طاقة واقتصاد

أزمة مؤسسي الشركـات
تهانينا لقد نجحت، لذا نصرفك من العمل!

  • 32a
  • 29a
  • 31a

يرغب معظم مؤسسي الشركات في الاستمرار على رأس العمل حتى أطول مدة ممكنة من جهة، وكسب الكثير من المال من جهة أخرى. غير أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن النجاح في الأمرين معاً صعب. وإذا لم يكن المؤسس غير واثق أي الأمرين يهمه أكثر من الآخر، فقد ينتهي به الأمر إلى خسارة الاثنين معاً.
هذه هي الخلاصة التي نشرتها مجلةهارفرد بزنس ريفيو مؤخراً، وتعرض القافلة هنا أبرز ما جاء فيها بتنسيق خاص مع المجلة.
ليس ثمة في الدنيا صاحب مشروع، إلا ويطمح إلى أن يصبح بيل غيتس آخر، أو فيل نايت أو أنيتا روديك. فكل من هؤلاء أسس شركة عملاقة وأدارها سنوات طوالاً.
غير أن المدير العام التنفيذي – المؤسس الناجح ظاهرة نادرة جداً. فعندما حللنا سيرة 212 مشروعاً، تأسست ونمت نمواً كبيراً في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الجديد، اكتشفنا أن معظم المؤسسين تخلوا عن إدارة شركاتهم، قبل طرح أسهم هذه الشركات على جمهور المستثمرين بمدة طويلة. ومع بلوغ الشركات التي تناولها البحث سنتها الثالثة، كانت نسبة المؤسسين الذين تخلوا عن الرئاسة التنفيذية فيها %50. وفي السنة الرابعة هبطت نسبة المؤسسين الباقين في الرئاسة التنفيذية إلى %40. أما الذين مكثوا في الإدارة العامة، عند طرح الأسهم على الجمهور، فكانوا أقل من %25. واستنتج باحثون آخرون نتائج مشابهة في مختلف القطاعات الصناعية، وفي حقب أخرى أيضاً. ونحن نذكر المؤسسين المديرين التنفيذيين في شركات الصناعة الأمريكية، لكن هؤلاء قلة واستثناء شاذ على القاعدة.

ومع هذا، لا يترك المؤسسون الأمور تفلت من أيديهم بسهولة. فمن كل خمسة، يُجبر أربعة من مؤسسي الشركات على التنحي عن منصب الرئيس المدير التنفيذي. فمعظم المؤسسين يُصابون بالذهول حين يدفعهم المسهمون إلى التنحي عن الرئاسة التنفيذية. ويكون إخراجهم بوسائل
لا يستسيغونها، وفي وقت يسبق كثيراً الموعد الذي يختارونه هم للتنحي. وقد يكون تغيير قيادة الشركة ضاراً جداً، حين يكون ثمة موظفون أوفياء للمؤسس يعارضون هذا التغيير. وفي الحقيقة، نجد أن الأسلوب الذي يواجه به المؤسسون أول تغيير يحدث في قيادة الشركة، قد يقضي على الكثير من المؤسسات الحديثة، أو ينقذها.

ويحدث التغيير بسلاسة نسبية، حين يتحلى المؤسسون بالنزاهة في حوافزهم التي دفعتهم إلى دخول عالم الأعمال. وقد تسأل: أليس هذا أمراً مفروغاً منه؟ ألا يبدأ الناس المشاريع لكسب المال؟ هذا صحيح. ولكن، أظهرت دراسة نُشرت في صحيفة الاقتصاد السياسي (Journal of Political Economy) سنة 2000م، ودراسة أخرى نُشرت بعد سنتين في النشرة الاقتصادية الأمريكية (American Economic Review) أن المؤسسين، بصفتهم شريحة، يكسبون من المال ما كانوا يكسبونه لو ظلوا موظفين فقط. والحق أنهم ربما يكسبون أقل، إذا أخذت في الحسبان المخاطرة التي يتعرضون لها.

أي الطريقين يختارون؟
أمام المؤسس سلوكان وعليه أن يختار أحدهما بوضوح: كسب المال أو السلطة. قلة فقط أحرزت الأمرين معاً. وليس التفسير عسيراً على الفهم. فثمة عامل آخر بالطبع يحفز المؤسس، مع رغبته في الثراء، وهو النزعة إلى إنشاء مؤسسة وقيادتها. المفاجئ في هذه الصيغة هو أن محاولة بلوغ إحدى الرغبتين يعرض الرغبة الثانية للخطر. وعلى المؤسسين أن يواجهوا هذا الخيار في كل خطوة يخطونها، بين أن يكسبوا مالاً، وأن يديروا مؤسستهم. والذين يعجزون عن تبين الأمر الأهم عندهم، ينتهون إلى خسارة المال والسلطة معاً.

