أمام كتاب «خُلقت لتبقى: كيف يمكن لبعض الأفكار أن تعيش، بينما يموت الباقي؟» ستقف أمام مفترق طرق، حتى وإن كان وقوفك هذا لثوانٍ. على يمين الكتاب، ستجد كتاباً آخر بعنوان «دليلك لتصبح مبدعاً خلال خمس دقائق»، وعلى يساره ستجد آخراً يقدم لك «وصفات وألعاب لعائلة خلّاقة».. وستسأل نفسك: هل تقرأ هذا النوع من الكتب، أم لا تقرأه؟ هل ستنضم إلى جماعة النوايا الطيبة، وستترك هذا الكتاب يقنعك أخيراً بأن هناك احتمالاً، ولو ضئيلاً، بأن في إمكانك أن تتعلم كيف تبدع، وتخلق، وتصنع الفكرة؟
سيشدك من كميك أمران. الأول، يغويك بفكرة عنوانه وغلافه الجذابة، وبانضمامه لقائمة النيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً، بينما يأمرك الثاني بالانصراف عن هراء كهذا. فمنذ متى خلقت هذه الكتب مبدعاً، وكيف لمؤلفيها أن يعدونا بتعلم حرفة لم يثبتوا قدرتهم على إتقانها؟
الاحتمال الأكبر هو أنك بمجرد تصفحك للكتاب سوف تنسى الجدل، وستستغرقك العناوين والحكايات المثيرة للاهتمام والتي تمتلئ بها صفحات الكتاب، وتقرر ما إذا كنت ستبدأ القراءة منذ بدايته أم تتركه وتنتقل إلى كتاب آخر بناءً على مدى إعجابك بسرد الكاتبين الأخوين تشِب ودان هيث، وحتى تتخذ القرار، إسعاد عثمان قرأت الكتاب لتقدم لك عرضاً مجملاً حوله.
مؤلفا الكتاب هما الأخوان هيث. يعمل تشِب وهو الأكبر مدرساً في قسم الدراسات العليا بكلية الأعمال بجامعة ستانفورد الأمريكية المرموقة، بينما يعمل دان مستشاراً في مؤسسة متخصصة بتقديم ورش العمل لموظفي الشركات، وهو عضو مؤسس لإحدى المؤسسات البحثية المختصة بتصميم وإنتاج الوسائل التعليمية الحديثة.
ورغم الاختلاف النسبي في مجالات عملهما، أدرك الأخوان هيث قبل سنوات قليلة أنهما قد أمضيا جزءاً من حياتهما العملية يدرسان كيف يمكن للأفكار أن تعيش وتبقى بشكل أو بآخر.
في مؤسسته التعليمية، يمضي دان وقتاً غير قليل في البحث عن أفضل الطرق لتدريس المواد المختلفة كالأحياء والاقتصاد والفيزياء وغيرها، ولهذا الغرض بعمل عن قرب مع أفضل معلمي هذه المواد في أمريكا: معلم الإحصاء الذي يعمل في الوقت نفسه مؤدياً هزلياً في أحد المسارح، معلم الأحياء الذي استحق لقب معلم السنة في أمريكا، معلم الاقتصاد القسيس الذي يهوى الكتابة للمسرح.
ومن عمله معهم، وصل دان إلى نتيجة واحدة: بالرغم من أن لكل معلم عظيم أسلوبه الخاص في الشرح، إلا أن هناك مجموعة من القوانين والطرق التي تشكل عاملاً مشتركاً بينهم مهما اختلفت خلفياتهم ومناهجهم.
أما تشِب، فقد أمضى عشر سنوات من حياته المهنية في جامعة ستانفورد باحثاً عن إجابةٍ لسؤالٍ واحد: كيف يمكن لبعض الأفكار أن تخلب ألباب الجمهور كليةً، بينما يطوي النسيان بعضها الآخر، دون أن يكون لهذا علاقة بالضرورة بمدى جودة الفكرة الرائجة منها أو رداءة المنسية.
