الحديث عن النفط يجرّنا عادة لمناقشة تفاصيل الإنتاج والاستهلاك والأسعار العاجلة والآجلة. لكن قلَّما يتم تسليط الضوء على الجهاز العصبي لهذه الصناعة الجبارة، الذي تمثله أساطيل هائلة من الناقلات والمراكب البحرية هي الأضخم في تاريخ البشرية، تتكفل بنقل هذا السائل الأسود النفيس بين القارات وعبر المحيطات.
إن عالم قطاع الناقلات البحرية العملاقة، وناقلات النفط خصوصاً، حافل بالأسرار والتعقيدات، ويخضع لدورات تتداخل بشكل مثير مع دورات الحركة الاقتصادية الكبرى. يناقش هذا المقال أبرز أساسيات سوق الناقلات النفطية، ودوره المهم كقطاع خادم لحركة تجارة النفط والاقتصاد العالمي، بالإضافة لميزته أحياناً كبوصلة ونظام تنبؤ مبكِّر لأبرز الاتجاهات الاقتصادية والصناعية في العالم.
لا ينكر أحد الدور المحوري الذي تلعبه الطاقة بأشكالها وعلى رأسها النفط في تدوير عجلة الاقتصاد العالمي، وإمداد صناعات لا متناهية بمادة حياتها، وتسهيل حركة ملايين البشر والبضائع عبر القارات في مشهد صار قريناً لحضارتنا المعاصرة. ويُعد النفط أهم سلعة تُنقل بحراً عبر الناقلات العملاقة سواء من حيث القيمة أو الوزن، متفوقاً على سلع أولية أخرى كالحديد والغلال الزراعية، كما أن ثلثي نفط العالم الذي يُصدَّر بين الدول ينقل عبر البحر. وهنا تكمن أهمية هذا القطاع الذي يسهل نقل النفط الخام من مصادر إنتاجه إلى مراكز المصافي والتكرير حول العالم. تجدر الإشارة إلى وجود ناقلات أصغر مختصة بنقل المنتجات النفطية من ديزل وبنزين وغيرها، إلا أن التركيز هنا سيكون على ناقلات النفط الخام، وهي الأكبر حجماً والمهيمنة على خطوط الملاحة البحرية حول العالم.
هناك شركات إنتاج نفط ما زالت تملك أساطيلها الخاصة من الناقلات، إلَّا أن أغلب أساطيل بواخر النقل العملاقة تملكها شركات شحن متخصصة، تؤجرها بدورها على من يحتاج لنقل النفط، ويتم التأجير إما لكل رحلة على حدة، أو بعقد زمني إلى أجل معلوم. أسعار الأجرة هذه يتم الاتفاق عليها بين أطراف الصفقة بناءً على دليل مرجعي لأجور الرحلات حسب نقطة البداية والنهاية وسعة السفينة يعرف بـ World Scale يحدِّد سعر كل رحلة كنسبة تزيد أو تنقص من السعر المرجعي المقترح في هذا الدليل. كما أن بيانات الأجرة حسب كل خط ملاحي وحسب نوع السفينة يتم تلخيصها في مؤشر (تماماً مثل مؤشر سوق الأسهم)، يكون معلناً ومتاحاً لكل متابع. مؤشر أجور النقل النفطي هذا هو ما سنناقشه لاحقاً عند الحديث عن دوره في التنبؤ بالتقلبات الاقتصادية.
كل من حظي بمشاهدة إحدى ناقلات النفط وهي تمخر عباب البحر سيدهشه حتماً حجمها المهول، حيث قد يصل طول إحداها إلى قرابة نصف كيلومتر إذا كانت من نوع الـ VLCC أي الناقلات الضخمة جداً وهي من أكبر الأنواع. ويمكن تقسيم الأسطول العالمي من الناقلات حسب حجم السفينة، حيث تستعمل السفن الضخمة جداً مثل نوع VLCC للرحلات الطويلة عبر المحيطات، بينما تستعمل سفن أصغر قليلاً للمسافات القصيرة، ويصنَّف بعضها حسب قابليتها للنفاد عبر المضائق والمعابر المشهورة كالسويس ومضيق بنما وباب المندب.
