زيارة الرسّام سمعان خوّام في محترفه البيروتي هي زيارة لمحترفات عدة في واحد، فهنا نجد لوحاته ولوحات رسامين آخرين حفظوها هنا في مرورهم ريثما يعودون. وهنا تدخل إلى محترف وإلى بيت بمنازل كثيرة تسكنه جماعة من الفنانين والشعراء.
أراده خوّام ملتقى لتبادل الأفكار ولخطوة فنية جديدة كل يوم. وهكذا كان.
«مربع 16»، هو الاسم الذي أطلقه الرسّام سمعان خوّام على محترفه في بيروت. فهو على شكل مربع وتتوزع جدرانه 16 شباكاً كما يليق بمصنع أو بمعمل.
كان هذا المكان معملاً للخياطة قبل أن يصير محترفاً للرسم منذ العام 2010م. ومن البداية أراده خوّام مساحة مفتوحة للقاء الرسامين الشباب والشعراء والفنانين على اختلافهم، ولتبادل الخبرات وإقامة ورش العمل والتجريب في الرسم وإقامة المعارض الجماعية وسهرات النقاش والمرح، ثم سرعان ما حوّل جزءاً من مساحة مشغله الواسع إلى غرف للسكن لمن يرغب بإقامة سريعة بأجر ضئيل من الفنانين القادمين إلى بيروت من أي مكان. وهكذا كان، فتحوّل المحترف إلى مسكن ومرسم ومكان للقاء أمزجة مختلفة لرسامين وفنانين يرجون الانطلاق في عالم العرض وإيصال صوتهم الخاص.
يقول خوّام إن تجربة السكن المشترك بين الفنانين تؤدي تلقائياً إلى تبادل في النظرة والتجربة وطرق العمل. وهي في الوقت عينه مساحة للتعارف بشخصيات كل منها ذات خصوصيات، ما يقتل الروتين ويحرك الراكد ويفتح الأذهان على عوالم جديدة. فالعالم هو شخوصه من البشر أولاً ثم ثانياً… وليس أخيراً.
بين الممرات الكثيرة
عند دخول الزائر يجد نفسه في المطبخ، مع علب البهارات الكثيرة والطناجر والمقالي المعلقة التي تمنح المكان حميمة ممزوجة برائحة الطعام الذي قد يصنعه أي واحد من سكان المربع. بعد المطبخ ممر طويل بمحاذاته تقع الغرف الأربع التي لكل منها طابع ساكنها.
نصل إلى المرسم الذي يقع في النصف الثاني من «مربع 16». في الزاوية حديقة صغيرة من نباتات صغيرة تتحمَّل العيش في الداخل ورائحة الألوان والزيوت، في الوسط لوحة الشطرنج المتروكة بيادقها على حالها بعد اللعبة الأخيرة غير المنتهية. ثم اللوحات الموزّعة على الجدران وفي الزوايا، والموضبة فوق بعضها هنا وهناك، ثم طاولة المكتب وبعدها طاولة الألوان والريش والسكاكين والمكاشط المستخدمة في الرسم، ثم طاولة قناني الأسيد والزيوت وسوائل غريبة بعضها من أدوية وبعضها من عصيرات. «أستخدم أي شيء لأرسم» يقول خوّام.
على الرفوف مرطبانات الكلوروفورم المرصوفة فيها أنواع مختلفة من الأسماك والطيور والأفاعي وأجنّة بعض الحيوانات، التي يهوى رسمها فينقل تفاصيلها نقلاً حيّاً.
والمحترف كله يقع تحت رحمة الشمس الداخلة من الشبابيك الكثيرة والواسعة التي يتحكّم في إضاءتها بواسطة ستائر رمادية اللون تضفي على المكان سحراً يناسب محترف رسّام شاب وجد أسلوبه الخاص بصناعة اللوحة، أسلوب يستحق لقب «النبت الشيطاني» الذي راق للنقّاد في بيروت، الذين وجدوا في رسومات سمعان خوّام خطاً خاصاً لا يمكن نسبته إلى أي مدرسة فنية ولا إلى تأثر بأي فنان آخر، وهو الذي لم يدرس الرسم ولم يتعلمه على يد رسّام، بل جاء إليه بسبب حادثة غريبة.
لغم الأرض… والألوان
لم يدرس سمعان خوّام فن الرسم، بل إن قصة دخوله إلى عالم الألوان سوريالية بحد ذاتها.
في سن السابعة عشرة وأثناء رحلة صيد في أحد جبال لبنان انفجر لغم تحت قدم خوّام، فقطعت رجله عند القدم واحتاج إلى عمليات جراحية كثيرة في ألمانيا امتدت سنتين. يقول خوّام إنه ما كان يفكر بأن يصبح رساماً في يوم من الأيام وهو الشاب الذي يعتني بآلات الخياطة في معمل والده، هذا على الرغم من أن سِير حياة الفنانين العظماء والأدباء والفلاسفة كانت تثيره، لا نتاجهم الفني أو الفكري. وكان في تلك المدّة قد نشر مجموعة شعرية أولى بعنوان «مملكة الصراصير» لاقت صدى محبباً في أوساط الشعراء الشباب في بيروت.