في وجدان المؤسس
يؤمن المؤسسون عادة بأنهم وحدهم قادرون على إنجاح الشركة في مرحلة نشوئها. فيقول بعضهم: «أنا صاحب الرؤيا والرغبة في إنشاء شركة كبيرة. ولا بد من أن أديرها أنا بنفسي». ولا شك في أن هذا القول صحيح جداً. ففي البدء تكون الشركة مجرد فكرة في رأس مؤسسها، الذي يعرف كل الآفاق المفتوحة أمامها، وكذلك كل التجديد المنشود في النتاج الذي ستصنعه الشركة، أو الخدمة التي تزمع توفيرها، أو نموذج الأعمال الذي تراهن عليه. ويعرف المؤسس من هم الزبائن المحتملون الذين سيقصدهم. ويوظف المؤسس الأشخاص الذين سينشئون الشركة وفق رؤيته، ولذا تقوم علاقة خاصة بينه وبين هؤلاء الموظفين الأوائل. وهو الذي يضع اللبنة الأولى في الثقافة التنظيمية المؤسسة للشركة. وهي تعبِّر عن أسلوبه وشخصيته وميوله. وفي مراحل البداية، تجد أن أوائل الموظفين والزبائن والشركاء، ينظرون إلى الشركة والمؤسس على أنهما واحد، ويفتخر الرئيس التنفيذي المؤسس بهذا الأمر كثيراً.

والشركات الجديدة قصة حب في نظر مؤسسيها. فهم يتعلقون بمؤسساتهم بعلاقة وجدانية وعاطفية، ويسمونها: «طفلتي» My Baby. ويستخدمون لغة من هذا القبيل في وصف الشركة، من دون أن يلاحظوا. ويظهر حبهم للشركة، في ضآلة الراتب الذي يختارونه لأنفسهم. إذ أظهرت دراسة لخمسمئة وثمان وعشرين مؤسسة جديدة، أنشئت بين 1996 و2002م، أن %51 من المؤسسين كسبوا مالاً يساوي أو يقل عن المال الذي يكسبه بعض موظفيهم. وحين يتساوى مستوى التحصيل، كانوا يتقاضون %20 أقل من غير المؤسسين الذين تولوا أعمالاً شبيهة.

ويبالغ كثير من المؤسسين في ثقتهم بمستقبلهم، ويتسمون بالسذاجة في شأن المشكلات التي تعترضهم. فمثلاً، في سنة 1988م، سأل الباحث في الشؤون الاستراتيجية في جامعة بيرديو، أرنولد كوبر واثنان من زملائه، 3000 مؤسس شركة، سؤالين بسيطين: «ما هو حظ شركتك من احتمال النجاح؟» و«ما هو حظ أي شركة مثل شركتك من احتمال النجاح؟» وادعى المؤسسون الذين شملهم الاستفتاء أن حظ شركاتهم من احتمال النجاح %81، في المعدل، لكن حظ الشركات الشبيهة الأخرى لا يتجاوز في نظرهم %59. ولم يتوقع %80 من المؤسسين الذين شملهم الاستفتاء أقل من %70 من احتمال نجاح شركاتهم. حتى أن ثلثهم ادعى أن احتمال نجاح مؤسساتهم هي 100%. وتعلق المؤسس بشركته تعلقاً عاطفياً وثقته الزائدة بل سذاجته قد تكون ضرورية في مرحلة إنشاء الشركة وإدارتها في البدء. لكن هذه الصفات تصبح مصدر مشكلات في المستقبل.

المصاعب المتعاظمة
قد يكتشف المؤسس أن موارده المالية وقدرته على إلهام الناس وحماسته، لم تعد كافية لتستفيد مؤسسته من كل الفرص المتاحة أمامها. فيدعو أفراد العائلة والأصدقاء والمستثمرين الأسخياء أو شركات الاستثمار، إلى توظيف رؤوس أموالهم في شركته. وبذلك يدفع ثمناً باهظاً: ففي الغالب يتعين عليه عندئذ أن يتنحى عن سيطرته التامة على الشركة. وقد يسمح المستثمرون الأسخياء للمؤسس بأن يكون له صوت أعلى مما تسمح به الشركات المساهمة في المعتاد. لكن في كلا الحالين ينضم إلى مجلس إدارة الشركة مديرون من خارجها.

