في البداية أحتاج أن أقول إنني أهرب إلى اللغة، لأرصف الدنيا مراراً وتكراراً، ولكي أعيد تشكيل الطبيعة كما أحب لها أن تكون.
حين يصبح الدرب معتماً، أبني من الكلمات قمراً وأحمله في دفتري سراجاً لأمشي بصيراً. وأحياناً أرسم نفسي وأنا معي، فأصير اثنينِ في مدينة من حروفٍ لأحاول إدراك المحيطِ والصحراء.
حين تناولتُ نفسي ورسمت آخرَي معي في عالمٍ من المشاهد التصويرية، كنت أبحث عن ثالثنا الذي لم يصل بعد.
فصار آخري يحلمُ وأنا أكتب رؤاهُ من ذكريات ثالثنا الذي تأخّر عن موعده لأن الليل أطال التمدد والبقاء.
صار الليل محطة انتظارٍ مربكةٍ، وصار الحلم أغنية وصارت الأغنية رسالةً للبعيد منّا عنّا. ناديتُ آخري الذي أتى صدفة، وأخذت صدفته وصدفتي لإيجاد موعدٍ واحد مبنيّ على صدفتين، موعدٍ لثالثنا حتى يأتي صباحاً.
فكان الليلُ الطويلُ وحلمُ الآخر منّي وأغنيتي؛ كلها كانت رسالة واحدة لتكسر الليل الطويل، ومحاولة للوصول إلى المجهول بالنسبة لنا والمعلوم لثالثنا.
لهذا صرختُ: «هاتِ المداد ليبدأ الليل الطويل» و«واحلم لأكتب ما تراه».
هاتِ المدادَ ليبدأ الليلُ الطويلُ
واحلمْ لأكتبَ ما تراهُ
وما يدور بأمسنا يا صاحبي
حين التقينا صدفة قرب الحديقةِ
ثم سِرنا مُعتِمَينِ لنشرب الفجرَ المُشعّ بكأس شايٍ
باحثَيْنِ عن الحقيقةِ
فإتِ ريحا هادئًا
هاتِ المداد ليبدأ الليلُ الطويلُ
واحلمْ بأنّا قد
عبرنا الماءَ في الصحراءِ بحثًا عن سحابهْ
و ودعتنا الأمهاتُ الواقفاتُ على الطلولِ كخيم بدوٍ شامخاتْ
حينَ احضتنَّ بنا الطريقَ وأمسَنا
ثم اختفينَ مودعاتٍ باكياتْ
ورحلنا نبحث عن سحابهْ
في دربنا
كنا التقينا قاتلًا يُدميهِ في الليلِ القتيلُ
وبحيرةً تنشقّ من صلوَاتنا المتعثرهْ
وغابةً ضجّ السكون بها .. يمزّقهُ الهديلُ
لا تستفقْ كي لا يموتَ النّبرُ في لغتي
أكمل منامك كي أرى أحلامكَ
حتى أسجلَ ما ترى في صفحتي
أكملْ منامكَ يا صديقيْ
ينطلقْ مني الصهيلُ
نمْ كي أرى أثر السحابةِ في القُرى
وأرى خُطانا حين دقّتْ صوتنا فوق الثرى
وأرى اشتهاءَ الغاوياتِ على الطريقِ من الغجرْ
يصرخنَ بحثًا عن حليبٍ أو مطرْ
نم كي أرانا نائمينِ بليلنا فوق المياهِ
وكي أرى في الحلم كيف يغطّ في الأرض القمرْ
نم كي أرى الذكرى القديمةَ حينما نحنُ ابتعدنا عن صراع الألويهْ
ولكي أحسّ بأنّنا كنّا معا في عمرنا صوتينِ كانا يحلمانِ بأغنيهْ
واحلمْ, أرى منكَ القصيدةَ نجمةُ
واغرق كثيرًا .. في تفاصيلٍ مضتْ
حتى يحاصرنا الذهولُ
واعبر زمانك للبداية .. كي أرى نفسي الشريدة في البداية لفظةً
وأنا المسجّى بالدخان على الأريكة
حينَ عبّتْ أغنياتٌ ترصفُ الأيام لي كالماء
في وهَجٍ خفّي بين أضلاعي وبيني
حينما شاهدت نفسي واقفا قُربي
وعانقني الهواء كغيمةٍ سقطت جِواري في منامكَ
في منامكَ فلتصوّر لي الطريق إلى الطريقةِ
ثم أكمِل حُلمكَ الآنيّ في وقتٍ تشكّله الفصولُ
للربيع مساحةُ الطفلِ الذي قد بات في ليلِ الربيعِ يصوّر الأحلام في ظل القمر.
وللشتاء مساحة للشيخِ فينا
حين يشتاقُ المطرْ
وللخريف مساحةٌ للذكرياتِ المؤلمه
إذ كنتَ تبكي في المساءِ
وأرصد الآلام منك بأحرفي سرّا على همس السَّحَرْ
ومساحة للصيف فينا
حين كنا لا نرى شيّا
ولم نعرفْ سويّا كيف يخشى الناس شيئا كالحجرْ
نحن الثلاثة – أنت .. والغيبُ المضرج بالبنفسج والخزامى .. وأنا-
لسنا سوى فَرع تُشرّده الأصولُ
فرعٍ تشظّى من فضاءِ كتابة محفورةٍ في سِفر تكوينٍ قديمْ
فرعٍ يتيمْ
وكأننا كنّا أٌصِبنا باتّحاد الطينِ بالطينِ
امتزجنا في طريقٍ واحدٍ قربَ الحديقةِ
صدفةً .. فتشتتْ أسماؤنا
وثم لَمْلَمَنا الحُلولُ
فصرت مني
صرت منكَ
على المعاني
لا نُحسّ بأي شيءٍ غير ما تُملي الرؤى فينا
فكُنتَ العينَ تُبصرُ الأشياءَ حُلمًا عابرا
وأنا هنا لغةٌ ترددُ ما ترى من نفسها الأخرى
ويُشبعها الفُضولُ
فنحنُ رتقٌ قد فُتِقْ
ومنزل بين الظهيرة والغسقْ
عشنا زمانينِ
التقينا في زمانٍ ثالثٍ
حتى تنامَ وترصف الأحلامَ لي
ولكي أُترجمَ ما يجولُ
في صدرنا عن ذكرياتٍ قد رأيناها معًا
في عالمٍ لمّا يكنْ بعدُ
استقينا صدفتينِ لنخلق الميعادَ فينا
إذ تنامُ أنايَ فيكَ
وفيّ تصحو أنتَ
يولدُ ليلنا منّا طويلُ
فنعبر الأيام منذ نهاية الأشياء حتى أول الأشياءِ
أنتَ الشكلُ .. تعجنُ كل شيءٍ هادئًا
وأنا أقولُ
فاجلب مداد الحبر والأوراقَ لي
كي ينتهي الليلُ الطويلُ