الاستفادة القصوى من الوقت، اختصاره، السرعة في إنجاز الأعمال، وكيفية القيام بأكبر قدر منها في وقت محدد.. أمور تم التشديد على أهميتها في العصر الحديث، وأبرزت كفضائل ومفاتيح للنجاح. وهي على الأرجح كذلك. غير أن الذين غالوا في الانغماس في الحياة السريعة، ويقيّمون اليوم واقعهم، يبدون أقل رضى من المتوقع.
أمين نجيب يتناول هذه المراجعة انطلاقاً من كتاب جديد ومجموعة أبحاث صدرت مؤخراً حول هذا الشأن.
ارتأت سائحة إنجليزية في مصر أن تزور ساكني القبور في القاهرة. فمنذ أن قرأت تقريراً عنهم، تنتابها مشاعر عديدة ومختلفة وأحياناً متناقضة تتفاوت ما بين شعور بالذنب لا تعرف مصدره وما هيته, والشفقة والأسى على حال هؤلاء الذين ضاقت بهم سبل الحياة ليسكنوا في تلك الأماكن المرعبة خصوصاً الأطفال.
ولما وصلت هناك, كانت النسوة يتجمّعن في الصبحية كعادتهن كل يوم، ويتبادلن الأحاديث ويقهقهن بملء جوارحهن. تقول إنها لم ترَ مثل هذا المشهد في حياتها إطلاقاً, حتى أنها لم تقرأ عنه في القصص الخرافية. مع ذلك شعرت بغيرة كبيرة تدب في كل أوصالها: تمنت أن تكون واحدة منهن, لكنها لا تستطيع. جاءت لترى بؤس الآخرين فكشف هؤلاء بؤسها العميق. قالت في تلك اللحظة ليس في لندن كلها وربما في إنجلترا امرأة واحدة في هذه اللحظة سعيدة كواحدة من هؤلاء . وعلى رغم ما في هذا القول من مبالغة، فإنه لا يخلو من الدلالات.
مجتمع تحت حصار البحبوحة
فقد أنتجت الحياة المتسارعة في دول العالم المتقدم, مستويات مرتفعة جداً من المعيشة، ورفاهية وبحبوحة لم يشهدها التاريخ إطلاقاً. ولكنها أنتجت أيضاً سلبيات كثيرة يعتقد البعض ومنهم أفنير أوفير في كتابه الجديد الصادر عن مطبعة جامعة أوكسفورد وعنوانه تحدي البحبوحة : إن المجتمع الغربي هو تحت الحصار. لكن عدونا ليس الفقر أو البطالة أو الإرهاب أو أنفلونزا الطيور, إنه أكثر مكراً وأقرب إلى بيوتنا. إنه الثروة التي راكمناها بنجاحاتنا المختلفة, لكن على حساب نوعية الحياة . إزاء ذلك، بدأت تنتشر في معظم دول العالم المتقدم من اليابان مروراً بأمريكا وأوروبا إتجاهات فكرية وحركات ومنظمات وجمعيات تدعو إلى إبطاء سرعة الحياة.
لا وقت للإحساس بالحياة
الشابة لين تومسون توافق مؤلف الكتاب وغيره من الذين يدعون إلى الإقلاع عن السرعة وتقول إنها تخرجت منذ بضع سنوات في الجامعة بتفوق، وعملت في حقل الإعلان والدعاية. وخلال سنوات أربع حصلت على ثلاث ترقيات حتى وصلت إلى المراتب العليا وأصبحت تتقاضى حوالي 130,000 دولار في السنة. وسكنت في أجمل الشقق وكانت من روّاد أفخم المطاعم. لكن وقتها وأحاديثها واجتماعاتها كانت كلها للعمل. حتى أحلامها وهي نائمة كانت حول العمل. لقد نجحت نجاحاً باهراً, لكنها فجأة انتفضت ليس عندي وقت للتمتع بهذا النجاح . ومنذ تلك اللحظة تغيرت حياتها بالكامل وطلبت من مسؤولي العمل التدني في الوظيفة (Demotion) بدل الترقّي كما يتطلع باقي الناس. وفي أحد الأيام وقد تركت سيارتها وذهبت مشياً إلى العمل ببطء ملحوظ، رأت رجلاً متقدماً في العمر يعرج لإصابته بداء المفاصل فساندته بأن اتكأ عليها إلى أن شعر بالتحسن. في تلك اللحظة قالت أنها لم تشعر بالفرح خلال فترة عملها بأي شيء كما شعرت بهذه المساعدة. يضيف أوفير في كتابه إن السرعة تصنع النجاح الذي بدوره يصنع البحبوحة التي بدورها تظهر على الدوام توقعات كثيرة فنستغل كل دقيقة من وقتنا لذلك ونصبح مدمنين على ذلك, ونفقد بالتالي متعة الحياة العادية . وقد أصبحت السرعة ذاتية المرجعية. هي الهدف بحد ذاتها وليست وسيلة لهدف آخر. ويرى بعض المفكرين أن هذه السرعة هي مثل سرعة دقات القلب عند الشيخوخة, ليست دليل عافية.
