فمعجمها لا يذكر لا التذكير ولا التأنيث أمام الأسماء. وبعبارة أخرى، فإنها تلتزم الصمت الكامل بالنسبة لتذكير وتأنيث الأسماء.
2 –
أما في اللغتين العربية والفرنسية فأسماء الكائنات الحية والجامدة تكون إما مذكرة وإما مؤنثة. وبالتالي فهما تقرَّان بظاهرة الازدواجية الذكورية الأنثوية.
3 –
وبالنسبة للغة الألمانية فموقفها من التذكير والتأنيث يجمع في الحقيقة بين موقفي الإنجليزية من جهة والفرنسية والعربية من جهة أخرى. أي أنها تؤنث وتذكِّر الأسماء، من جهة، وتلازم موقف الحياد (أي لا تؤنث ولا تذكر) إزاء بعضها، من جهة أخرى.
إن الدقة التعبيرية تمثِّل إحدى الوظائف المهمة التي تؤديها عملية التأنيث والتذكير في الأنساق اللغوية. فكلما ازدادت مستويات التأنيث والتذكير في لغة ما ازدادت درجة دقة تعبيرها في هذا المجال. فالإنجليزية، لا نكاد نعثر فيها على ظاهرة التذكير والتأنيث بينما تشمل عملية التأنيث والتذكير في اللغة العربية كل المستويات تقريباً. ومن هذا المنطلق فاللسان الإنجليزي هو بالتأكيد أقل دقة في التعريف بالجنسين من اللغتين العربية والفرنسية. فعلى سبيل المثال، إن ضمير الجمع بالإنجليزية في حالة الغائب «They» يستعمل للإناث والذكور مثله مثل ضمير الجمع «Sie» في اللغة الألمانية. فالمستمع الذي تباغته جملة بالإنجليزية أو الألمانية تبدأ بأحد هذين الضميرين لا يمكنه التعرف على جنس أفراد المجموعة المشار إليهم. بينما تسمح لغة الضاد في حالة الجمع على التعرف بدقة على جنس المجموعة وذلك لوجود ضميري جمع للمؤنث (هن) والمذكر (هم). وبعبارة أخرى، فإن شمولية عملية التأنيث والتذكير تعطي النسق اللغوي قدرة أكبر على مد المستمع بمعلومات أكثر حول جنس الآخر المتحدث عنه أو المخاطب.
فحضورنا لمكالمة هاتفية بين شخصين نعرف فيها بسهولة جنس المتحدث أمامنا ولكننا لا نعرف جنس المخاطب على الطرف الآخر لأننا لا نراه. ولكن هذا صحيح إذا كانت المكالمة الهاتفية بين فردين يتحدثان بالإنجليزية أو بالفرنسية أو الألمانية أو بخليط من هذه اللغات. والأمر يصبح مختلفاً تماماً لو أن المكالمة الهاتفية كانت بالعربية الفصحى. في هذه الحالة يتعرف المستمع بكل سهولة على جنس المخاطب في الطرف الآخر غير المرئي. أي أن الناطقين بالعربية لا يحتاجون إلى رؤية الآخر المخاطب للتعرف على جنسه الذكوري أو الأنثوي.
وبعبارة أخرى، فإن اللغة العربية تكتفي بعملية السماع للتعرف على جنس المخاطب الخفي كما هو الحال في المكالمة الهاتفية المشار إليها هنا. أما المستعملون للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية فهم لا يقدرون على معرفة جنس المخاطب بالاعتماد على حاسة السمع فقط. ومن ثم فهم يضطرون للاعتماد على حاسة البصر.
هذا التميز للغة العربية في التأنيث والتذكير يجعلها أكثر اللغات تأهلاً، في عصر الاتصالات السمعية المكثَّفة بين الأفراد عبر القارات، للتعرف على جنس المخاطب. وفي ذلك رصيد معلوماتي للمستمع الناطق بالعربية لا يتوافر لنظيره في اللغات الثلاث الحديثة.
ولا يخفى على المرء الدور الإيجابي الذي تلعبه وفرة المعلومات عند بني البشر بخصوص تعاملهم مع محيطهم الصغير والكبير بكل مكوناتهما.