دورة سوق الناقلات
يمكن القول إن دورات سوق الناقلات تتأثر بدورات سوق النفط صعوداً وهبوطاً، حيث يعكس كلاهما الأنماط الاقتصادية العالمية، فارتفاع أو انخفاض مؤشر ناقلات النفط (الذي يلخِّص معدل أجور الناقلات على الخطوط الرئيسة) له علاقة مباشرة بارتفاع أو انخفاض الطلب على السلعة التي ينقلها، ألا وهي النفط الخام، الذي يحاكي بدوره حركة الاقتصاد العالمي ونشاط الإنتاج الصناعي. هذا الجانب مفهوم ولا جديد فيه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سوق الناقلات يخضع لعوامل تخصه تحديداً، لها دوراتها الخاصة كأسعار الحديد وتكلفة بناء السفن، مروراً بالعوامل الجوية والمناخية من أعاصير وغيرها، والسياسية كأحداث القرصنة، أو البيئية كحوادث الناقلات وتسرب النفط في عرض البحر. تداخل هذه العوامل الخاصة مع العوامل العامة لقطاع الناقلات البحرية يزيد من تذبذب مؤشرات أجور السفن، ويعقِّد عملية استخلاص معلومات وتوقعات مفيدة للمراقب العادي.
وسيلة استطلاع مبكر
الآن سنحيد قليلاً عن الموضوع لشرح فكرة المؤشرات الاستباقية (Leading Indicators). الأرقام الاقتصادية الرسمة مثل الناتج الإجمالي المحلي تُلَخِّص مجموعة كبيرة من البيانات من مصادر مختلفة مثل الاستثمار واستهلاك الأفراد والإنفاق الحكومي إلخ، ويستغرق جمعها وقتاً طويلاً، لذا لا تتوفر هذه الأرقام الإجمالية إلا كل ثلاثة أشهر مثلاً (كبيانات ربعية). ولكن المتتبعين للحركة الاقتصادية سواءً كانوا أفراداً أو مؤسسات يتطلعون إلى ما يعطيهم الأسبقية في توقع حركة الاقتصاد قبل صدور البيانات الرسمية البطيئة. لذا ما فتئ الاقتصاديون يبحثون عما يسمَّى بالمؤشرات الاستباقية Leading Indicators يتعرفون من خلالها إلى اتجاه حركة الأسواق والاقتصاد قبل أن تُؤكدها البيانات الرسمية.
أحد هذه المؤشرات الاستباقية هي مؤشرات أسعار أجرة سفن النقل العملاقة ومن أهمها ناقلات النفط، وهي كلوحة إرشادية على الطريق السريع، تُنبئ باتجاه المؤشرات العامة في المستقبل، من نمو في الناتج المحلي للدول، أو تغير في مستوى الإنتاج الصناعي. فإن حصل ارتفاع ملحوظ على أجور الناقلات على أحد خطوط الملاحة، مع ثبات عدد السفن المتوافرة، فهو دليل على ارتفاع الطلب على النفط في تلك المنطقة الجغرافية، والذي قد يُعد مؤشراً لنمو اقتصادي أو صناعي، والعكس بالعكس.
كما أنها فضلاً عن تنبؤها بمستوى النشاط الاقتصادي في المستقبل، فإنها تملك ميزة إضافية، حيث يمكن عن طريق التدقيق في أسعار إيجار السفن الناقلة للنفط – حسب خطوط الملاحة – والتنبؤ بتبدل أحوال الاقتصاد والإنتاج الصناعي بين الدول والقارات، وملاحظة صعود دول وهبوط أخرى كمراكز جاذبة للنفط وغيره من المواد الأولية التي تغذي الاقتصاد الحديث. في الستينيات والسبعينيات مثلاً، كانت حركة الشحن البحري تشير إلى أهمية اليابان المتزايدة، مع استمرار هيمنة أوروبا وأمريكا في هذا المجال، ثم بدأ البساط يتحرك من تحت أقدام اليابان وينتقل إلى كوريا الجنوبية وغيرها من مجموعة النمور الآسيوية في منتصف وأواخر التسعينيات من القرن الماضي، وأخيراً باتت الصين في العقد الأول من الألفية الثالثة بؤرة جذب لأعداد أكبر من الناقلات العملاقة لتزويدها كافة أشكال المواد الأولية وعلى رأسها النفط لتدوير عجلة اقتصادها الهادر. فانتعشت إثر هذا أجور الناقلات المتجهة من الخليج العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية صوب مرافئ شرق آسيا، في المقابل تراجعت أجور ناقلات النفط المتجهة من الخليج إلى أوروبا ومن غرب إفريقيا إلى أمريكا الشمالية.
غشاوة على البوصلة، أم قصور في التحليل؟
لكن هذه العلاقة بين ارتفاع أو انخفاض مؤشر أجور الناقلات وبين نمو الطلب على النفط ليست ثابتة دائماً، بمعنى أننا قد نشهد فترات من ارتفاع الطلب على النفط مع ثبات أو حتى هبوط في مؤشر الناقلات، أو نُفاجأ بارتفاعات كبيرة في مؤشر أجور الناقلات دون أن يكون لسوق النفط علاقة مباشرة. لفهم هذا السلوك لا بد من توسيع إطار التحليل ليتناول العوامل الذاتية التي تؤثر في قطاع الناقلات، وعدم الاقتصار على عامل سوق النفط المباشر وحسب.
