حياتنا اليوم

عصر السرعتين!

نحن في عصر السرعة، لكن الوقت يمضي بدوره مسرعاً، وكأنه يتجاوز سرعة العصر. وكأن اليوم ينتهي ولم تكتمل ساعاته. والشهر ليس أكثر من جزء من شهر. والعام ليس فيه سوى بضعة شهور!

كم يردِّد الناس: لا يمر بنا رأس السنة إلا والسنة الجديدة على وشك الانقضاء. وحدث كبير مضت عليه سنوات كثيرة نشعر أنه ما زال حياً في وعينا وكأنه حدث أول من أمس.

فقد بُني عصر السرعة على مفهوم. فالتقدم يحتاج إلى اختصار الزمن المطلوب لإنجاز الأعمال أو إنتاج الأجهزة والحاجيات.. وكانت زيادة هذه السرعة في صلب شروط نجاح المنافسة في ميادين الصناعة والتجارة. فمن يختصر زمن الإنتاج ثم يختصر زمن التوصيل، يختصر زمن تحقيق النجاح.

وما زال السعي نحو الإنجاز الأسرع محموماً، يحتفظ بزخمه حتى يومنا هذا. ومن أبرز تجسيداته في السنوات الأخيرة تسريع حركة الكمبيوتر والعمليات التي يقوم بها، وقد وصلت إلى أرقام تكاد لا تصدّق.

وانتشر استخدام وصف هذا العصر بعصر السرعة في الخمسينيات، خاصةً مع شيوع وسائل النقل السريعة كالطائرة النفاثة، ووسائل الاتصال كالراديو واللاسلكي، إضافة إلى ازدياد سرعات كافة وسائل النقل وتقريباً من دون استثناء. ووصل إلى ذروات جديدة اليوم مع البريد السريع ونقل الملفات عبر الإنترنت والجوال وغيرها.

إلا أن سرعة إنجاز الأعمال والمهام كان من المفترض أن تعني أن الإنسان يحتاج إلى زمن أقل لإنجاز مهامه وحاجاته. وبالتالي، فإن هذا سيترك له متسعاً من الوقت لاهتماماته الأخرى. وإن صح هذا، فهو يصح في مجال العمل وحتى في المنزل. فإذا كانت الأجهزة المختلفة مثل الطباخ والغسالة والنشافة تحقق نسبة كبيرة من الواجبات المنزلية في وقت أقل فمعنى ذلك أن هذه الأجهزة تترك لربة البيت أو أي إنسان كان وقت فراغ إضافي يستغله كما يحلو له. إلا أن الانطباع العام لدى الناس هو عكس ذلك. فلو أخذنا اعتذار المعتذرين عن اتصال ما لم يقوموا به بسبب انشغالهم، للاحظنا، رغم ما قد يتضمن هذا الاعتذار من مبالغة، أنه لا يخلو من الصدق.

فالناس يشعرون بأن أوقاتهم محجوزة لانشغالات مختلفة. والأدهى من ذلك، هو أنه على عكس الافتراض بأن عصر السرعة سيجعل الإنسان يشعر أنه يستطيع أن ينجز الكثير في وقت محدد طالما بات بإمكانه إنهاء واجباته في وقت أقصر، فإن الناس يشكون اليوم أكثر من أي وقت مضى بسرعة انقضاء الساعات، ثم اليوم بأكمله.

فساعات اليوم تبدو أقل، وأيام الشهر وأشهر العام كلها وكأنها أصيبت بالاختصار.. أو كأن سرعة العصر هي أيضاً في سرعة مرور الزمن.

حين ظهرت رواية جورج أورويل «1984» في أواخر الأربعينيات، وحين عُرض فلم أوديسا الفضاء 2001 عن الخيال العلمي بعدها بعقدين، كان اختيار المؤلفين لهذه السنوات يقوم على اختيار سنوات في مستقبل بعيد سوف نصل إليه بعد فترة طويلة من الزمن. إلا أننا فجأة وصلنا إلى هذه السنوات وتعديناها وانضمت إلى نظيراتها من سنين الماضي القريب، والدنيا كما هي!

ونافل القول إن العيش في عصر السرعة ليس عيشاً في زمن فقط بل في مكان أيضاً.. إنه تاريخ وجغرافيا. وكأنه يخضع بدوره إلى نظرية النسبية حيث قياس السرعة يتفاوت بالنسبة إلى المكان.

فلا عصر سرعة خارج حدود الحياة المعاصرة، حيث تندفع الحياة الاجتماعية لتواكب دورات الصناعة والتجارة والأعمال على اختلافها.
هنا فقط نعيش عصر السرعة.
هنا فقط نعيش عصر السرعتين.

أضف تعليق

التعليقات