«كانت مرحلة التمدد على سرير المشفى كفيلة بإخراجي من شخصية الميكانيكي عاشق الآلات إلى شخصية الرسام الذي يعيد تفكيك المشاهد والأفكار لرسمها على قماشة أو قطعة خشبية أو مسطح حديدي، إضافة إلى تبلور شخصية الشاعر الذي يفكك الأفكار بالكلمات»، حسبما يقول خوّام. كان الأمر وكأنه انتقال من تفكيك الآلة إلى تفكيك المشهد، هناك بمفك البراغي، وهنا بالريشة والحروف.
ماذا يقول عن لوحاته؟
لوحات خوّام معجونة بألوان كثيرة، فكل لوحة أقرب إلى أن تكون قوس قزح، هذا على الرغم من أن فكرة اللوحة نفسها قد تكون سوداوية. يعلّق على هذا الأمر بالقول إن هذا يشبه الحياة الحقيقية. فالألوان كلها موجودة في الطبيعة ونحن نستعيرها من الطبيعة، على الرغم من أن نظرتنا إلى الحياة التي تدور في مسرح هذه الطبيعة قد تكون متفائلة وفرحة بهذه الألوان، وقد تكون سوداوية ومتشائمة تجاهها. أما في ما يخصّ شخصيات اللوحات ذات الأطراف غير الواضحة أو «المعاقة» -لو صح القول- فهي تمثيل على إعاقتي نفسها، فشخصياتي مني، ولا يمكنها إلا أن تشبهني، ولوحاتي بمنزلة سيرتي الشخصية. واللوحة ليست أمراً واقعياً قدر ما هي تفكيك للواقع ومنبثقة منه، لذا تجد أن لوحاتك القديمة تعبِّر عن المرحلة التي رُسمت فيها كما هو حال اللوحات الجديدة، وهذا يشبه الحياة الواقعية، كمن يتصفح ألبوم الصور فيرى شريط حياته يمرّ أمامه معطياً لكل مرحلة نكهتها الخاصة بها. في النهاية فإن الاستقرار على نمط معين هو بمنزلة موت. كل استقرار هو موت.
رسم شعر، شعر الرسم
يعلّق خوّام على العلاقة بين الشعر والرسم ويقول إنها علاقة ترتبط بالمخيلة والصورة، «دائماً ما أمنح اللوحات أسماء من جمل شعرية كتبتها، وفي بعض الأحيان أقوم برسم قصيدة ما، أو أكتب قصيدة حول لوحة رسمتها، وهذا تحدٍّ يجعلني أقارب ما أتخيّله بالكلمات أو بالألوان محاولاً الاقتراب قدر الإمكان من إيصال فكرة القصيدة في اللوحة أو فكرة اللوحة في القصيدة… لكني أشعر في هذه المرحلة بأن الشعر لم يعد حرفة أمارسها كما أفعل مع الرسم. أخذت أبتعد عن القلم لصالح الريشة بعدما وجدت أن عالم الكلمة آخذ بالضمور كقيمة وبالاتساع كفعل مع وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة التي تسمح للجميع بالتعبير عن مشاعرهم كتابة».
«سيرة أقترحها عني»
ولدت أنا سمعان خوَّام في مدينة دمشق في العام 1974م. منذ مراهقتي لم أتكيّف مع هذه المدينة التي وجدتها مغلقة ومنطوية على نفسها لأسباب كثيرة على رأسها السياسة. كنت أشعر بأنني شخص غير مرحَّب بي هناك بين أقراني في المدرسة أو في ملاعب الطفولة.
كانت بيروت التي زرتها مراراً برفقة أهلي مثال المدينة التي أرغب بالعيش فيها. في سن الخامسة عشرة انتقلت العائلة للعيش في بيروت وحصل جميع أفرادها على الجنسية اللبنانية بعد عشر سنوات من الإقامة فيها. الحرية في بيروت حتى في زمن الحرب كانت أمراً محبباً، أشعرني بأنني أنتمي إلى هذا المكان بالقوة ولو أنه لم يكن كذلك بالفعل.
أقمت عدداً من المعارض الفردية وشاركت في معارض جماعية في مختلف العواصم العربية وبعض الأوروبية، ولو أن بيروت حصلت على حصة الأسد منها.
قبل أشهر تعاقد معي غاليري «البارح» من البحرين، على أن يعرض لوحاتي مدة سنتين في عواصم دول الخليج العربي وبيروت.