وما إن يفقد المؤسس سيطرته على مجلس الإدارة حتى يصبح بقاؤه رئيساً مديراً تنفيذياً في خطر. ويكون على مجلس الإدارة أن يقوم بواجبه. ولكن حتى عندما يتعثر المؤسس الرئيس المدير التنفيذي في أداء مهامه، قد يصعب على مجلس الإدارة أن يُقنعه بعرض «طفلته» للتبني. غير أن الحاجة إلى التغيير في المراتب العليا تصبح أشد إلحاحاً، حين يكون الرئيس المؤسس قد أدى أداءً جيداً. ولنشرح هذا الأمر الذي قد يبدو مناقضاً للمنطق.

إن المهمة الأولى التي تواجه أي شركة جديدة هي أن تطور إنتاجها أو خدمتها. ويعتقد كثير من المؤسسين أنهم إذا كانوا قد أفلحوا في قيادة تطوير المؤسسة في مراحلها الأولى، ففي هذا دليل ساطع على نجاحهم في الإدارة. ويظنون أن ليس للمستثمرين أن يشكوا أو يتذمروا، بل عليهم أن يدعموا بقاءهم في موقع القيادة.

إن نجاح المؤسس يعسِّر عليه أن يستوعب أن الاحتفال بنزول المنتجات الأولى إلى السوق، هو أيضاً احتفال بانتهاء مرحلة. ففي هذه اللحظة يواجه قادة الأعمال مجموعة جديدة من التحديات. وعليهم في هذه الحقبة أن يجعلوا الشركة قادرة على التسويق وبيع مقدار كبير من منتجاتها، وتوفير خدمات ما بعد البيع للزبائن. عندئذ يتعقد حساب الشركة المالي، فيتعين على المؤسس أن يزداد اعتماده على المديرين الماليين والمحاسبين. ولا بد للشركة من أن تطور بنية أقوى، وعلى الرئيس المدير التنفيذي أن ينشئ مسارات عمل واضحة، وينمي المهام المتخصصة، ويقيم نظام رتب إدارياً. إن الحاجة الماسة في هذه المرحلة، إلى التوسيع الهائل للمهارة المطلوبة، تُثقل على معظم الرؤساء المديرين التنفيذيين بأكثر مما يستطيعون.

فالمؤسس الرئيس المدير التتنفيذي، الذي يتصف بالمهارة في التكنولوجيا، مثلاً، قد يكون أفضل من يقود الشركة في مرحلة إنشائها الباكرة. لكن الشركة تنمو، وتحتاج إلى شخص يتصف بمهارة من نوع مختلف. وفي الواقع، فإن تحليل الوضع في مجالس إدارة 450 شركة خاصة، يظهر أن المستثمرين من خارج الشركة يسيطرون على مجلس الإدارة أكثر، حين يكون الرئيس المدير التنفيذي هو المؤسس، وحين يكون تحصيله الأكاديمي في العلوم أو التكنولوجيا لا في التسويق والمبيعات. كذلك حين تبلغ خبرة الرئيس المدير التنفيذي 13 عاماً في المعدل.

لذا، كلما أسرع المؤسس الذي يتولى مهام الرئيس المدير التنفيذي، في إيصال شركته إلى المرحلة التي تحتاج فيها إلى تمويل خارجي وكفاءة إدارية جديدة، كلما تسارعت خطاه نحو فقدان سيطرته على إدارة هذه الشركة. والنجاح إذن يجعل المؤسس أقل ملاءمة لقيادة الشركة، ويبدل خريطة القوى المنشودة، وبذلك يضعفه. والرسالة الضمنية التي يتعين على المستثمرين في الغالب أن يبعثوا بها إلى المؤسس المدير التنفيذي، هي: «تهانينا، لقد نجحت، ولذا فأنت للأسف مصروف من العمل»!