العولمة والتكنولوجيا.. زيادة السرعة
مع انتشار التكنولوجيات المتعددة الاستعمالات مثل الهاتف النقال والكمبيوتر المحمول فإن السرعة في إنجاز الأعمال بدل أن تولد وقتاً حراً قد شغلت الوقت خارج دوام العمل، وحرمت الفرد من كثير من الأشياء الجميلة التي تعطي معنى للحياة مثل العائلة والأصدقاء والجماعة المشتركة. وتصبح السرعة إدماناً وطريقة حياة بحد ذاتها. ويقول جوف سمول في كتاب جديد له إن دوام العمل العادي في الغرب أصبح ما بين 60 و 80 ساعة في الأسبوع وأن أيام السبت أصبحت أيام عمل عادية, وإذا بقي بعض الوقت أيام الآحاد فيكون المرء مجهداً لا يستطيع الحراك. ولأن سوق العولمة المفتوح 24 ساعة بسبب الفارق في الوقت فإن كثيراً من الشركات الأمريكية مثلاً قد حولت دوام العمل على هذا المدار. وقد امتدت مهمات العمل إلى البيت وإلى كل مكان آخر، وكثير من العاملين أصبحوا تحت الطلب (مثل الأطباء) على مدار الساعة. يضيف سمول الذي يدعو في كتابه إلى منحى آخر إزاء سرعة الحياة لأن حياتي أصبحت سباقاً مع الساعة, أصبحت دائماً في عجلة من أمري ألهث وراء توافر دقيقة من هنا ودقيقة من هناك. فجأة رأيت نفسي بينما كنت أداعب ابني في آخر اليوم أنني أستعجل نهاية المهمة. رباه لقد أصبحت هذه اللحظة مثل لحظات العمل الأخرى . ويضيف أيقنت عندئذٍ السبب الحقيقي وراء نسب الطلاق العالية وتفكك العائلات المخيف وتشتت العائلة الواحدة في عدة أمكنة. كما أن مستويات الكآبة والضغط والأمراض العقلية وارتفاع الديون الخاصة, ارتفعت إلى مستويات مخيفة .
وتأثير هذا التسارع في العمل والمدرسة والمطاعم وغيرها كبير على الصحة. ففي اليابان انتشر نوع غريب من المرض اسمه كاروشي (Karoshi) أو الموت بسبب السرعة وكثرة العمل. وفي مقالة في النيويورك تايمز بتاريخ 5 سبتمبر 2004م، يقول جون شوارتز إن كثيراً من الأمراض في الولايات المتحدة من الضغط إلى أمراض القلب والجلطات والسكري وإضعاف جهاز المناعة سببها أمكنة العمل. فهل هذه الظاهرة طبيعية؟ سرعة في كل شيء ومع ذلك سمنة وأمراض متعددة كما أعلاه؟
الدعوة إلى التباطؤ
إزاء هذا النوع من الحياة السريعة ومخاطرها العديدة على الفرد والمجتمع وعلى الصحة, أخذت تبرز دعوات كثيرة في كافة أنحاء العالم المتقدم تدعو إلى مناهضتها. وقد أنشئت جمعيات كثيرة تدعو إلى التباطؤ في التفكير والرياضة والتمارين وإنشاء مطاعم بطيئة وفنادق بطيئة وحتى هندسة معمارية بطيئة.
وقد أنشئت في إيطاليا سنة 1986م حركة الطعام البطيئة التي تمثلت رافقها بعض المطاعم البطيئة التي تقدم لروادها طعاماً بطيئاً أي بمعنى يشبه الطعام في البيت حيث إن كل مكونات الطعام طازجة ويتم تجهيزها حسب الطلب. وتدعو هذه المطاعم إلى التلذذ بالأكل على مهل بدل جرفه إلى الأحشاء بسرعة. كما تدعو إلى المشاركة في الخبرة والصناعة والأكل مع الأصدقاء والأقارب. ومنذ ذلك التاريخ، انتشرت هذه الظاهرة من إيطاليا إلى حوالي 100 بلد وأصبح هناك عشرات الآلاف من الأعضاء وفي الولايات المتحدة حوالي 150 مقصفاً من هذا النوع.
وللدلالة على مدى انتشار هذه الظاهرة فقد أخذت تبرز تسميات خاصة بكل بلد حول الموضوع نفسه مستعملين الكلمة الإنجليزية (Slow) التي امتد معناها ليصبح الطريقة الأفضل والأكثر توازناً لمقاربة الأشياء. ففي إيطاليا يستعملون الأكل البطيء و المدن البطيئة . وفي اليابان يستعملون الحياة البطيئة . وفي هولندا والدانمارك يستعملون شبكة الحياة البطيئة . وفي أمريكا دعا أحد الأساتذة التربويون إلى مدارس بطيئة . ويعلق الصحافي كارل هونور بالقول إن هذه الظواهر ليست كظاهرة الهيبي وغيرها التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين, بل إنها أعمق من ذلك بكثير لأنها بدأت تمتد إلى مناح كثيرة من الحياة. فمثلاً المشي بدل ركوب السيارة, إعطاء الأولاد وقتاً أطول, القراءة بدل مشاهدة التلفزيون, اتباع وسائل ترفيه تقليدية مثل الاهتمام بالحديقة أو الخياطة, الانقطاع من وقت لآخر عن التكنولوجيا. كما امتدت هذه الظاهرة إلى الهندسة المعمارية وهندسة الديكور. وتقول مصممة الديكور الداخلي لوري أبرامس إن فلسفتها هي إظهار الرغبة في التباطؤ والتمتع بالحياة العادية والأشياء البسيطة العادية مع الأصدقاء والأقارب.