وللإجابة على هذا السؤال، بدأ بحثه بعدّ الأفكار التي لديها ميل فطري للبقاء في أذهان الناس، كالنكت والشائعات والأمثال الشعبية وحكايات الحرب وأساطيرها. ومن هنا، قضى تشِب وطلابه الذين جندهم معه في بحثه المحموم مئات من الساعات في تجميع أمثلة عن هذه الأفكار، وتشفيرها وتحليلها وتصميم دراسات بناءً عليها، حيث أجرى أكثر من 40 تجربة مع أكثر من 1700 مشارك للإجابة عن أسئلة من عينة:
لم لا تزال «توقعات نوسترادموس» تُقرأ حتى اليوم بعد 400 سنة من صدورها، رغم عدم وجود ما يثبت أنها أكثر من مجموعة خرافات؟
لم لا يزال الناس يستخدمون بعضاً من العلاجات الشعبية رغم إثبات العلم عدم فعاليتها؟
لم لا تزال سلسلة كتب «شوربة الدجاج للروح» ملهمةً للكثيرين بعد سنوات من نشرها؟
للحفاظ على الأفكار الأخرى
وعلى هذا المنوال سارت دراسات تشِب إلى أن جمع ما يكفي لتقديم مادة جديدة في الجامعة كان عنوانها «كيف تتمكّن الأفكار من البقاء»، وكان أساس هذه المادة هو أننا إن فهمنا ما الذي يبقي بعضاً من الأفكار حيةً بيننا، فإننا نستطيع بالتالي أن نعدّل من بقية الأفكار الأخرى لتبقى هي أيضاً.
وخلال نقاشهما المشترك، أدرك الأخوان هيث أنهما كانا يبحثان عن إجابة لسؤال واحد، وما يختلف هو طريقتهما في طرحه. ووجدا الإجابة في مجموعة من التيمات والصفات المشتركة في مدى واسع من الأفكار الناجحة، تأكدت لهما عندما راجعا المئات من القصص التراثية الفلكلورية التي توارثتها الأجيال بشغف، ونظريات علماء النفس والاجتماع، وكان هذا الكتاب نتيجةً منطقية لمحاولتهما الإجابة عن السؤال الأهم: ما الذي يبقي الفكرة حية؟ حيث كتباه لتمكين فكرة القارئ -أياً كان حجمها ضمن المقياس العام للأمور- عن البقاء. وأن تبقى الفكرة وتعيش، فهذا يعني أن يفهما الناس أولاً، وأن يتذكروها، وأيضاً أن تؤثر على تصرفاتهم أو مفاهيمهم في المدى البعيد.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون هذه الفكرة استراتيجية جديدة يحاول أحد المدراء حث مرؤسيه على تطبيقها، ويمكن أن تكون وحدة دراسية معقدة يحاول معلم الكيمياء شرح مصطلحاتها لتلاميذه، ويمكن أن تكون رأياً ثورياً يحاول أحد الصحافيين إقناع جمهوره به.
تغيير تصميم الفكرة
وليس جوهرها
المختلف في الكتاب أولاً أنه قائم على تحليل دقيق آتٍ من باحثين لهما مصداقيتهما الأكاديمية، وثانياً أنه لا يناقش أحقية فكرتك أو أفكار الآخرين في البقاء، فهو يتجاوز هذه المرحلة ويفترض أن لكل الأفكار حقاً في البقاء.
كما أن الكتاب لا ينصحك بأن تبني فكرتك على ملاحظتك للأحداث الراهنة، فتغير مثلاً من استراتيجية تسويقك التي اخترتها لتواكب أخرى جديدة، كما أنه في الوقت نفسه، لا يتعامل مع ما عدا الفكرة.. فهو لا يتحدث مثلاً عن السبل التي تسهل لك معرفة جمهورك، أو لغة جسدك أثناء توصيلك لفكرتك. ما يقدمه الكتاب حقيقةً هو طرحاً لإعادة تصميم الفكرة، وليس تغييراً في جوهرها.
عبر مجموعة من السمات وجد مؤلفا الكتاب أنها مشتركة بين كل فكرة باقية بين ظهرانينا حتى اليوم، وهذه السمات هي على الترتيب: البساطة، اللامتوقع، المحسوس، المصداقية، العاطفة، والقصة.
ويخصص الكتاب لكل سمة فصلاً كاملاً يشرح مراحلها بالأمثلة التفصيلية. ولذلك ربما يمكنك اعتبار فائدة الكتاب في تنظيمه ومنطقيته، فهو ليس تجميعاً لتعاليم عامة قد تكون بديهية لكثير من الناس، وهو في الوقت نفسه ليس تأصيلاً نظرياً جميلاً لكنه لا يفيد كثيراً أصحاب النظرة العملية. هو تحليل دقيق ومنهجي لمادة جمعها باحثان لهما مصداقيتهما الأكاديمية.
وبناءً على هذا التحليل يمكنك ببساطة أن تضع السمات الست أو البنود في قائمة في صفحة واحدة، وتتأكد من أن فكرتك تحتوي عليها جميعاً، وتعيد تصميم فكرتك حولها إن لم تكن، لتزيد من احتمالية نجاح فكرتك وبقاءها.
تستطيع أن تقول، لهذا التفكير المنظم وحده، أن الكتاب لا ينتمي إلى الكتب العائمة التي تعدك بالمعجزات، وتستطيع أن تضعه ضمن قائمة الكتب الجادة التي قد يفيدك أن تقرأها في يومٍ ما.