وتحين لحظة الحقيقة عند المؤسس أحياناً بسرعة. وثمة شركة استثمار رأسمالي تعمل في سيليكون فالي، (حزام الصناعة الرقمية في كاليفورنيا)، تشترط، عند أول إسهام استثماري لها في أي شركة ناشئة، أن تمتلك %50 من رأسمالها على الأقل. ويتبع مستثمرون آخرون، من أجل تضييق مجال المخاطرة في استثمارهم، أن يوظفوا مالهم في مراحل، وفي كل مرحلة يتبدل تشكيل مجلس إدارة الشركة، ويزداد تهديد موقع المؤسس وسيطرته على الشركة. ثم يحتاج الأمر عادة إلى جولتين أخريين أو ثلاث، قبل أن يُحكم المستثمرون الخارجيون سيطرتهم على %50 أو أكثر من أسهم الشركة. وفي هذه الحالات يتيح هؤلاء المستثمرون وقتاً أطول للمؤسس المدير التنفيذي، في قيادة شركتهم، لأنه سيأتيهم تكراراً في طلب المزيد من المال، لكنهم في لحظة معينة، يضعون يدهم على مجلس الإدارة.

أوان الاختيار
حين تأخذ الشركات الناشئة في النماء، يواجه مؤسسوها مشكلة محيرة، مشكلة قلما يتنبهون لها في البدء. فعليهم من جهة، استدراج موارد جديدة لتثمير الفرص المتاحة أمامهم. فإذا اختاروا المستثمر المناسب، تعاظمت أرباحهم المالية. وقد تبين أن المؤسس الذي يتيح مجالاً أوسع لاجتذاب مؤسسين آخرين معه، ويتقبل نسبة أكبر من الموظفين والمستثمرين غير المؤسسين، ينشئ شركة أفضل من ذلك المؤسس الذي لا يرضى التخلي عن حصص كبيرة من الأسهم. وفي الحالة الأولى ينتهي الأمر بالمؤسس إلى اكتساب حصة أكبر من الأسهم. ومن جهة أخرى، إذا أراد المؤسس أن يجتذب مستثمرين ومديرين، فعليه أن يتنازل عن سيطرته على معظم مفاصل صنع القرار.

ويتوقف على هذا الجدال، مصير المؤسس: هل يصبح ثرياً، أم يتوَّج ملكاً؟ أن يختار المؤسس الثراء يعني أن يتيح للشركة أن تنمو في قيمتها، بالتنحي عن الواجهة والتنازل عن منصب الرئيس المدير التنفيذي، والكف عن الانفراد بالقرارات الكبرى. أما اختيار المؤسس أن يكون «الملك»، فيتيح له البقاء في منصب الرئيس المدير التنفيذي، وإبقاء أزمَّة مجلس الإدارة في يديه، لكن في معظم الحالات يفضي الأمر إلى إنشاء شركة أقل قيمة. ولا يرى كل المؤسسين أن الثراء أفضل من «المُلك» أو العكس. فالمسألة هي: هل نجح القرار الذي اتخذوه في هذا المجال، في تحقيق طموحهم الذي حفزهم على تأسيس الشركة أم لا.

لننظر مثلاً في حالة المؤسس المشارك في «أوكهام تكنولوجيز» رئيسها التنفيذي جيم ترياندفلو، الذي قدَّر سنة 2000م، أن عليه اجتذاب مستثمرين لتبقى الشركة على قيد الحياة. وسرعان ما استجاب لندائه مستثمرون عديدون، منهم واحد سخي لا خبرة لديه، وآخر هو شركة استثمار رأسمالية معروفة. وكان شأن عرض المستثمر السخي أن يترك لترياندفلو السيطرة على مجلس الإدارة، فلا ينضم إليه سوى شريكه المؤسس والمستثمر الجديد. أما عرض المستثمر الثاني، فترك له مقعدين من خمسة في مجلس الإدارة. وفهم ترياندفلو أن الشركة إذا كان يرجو لها أن تنمو أكثر، فلا بد من اختيار استثمار الشركة الرأسمالية، لا المستثمر السخي. وبعد طول تفكير قرر أن يجازف، فباع حصة من الأسهم لشركة الاستثمار المعروفة. وتخلى عن سيطرته على مجلس الإدارة. لكنه في المقابل كسب موارد وخبرة الشركة الجديدة، فزادت قيمة أوكهام أضعافاً.

من جهة أخرى، ثمة مؤسسون يتمسكون بشركاتهم لتبقى لهم السيطرة. فجون غابرت مثلاً، مؤسس شركة روم أند بورد, هو تاجر مفروشات ناجح يعمل في تجارة المفرق، وقد أسس تسعة محال. وأصر دوماً على رفض التمويل الذي يمكن مؤسسته من تسريع نمائها. فقد كان يخشى أن يفقده هذا التوسع السيطرة على المؤسسة. وقال لمجلة «بيزنس ويك» سنة 2007م: «العروض أعظم من أن أقبلها». والواضح أنه عازم على لزوم الخيار الذي اختاره ما دام قادراً على إدارة شركته بنفسه.

