من شأن الأمم الحيّة أن تتوقَّف بين زمنٍ وآخر، لكي تعيد قراءة تاريخها، وتتفحَّص منجزاتها وتتلَّمس إخفاقاتها على أصعدة الاقتصاد والمجتمع، وتُعيد النظر في أولوياتها، لتتمكَّن من استثمار معطيات المستقبل لصالحها، وتتجنّب عناصر الفشل أو التعثُّر التي واجهتها دول كثيرة، فلم تخلِّف سوى الحسرات على ماضٍ كان أجمل وأكثر رحمة بشعوب تلك البلاد.
لعل الصفة التي تُميِّز «رؤية المملكة 2030» التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، أواخر أبريل الماضي، هي واقعيتها الشديدة وصراحتها في تشخيص التحديات التي تواجهها المملكة. كما أن هذه الرؤية تأتي بديلاً للخطط الخمسية التنموية، التي ارتبطت بعصر الطفرة النفطية المفصلية. ودون إفراط في كيل المديح لتلك الخطط أو نقدها، فقد أنجبت مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، وجعلت أرامكو شركة سعودية مملوكة بالكامل للحكومة، واستكملت خلالها أغلب مكونات البنية التحتية، وحقَّقت نمواً في المستوى المعيشي لسكان المملكة. وتأتي الرؤية الجديدة لاستثمار الطاقة الكامنة في المجتمع ورفع كفاءة المؤسسات عبر بناء منظومة تعليمية تتواءم مع حاجات سوق العمل، ورفع جودة الخدمات والتنمية الاقتصادية وإطلاق حزمة من البرامج، بينها إعادة هيكلة الحكومة وبرامج التحوُّل الوطني والشراكات الاستراتيجية ورأس المال البشري.
لكن السؤال المركزي الذي كان يساور الاقتصاديين وكتَّاب الرأي والنُخب الثقافية منذ عقود، وناقشوه في كتاباتهم وحلقاتهم الخاصة، هو لماذا نرتهن للثروة النفطية وحدها؟ وإلى أي مدى يمكن أن نتعايش مع تقلبات الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً؟ وكيف سنصنع مستقبلاً آمناً لأجيالنا المقبلة؟ ولماذا تتحوّل ثروتنا التي تشغِّل مصانع العالم وترساناته الاقتصادية أحياناً إلى سيف مصلَّت علينا، بمجرد حدوث اهتزاز للسوق، أو تكدّر في الأجواء السياسية؟ والأسئلة كثيرة لا تتسع لها هذه المساحة.
الرؤية تضعنا أمام حقائق جديدة، وبعضها يبدو عاصفاً، فقد أعلنت صراحة أن على المملكة أن تفكّ اعتمادها على النفط كمصدرٍ وحيدٍ للدخل، وتحويل أرامكو إلى عملاق صناعي، يعمل في أنحاء العالم، وأنَّ على مصادر الدخل الوطني أن تتعدَّد وتتسع، وأن الوفرة من بدائل الطاقة المتجدِّدة كالذهب والفوسفات واليورانيوم، فضلاً عن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ينبغي أن تكون رافداً يعزِّز اقتصادنا. كما تضمَّنت اعترافاً بأن الفرص الثقافية والترفيهية المتوافرة لا ترتقي إلى تطلعات المواطنين والمقيمين، والتزَمت بتخصيص الأراضي لإقامة المشاريع الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتاحف ومسارح، ودعم الموهوبين من الكتَّاب والفنانين، ورفع عدد المواقع الأثرية المسجَّلة في اليونيسكو إلى الضعف.
ويبقى أن هذه الخارطة من الطموحات والرؤى لن ينجزها في المقام الأول سوى أبناء وبنات البلاد، فهم الثروة الباقية، ولذا فإن وضع استراتيجية وطنية كبرى لتحويل هذه الثروة البشرية إلى قوة حيوية مؤثِّرة في المشاريع والمصانع والمؤسسات، بعد تأهيلها من خلال الجامعات والمعاهد المتخصِّصة ذات المواصفات العالمية تعدّ أولوية قصوى، ولا بد أن تتضافر لتحقيقه مجموعة من الوزارات والشركات والمؤسسات المالية المعنيّة بهذا الشأن.
هذه الرؤية جديرة بأن تنمو أيضاً بين أيدي طلابنا وطالباتنا منذ المراحل الدراسية المبكِّرة وحتى المرحلة الجامعية، بعد تحويرها بما يتناسب مع كل مرحلة، ففي ضوئها ننتظر ولادة جيلٍ ماهرٍ ومبتكرٍ متشبّع بقيم العمل ومنفتح على ثقافات العالم ومتخلّص من الأوهام الكبرى..!