مثال من التاريخ المعاصر – ما قبل الأزمة الاقتصادية وبعدها
خلال الفترة ما بين 2002 و2008م، شهد سوق ناقلات النفط طفرة تصاعدية تُعد الأبرز في تاريخه. الطلب العالمي المحموم على النفط آنذاك دفع بأسعار استئجار أضخم أنواع ناقلات النفط VLCC للقفز من حوالي عشرين ألف دولار يومياً إلى ثمانين ألف دولار يومياً، بينما تضخمت أرباح شركات النقل، وكانت كل المؤشرات توحي بأن أسواق النفط العالمية مقبلة على عصر يزداد فيه الطلب اضطراداً بسبب الهيجان الاقتصادي في دول كالصين والهند وحرصها على كل قطرة نفط يمكن أن تشتريها من المنتجين حول العالم. شركات نقل النفط وغيره من السلع الأساسية كانوا كغيرهم ممن غفلوا مؤقتاً عن طبيعة الأسواق ودوراتها، فدفعتهم الأرباح الكبيرة المؤقتة وتوقعات ازدياد الحاجة للناقلات مستقبلاً للشروع في بناء وشراء أعداد أكبر من الناقلات مختلفة الأحجام لاستيعاب حاجة السوق المتوقعة. ما حدث بعد ذلك عام 2008م من انهيار الاقتصاد العالمي والهبوط الحاد في الطلب على النفط الذي تبعه، أوقع خسائر فادحة بقطاع ناقلات النفط، وتركه بفائض من السفن حديثة الصنع لا تجد من يستأجرها، راسية تنتظر الموجة التصاعدية القادمة. المثير هو أن الطلب على النفط شهد تحسناً منذ عام 2010 وحتى 2014م، ولكن ظل مؤشر أجور الناقلات عند مستويات منخفضة – كما يوضح الرسم البياني – وذلك بسبب وفرة في السفن المعروضة تفوق حاجة السوق، وسيأتي تفصيل ذلك ضمن العوامل طويلة المدى لاحقاً.
هذه الفترة المشار إليها لم تكن سوى نموذج يلخص تفاعل دورات سوق ناقلات النفط مع الدورات الاقتصادية الكبرى، وقد تكررت في السابق في دورات طويلة المدى، ما إن تصل إلى غايتها حتى تخلف وراءها دروساً استثمارية واقتصادية لمن أدرك حقيقتها.
عوامل من داخل القطاع
والآن نستعرض بعض العوامل الخاصة من داخل قطاع الناقلات التي قد تؤثر في مؤشرات الأجور وربحية مشغلِّي السفن. ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى عوامل قصيرة المدى وطويلة المدى.
عوامل المدى القصير:
أبرز العوامل المؤثرة في حركة مؤشرات أجور الناقلات على المدى القصير هي توفر السفن المناسبة لتغطية الطلب على خط معين، والتغير في تكلفة وقود السفن وأسعار التأمين، وهذه العوامل تتأثر بظروف الطقس وحالة البحر والمخاطر الآنية على خط معين مثل تهديدات القرصنة والعوامل الأمنية.
ولعلنا نذكر حوادث القرصنة التي حصلت قبل أعوام عند سواحل الصومال، وما تم من اختطاف ناقلات نفط وطلب فدية مالية كبيرة لكل سفينة. هذه الأحداث ومثيلاتها تسهم في رفع أسعار أجرة الناقلات من جهتين، الأولى أن شركة الشحن ستطلب أجراً أعلى مقابل زيادة المخاطر وترتفع معه أسعار التأمين، والثانية أن بعض الناقلات تضطر إلى تغيير خط سيرها وأخذ مسارات أطول وأبعد لتفادي المناطق الخطيرة، وبالتالي تتغير تكلفة النقل بسبب طول المسافة. هنا تكمن أهمية المضائق المائية استراتيجياً، خصوصاً تلك القريبة من مناطق التصدير كمضيق هرمز وباب المندب، وتحرص الدول على تأمين أمنها بشتى الطرق نظراً لأهميتها لأسواق النفط.