يبدأ معظم المؤسسين وفي نفوسهم كلا الطموحين: الثراء والسلطة معاً. لكن ما إن يتمكنوا من النجاح حتى يأخذوا في تغليب أحد الطموحين على الآخر. إذ يكون واحدهم عندئذ في الوضع الذي يمكنه من معرفة أي الأمرين أهم عنده. وتدلهم قراراتهم السابقة في شأن المؤسسين الشركاء والموظفين والمستثمرين، على ما يفضّلون حقاً. فما إن يعرفوا وجهة تفضيلهم حتى تصبح الخطوات التالية أسهل. فالمؤسسون الذين يعرفون أن حافز الثراء عندهم هو أهم من الاحتفاظ بالسيطرة على الشركة، سيهتمون باستخدام رؤساء تنفيذيين جدد بأنفسهم.

على العكس، ينزع المؤسسون الذين تحفِّزهم رغبة إبقاء السيطرة في أيديهم، إلى اتخاذ قرارات تعزِّز قبضتهم، في القيادة، على حساب احتمال تعظيم قيمة الشركة. والراجح أن يظلوا منفردين بصفة المؤسس، ويحصروا عملهم برأسمالهم الخاص، لا رأسمال المستثمرين الذي قد يدفع بهم إلى صفقات تزعزع سيطرتهم على الشركة. وبذلك يوظفون مديرين تنفيذيين لا يزاحمونهم على التحكم بالشركة. ففي سنة 2002م مثلاً، أراد المؤسس المدير التنفيذي في شركة تكنولوجيا معلومات مقرها في بوسطن أن يستدرج مبلغ خمسة ملايين دولار في جولة تمويل أولى. وفي أثناء تفاوضه مع المستثمرين المحتملين، لاحظ أنهم جميعاً مصرون على توظيف رئيس مدير تنفيذي محترف. ولما أفهمهم أنه «غير مستعد لتسليم الشركة لشخص آخر»، اكتفى بمبلغ مليوني دولار، ليبقى رئيساً مديراً تنفيذياً في السنتين التاليتين.

ويستخدم بعض أصحاب شركات الاستثمار ملاحظتهم لعوامل الميزان بين الثراء والسيطرة، ليقرروا إذا كانوا سيستثمرون في شركات يقودها مؤسسها. ويذهب بعضهم إلى الطرف الأقصى، فيرفضون دعم المؤسسين الذين لا يحفزهم المال. وبعضهم الآخر لا يستثمر في شركات ناشئة، إلا إذا كانت لدى المؤسس الكفاءة لقيادة الشركة في المدى الطويل. وحتى هذه الشركات، تشترط تبديل ما يصل إلى ربع الرؤساء المديرين التنفيذيين المؤسسين، في الشركات التي يمولونها.

ولا تُستثنى الشركات العريقة من هذا الاختيار بين الثراء والسلطة. ويعود أحد أفضل الأمثلة التاريخية إلى عام 1917م، حين عُرض على هنري رويس دمج شركة رولز – رويس، بشركة فيكرز، وهي شركة كبيرة لصنع السلاح، من أجل إقامة شركة بريطانية أقوى. فكان رد رويس: «من وجهة نظر شخصية أفضل أن أكون سيداً مطلقاً في قسمي الخاص، (حتى لو كان صغيراً جداً)، على أن أشارك في قسم أكبر بكثير، لي فيه شركاء يراقبون معي». فقد أراد رويس السيطرة لا المال.

إن الاختيار بين الثروة والسلطة يتيح لأصحاب المشاريع أن يقفوا أمام العناصر الحقيقية التي تقودهم إلى النجاح. فالمؤسس الذي يريد أن يدير إمبراطورية، لن يعد نفسه ناجحاً، إذا فقد السيطرة على المؤسسة، ولو جمع منها ثروة. على العكس، حين يكون في ذهن المؤسس أن يجمع ثروة، فلن يرى نفسه فاشلاً، حين يتنحى عن قيادة المؤسسة. وعندما يفهم أصحاب المشاريع لماذا ينشئون المؤسسات، فعليهم كما يقول المثل الصيني: «أن يقرروا من البداية في ثلاثة: قواعد اللعبة، ومبلغ الرهان، وموعد التنحي».

