أرسم رجلاً وحيداً مثلي، على الحائط،
ثمّ أخاف أن أشعر بالوحدة مثله
فأرسم بجانبه فراشة،
ثمّ أخاف أن تطير
فأرسم أربعة جدران،
ثمّ أخاف علينا من الحزن
فأرسم غيمةً في الذاكرة،
ثمّ أخاف من غربان الأسئلة
فأرسم مكيدةً،
ثمّ أخاف أن ينجح الأمر
فأرسم شجرةً من بعيد لا تبالي بما يحدث،
ثمّ أخاف أن يصدّق ما يحدث
فأرسم قمراً يقضمه النّـدم،
ثمّ أخاف أن تشغله القصيدة
فلا أرسم شيئاً،
ثمّ أخاف أن يكتشف الشّـكّ
فأرسم باباً موصداً بعنايةٍ،
ثمّ أخاف أن يعتاد على الفشل
فأرسم له حقيبةً، في داخلها حقيبةٌ، في داخلها مفتاح،
ثمّ أخاف أن يدرك السر
فأرسم خلف الباب هاويةً،
ثمّ أخاف على كبريائي من جنونه
فأرسم بومةً تسكن كتفه الأيمن،
ثمّ أخاف أن يبالغ بالحكمة
فأرسم ذئباً في رئته اليسرى،
ثمّ أخاف أن ينتقم من جسده
فأرسم لفافةً تتكشّـف بين شفتيه،
ثمّ أخاف أن يختنق الحلم
فأرسم نافذةً،
ثمّ أخشى من اللّصوص
فأرسم بندقيةً،
ثمّ يقتلني البرد،
ثمّ أخاف من النّـسيان
كلما أنجزتُ لوحة جديدة، أشعرُ أنني أموتُ قليلاً
(فنست فان جوخ)
في صنعاء، تحديداً في غرفة بالطّابق السّابع، في زاوية السّطح، تُطلّ على سوق شعبيّ مزدحم بالضّجيج والناس، هناك في غرفتي أنعزل بهدوء عن كل ما يجري في الخارج مع بضع كتب وجهاز كمبيوتر مزود بشبكة إنترنت معاقة تقريباً، وعدد لا بأس به من قناني الماء الفارغة، بالإضافة إلى الشعور المزعج بالتّهديد المستمر من انقطاع الكهرباء في أي لحظة دون سابق إنذار، الذي قد يستمر لساعات، وبرد قارص..
إنّها وبلا فخر«المجموعة الكاملة للشقاء» صناعة منزلية بامتياز.. كلّ هذا هناك في غرفتي حيث كلّ ما حولي مُضجر ويُشعرني بالوحدة تماماً بل يدفعني إلى التوحد الخالص. وهذا كلّه كان كافياً ليدفعني إلى كتابة نصٍ كهذا.. أو لعلني كنتُ أكثر حكمة وتفاؤلاً فيما كتبت..
مع هذا، لا أدعي بأنه لا أصدقاء لي. لكنّني أقول إنّني وحيد. وأنا أدرك الفرق لا سيما وأنا أعايشه. ربما، وباعتقادي أنّني كنت أكثر شخص محبوب بين من حوله. طبعاً أقول هذا من خلال من عرفتهم أو قابلتهم.. لكن الوحدة مرض مزمن متملك لأقصى غاية، وشعور لا يمكن قهره أو تفسيره، بغض النظر عمَّن وما حولك. وهذا ما يجعلها أكثر تميزاً من بين كلّ الحالات الأخرى التي يعانيها الإنسان.
أكتب لكم كشاعر وأفكّر في الأشياء كطفلٍ وأعيش الأمور كمهرجٍ وأتحدّث مع الآخرين كعجوزٍ.. وعلى النصِّ أن يحتمل كل هذا وأكثر.
وهذا يعني بصيغةٍ أدق بأنني مستاء! وبالفعل أنا كذلك.
كان من الأسهل عليّ دائماً أن أقول: ولدت في عائلة ميسورة الحال، حيث كان لدينا متسعٌ من الوقت لنتبادل الكتب، ولديّ ذكريات جميلة يحسدني عليها الجميع…
لكن أياً من هذا لم يكن صحيحاً. باستثناء الجزء الأخير المتعلِّق بالحسد، طالما كان لديَّ رصيدٌ هائلٌ من الشّقاء يحسدني عليه كثير…
في الحقيقة أنا لا أعرف كيف يمكنني أن أتحدث عن الكتابة في معزل عن الشقاء.. خصوصاً إن تطرقتُ للبدايات. كما لا يمكنني أن أسرد تفاصيل أيامي التَعبة دون أن أتطرق لأمر الكتابة..
كما أنّه لم يعد مهماً أن أعرف أيّهما جلب الآخر وأيهما كان الأسبق. لكنّني مؤخراً وصلتُ إلى ما يشبه اليقين بأنّ الكتابة جعلتني أعيش بشقاء أفضل، بطريقة أخرى، أكتب لأتطهر.. أكتب لأقتل..
نعم، أنا قاتلٌ متسلسلٌ بالفطرة ولا أشفق على أحدٍ …فأنا أوّل ضحاياي.
أعني هذا فعلاً، وأعي ما أقوله تماماً. الكتابة بصيغةٍ أخرى هي محاولة لانتحارٍ جماعيٍ، وعليّ أن أستمرّ أبداً فيما أجيدُ القيام به. ولا مكان هنا لخطأٍ أو شفقةٍ.
وفي النّهاية فأنا لا أعلم بالتّحديد إن كنتُ سعيداً، ولا أتذكر متى فكّرت بهذا الأمر، كما أنّني لا أعرف إن كنتُ قد وصلت إلى ما أريده أو سأصل، خصوصاً وأنا لا أعلم ما أريده. باستثناء حقيقة وحيدة…
وهي أنّني أريد أن أوبِّخ العالم بأي طريقة كانت وإن كلفني هذا حياتي.
أتساءل في بعض المرات، ربما كنتُ محظوظاً بالفعل، أفكّر بهذا كثيراً، لكنّها المرّة الأولى التي أقولها. قراءتي للشّعر عرَّفتني بعوالم جديدة.. الشعر صالحني مع العالم..
جـلال الأحمدي
– عضو محرر في مجلة الحكمة الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين 2011 إلى 2013.
– مسؤول ثقافي لرابطة البردوني الثقافية خلال الفترة من 2008 إلى 2010، اليمن.
– مراسل ومحرر لمجلتي (ضفاف وأفنان / صادرتان عن أدبي تبوك) خلال الفترة ما بين 2009 حتى 2011.
– جائزة الدولة في مجال الشعر لعام 2011، اليمن.
– جائزة الشاعر (عبدالعزيز المقالح) في مجال الشعر 2014.
– أربع مجموعات شعرية مطبوعة (شجرة للندم أو أكثر / دار أروقة، القاهرة). (لا يمكنني البكاء مع أحد / دار مدارك، الإمارات). (أن أخرج الغابة من صدري / دار ميم، الجزائر). (درج البيت يصعد وحيداً / دار مسعى، البحرين).
– كتابات متفرقة تُرجم بعضها وشارك في أنطولوجيا عن العالم العربي باللغة العربية والبولندية والفرنسية والفارسية.