عوامل المدى الطويل:
طول مدة بناء وتسليم السفن الجديدة:
بناء الناقلات العملاقة عملية معقَّدة ومكلِّفة وتستغرق وقتاً طويلاً وأحواضاً متخصصة لهذا الغرض. وفي الوقت الحالي تتزعم كوريا الجنوبية قائمة الدول المصنعة لناقلات النفط والشحن، تليها دول مثل الصين واليابان. أثناء فترة الطلب المتنامي على السفن في العقد الماضي، ارتفعت أعداد طلبات البناء لدى صنَّاع السفن، وقفزت أسعار الناقلات الجديدة من نوع VLCC من حوالي 100 مليون دولار إلى 150 مليوناً في فترة قصيرة. المدة التي يحتاجها صنَّاع السفن بدءاً من وقت تسلُّم طلب جديد، وحتى موعد تسليم الناقلة يُراوح بين عامين وثلاثة أعوام، وهي مدة طويلة نسبياً، وقد تطرأ تغيرات في السوق عند التسليم لم تكن موجودة عند تقديم الطلبات. وهذا ما حصل تماماً، حيث بدأ صنَّاع السفن بتسليم السفن التي طُلبت بين 2005 و2006، بعد سنوات ثلاث، أي مع بداية 2008 و2009، في خضم الأزمة الاقتصادية وانحسار الطلب على النفط، مما سبب تشبعاً وفائضاً في عدد الناقلات المتاحة، وأثَّر سلباً على أجور النقل وأرباح شركات الشحن، ثم اضطرت بعض من هذه الشركات لإلغاء طلبيات ناقلات حديثة، فلحقت الخسائر بأحواض بناء السفن كذلك في دوامة سلبية شملت القطاع كله، ولم تتعافَ منها حتى بعد تحسن الطلب بعد الأزمة. والدرس هنا أن طول مدة بناء وتسليم الناقلات قد لا يتزامن مع الدورة الاقتصادية، مما قد يضاعف الأرباح وقت الرخاء ويفاقم الخسائر وقت الركود والكساد.
أبعاد بيئية وقوانين حماية:
حوادث تسرب النفط من الناقلات نادرة، لكن أصداءها الإعلامية تؤثر كثيراً في الرأي العام. ولعل أبرز هذه الحوادث كان اصطدام إحدى الناقلات بشعاب مرجانية عام 1989 مما تسبب في انسكاب حوالي نصف مليون برميل في البحر وسبَّب أضراراً هائلة بالبيئة المحيطة. المخاوف من تكرار هذه الحوادث أدى إلى إلزام شركات النقل بتغيير أسطولها وتحديثه بإضافة وسائل سلامة إضافية، مثل تقسيم خزان الناقلة الرئيس لقسمين منفصلين لتقليل حجم التسرب إن حصل. هذا القانون دفع مشغِّلي الناقلات لطلب ناقلات جديدة بمواصفات حديثة وإحالة السفن القديمة للتقاعد، مما سبَّب شحاً في الناقلات المعروضة في فترة من الفترات نتيجة عملية الاستبدال، وانعكس إيجاباً على أجور الناقلات وأسعارها.
عوامل منافسة وسياسية وجوية:
من الأسباب الأخرى التي قد تؤثر على مؤشر أجور ناقلات النفط إنشاء أنابيب نقل النفط بين الدول، فيستعيض المنتجون بها عن استئجار الناقلات وتنخفض أجورها، كما حدث بسبب مدّ أنابيب نقل حديثة بين روسيا والصين مثلاً. ومع أن نسبة النفط الذي يُنقل في الأنابيب تظل محدودة عالمياً، إلا أن إضافة خط أنابيب ذي سعة كبيرة يسهم في تقليص الطلب على الناقلات خصوصاً إنْ أدَّى خط الأنابيب إلى تجاوز مضيق أو نقطة عبور خطيرة.
من الأسباب أيضاً زيادة إنتاج النفط في البلاد المستوردة للنفط، كما حصل مؤخراً في أمريكا من زيادة في نفطها المحلي، الذي أزال الحاجة لكميات من النفط المستورد، وأضعف الطلب على الناقلات خصوصاً على خطوط الملاحة بين غرب إفريقيا وسواحل أمريكا الشرقية.
كانت هذه وقفات سريعة مع قطاع ناقلات النفط البحرية لتسليط الضوء على أهميته في الجانب اللوجيستي لأسواق النفط، وفائدته كمرصد لحركة الاقتصاد العالمي، ثم لفهم العوامل المؤثرة في مؤشرات الناقلات، سواء تلك المرتبطة بأسواق النفط مباشرة، أو العوامل التي يتفرد بها هذا القطاع.
السعة بالطن |
نوع الناقلة |
250000 طن (أو أكثر من 2 مليون برميل نفط) |
VLCC الناقلات الضخمة جداً |
120000 – 200000 طن |
سويس ماكس (وهي أكبر سفينة يمكنها عبور قناة السويس) |
60000 – 120000 طن (حوالي 750 ألف برميل) |
أفرا ماكس (للرحلات المتوسطة والقصيرة، والموانئ الصغيرة) |