إبقاء المؤسس في مجلس الإدارة
ماذا يفعل مجلس الإدارة حين يطلب من المؤسس أن يتنحى من منصب الرئيس المدير التنفيذي؟ في الحالة المثلى، على مجلس الإدارة أن يبقي المؤسس معنياً بشكل أو بآخر في العمل، وفي الغالب عضواً في المجلس, وأن يستفيد من علاقاته ومعرفته، لمساعدة الرئيس المدير التنفيذي الجديد، في بلوغ النجاح. ويقول أحد المستثمرين في هذا الشأن: «يمكنك أن تستبدل رئيساً مديراً تنفيذياً، لكن لا يمكنك أن تستبدل مؤسساً».

وكثيراً ما يكون إبقاء المؤسس في مجلس الإدارة غير مضمون النتائج. فالمؤسس يستطيع أحياناً أن يؤدي من دون وعي، عملاً سلبياً. وقد يقاوم التغيير الذي يقترحه الرئيس الجديد، ويحض الموظفين الأوفياء له على المغادرة. وقد يعمد مجلس الإدارة والرئيس الجديد، إلى معالجة هذه الحال، باتخاذ أنصاف حلول، فتُوكَلَ إلى المؤسس مهمة تجميلية. لكن هذا الحل قد يفضي إلى نتيجة ضارة. فمثلاً، في شركة ويلي تكنولوجي، وافق لو سيرن على أن يصبح رئيس قسم التكنولوجيا، بعدما تنحى عن منصبه رئيساً مديراً تنفيذياً. لكنه اكتشف فيما بعد أن أحداً لم يكن يعود إليه بأي أمر. كذلك طلب إليه خلفه أن يتنحى عن منصب رئيس مجلس الإدارة. وقد تفاقمت من جرَّاء هذا حال التململ في الشركة.

يظهر استطلاع الأحوال في الشركات التكنولوجية الناشئة، أن %37 من المؤسسين الذين يحتلون منصب الرئيس المدير التنفيذي غادروا شركاتهم حين تسلَّم المنصب الأخير مدير محترف. وفي %23 من الحالات، قبل المؤسس بمنصب دون الرئيس المدير التنفيذي. فيما تولى %40 منصب رئيس مجلس الإدارة. ودلت دراسة أخرى تناولت الشركات السريعة النماء، أن %25 من المؤسسين غادروا الشركة عند إحلال رئيس مدير تنفيذي جديد مكانهم، فيما بقي %50 منهم في مجلس الإدارة في السنوات الخمس اللاحقة.

ويمكن لمجلس الإدارة أحياناً أن يساعد المؤسس في أن يلعب دوراً جديداً. فإذا كان لدى المؤسس ميل إلى مهام خاصة، ففي استطاعة مجلس الإدارة أن يكلفه تولي هذا القطاع فيترك للرئيس المدير التنفيذي الجديد كل الأمور التي لا يحب توليها، مثل الهندسة مثلاً. وبذلك يتاح للمؤسس أن يقدر إسهام من يخلفه في منصبه. وكلما ازدادت القيمة التي يضيفها الرئيس الجديد، ازداد المؤسس قبولاً للمرحلة الانتقالية. وكلما كان الرئيس الجديد مختلفاً عن المؤسس، مثلاً لو كان يكبره بعشر سنوات، كان قبول المؤسس للتغيير الذي حدث أسهل.

والمؤسس الذي يريد أن يحتفظ طويلاً بمنصب الرئيس المدير التنفيذي في الشركة الجديدة، لا بد من أن يكتسب مهارة جديدة. وعلى هذا، يمكن لمجلس الإدارة أن يشجع المؤسس على أن يلعب دوراً آخر في شركاتهم، يمكنهم من الاستمرار. فإذا لعب المؤسس هذا الدور، فقد يفلح في تطوير نفسه ليستعيد مكانته في السيطرة على الشركة. فمثلاً في سنة 1998م، حين عين مجلس إدارة شركة «إي إنك» (E Ink)، رئيساً مديراً تنفيذياً جديداً، تبين للمؤسس المشارك راس ولكوكس أنه يحتاج إلى تحسين بعض مهاراته. وأخذ من أجل ذلك، يتولى أعمالاً متنوعة في قسم المال، وفي التسويق، وحتى في الأبحاث والتطوير، ليملأ الثغرات التي شعر أنه يعانيها في مهارته المهنية. وحين أخذ مجلس الإدارة سنة 2004م، يبحث عن رئيس مدير تنفيذي جديد، لم يجد أفضل من ولكوكس نفسه مؤهلاً، فأعاده رئيساً مديراً تنفيذياً، في المنصب الذي ما زال يحتله إلى الآن.

أضف تعليق

التعليقات