كيف يبدو المشهد الأدبي العربي في لحظتنا الحاضرة؟ لا بد أن نفهم من هذا السؤال أنه يطلب صفة المشهد الأدبي وحاله، وجوهرياً، تقويمه الذي يتضمن الحكم عليه بأحكام القيمة. وبالطبع، فإن وصفه العددي والنوعي الذي يقترن بتقويمه، وقيمته التي لا تبرير لها إلا وصفه، لا يقومان دون قياس ومقارنة مع جهات مختلفة من خارج المشهد ومن داخله. فهو أفضل أو أسوأ حالاً منه في فترة زمنية معينة، أو بالمقارنة بالأدب في العالم، أو بتمييز بعض جهات هذا المشهد عن بعض.
ويمكن أن نميِّز صفات هذا المشهد الأدبي، من خلال أبرز حسابات وَصْفه المتداولة. وأولها يعتقد أن حاضر هذا المشهد أقل ازدهاراً وعبقرية منه في الماضي القريب، فهو -إذن- يتراجع ويكسد، لأنه لم يعد يشتمل على من يضارع العقاد وطه حسين وأحمد أمين وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب… وغيرهم ممن أصبحوا في هذا المنظور علامة الازدهار وعنوانه. وترتبط في هذه الرؤية صفات العبقرية والنضج والاقتدار بنوعية محددة وطرائق معينة في الكتابة والتأليف والجاذبية والرواج، وهي صفات القمة التي تنحدر من عليائها مسيرة التاريخ الأدبي الحديث، والوهج الذي لا يضيء إلا محيط دائرته. وأعتقد أن هذه الرؤية رومانسية ولا تستطيع الفكاك من حنينها إلى الماضي الذي يتشكل لكل جيل زمناً جميلاً لا يتكرر!
ويجاور هذه الرؤية، وصف آخر، يأخذ في حسابه دخول ما كان يوصف بالأطراف والهوامش وهي دول الخليج واليمن ودول المغرب، في مقابل المراكز الأدبية والفكرية العربية التي هيمنت على المشهد العربي ممثلة في مصر معظم النصف الأول من القرن العشرين، ومضافاً إليها بغداد ودمشق وبيروت منذ الأربعينيات والخمسينيات.
فقد تفكك مركز الثقافة والفكر والإبداع الأدبي والفني بقدر ما تعدد، واكتسب تنوعاً وغنى وثراءً لا يأسره نموذج ولا يختصره مركز. وحدث ذلك لأسباب محلية وعالمية، تبدأ من تطور التعليم والهامش المعقول لحرية التعبير وتقارب أجزاء العالم وانفتاحها على بعضها، ضمن فضاء جديد لعولمة الاقتصاد والمعلومات، والثورة التقنية في عالم الاتصال، بالإضافة إلى المقولات النظرية لما بعد الحداثة والاستعمار والبنائية، حيث التأكيد على التنوع والتعدد وانهيار المركز ونقد الهيمنة، وغيرها مما تزاوج وغذَى تسيّد النماذج المعرفية المنفصلة عن العقائدية الإيديولوجية.
ويتصل بهذا الوصف، الحسابُ للمشهد الأدبي العربي من زاوية اغتنائه بالمحلي والشعبي، بقدر اتصاله باليومي والهامشي وبالتفاصيل الدقيقة والجزئية.
فالرواية التي تدفقت إصداراتها المجبولة على صدقية التمثيل لمستويات الواقع، هي قرينة الحضور الملحوظ لقصيدة النثر أو التفعيلة في الإصغاء لصوت الحياة اليومية والتقاط نبضها الحار وحيويتها. لكن هذه الوجهة تغفل عما اقترن بذلك من نمو العصبية، وتزايد سلطان الخرافة والقبيلة والتقليد على مستوى القاعدة الاجتماعية. فكأن المشهد ينتكس من جديد في انفصام حاد بين تطلعاته التنويرية والعقلانية وطاقاته الإبداعية الجمالية وأحلامه في الارتقاء على الضرورة من جهة، واستشراء الأمية الثقافية والتعصب والخرافة، من جهة أخرى!.
وهناك من يسأل، بعد موت الجواهري، ونزار قباني، ونجيب محفوظ، ومحمود درويش، وعبد الله الجفري وأمثالهم في الفترة القريبة الماضية: هل المشهد الأدبي في طور انقراض الأسماء الكبيرة؟. وهو سؤال متشائم وغير منطقي؛ لأن كل زمن يلد أسماءه الكبيرة، بل إن وصفها بأنها كبيرة وبارزة يتضمن نسبية ما، تفتح إمكان البروز لغيرهم.
إن النظر إلى المشهد الأدبي العربي -إذن- هو جزء من النظر إلى الحياة العربية في توتر الوعي بها بين الماضي والمستقبل، وبين الذات والآخر. وإن تقويمه لن يبرأ -إجمالاً- من الشعور بأنه لم يبلغ بعد درجة التمام والرضا.