عندما قررت «أرامكو السعودية» إنتاج الفِلمين الوثائقيين «بحار الصحراء» و«بحار التغيير»، كانت غايتها أن تظهر للعالم مدى اهتمامها بالشأن البيئي إلى جانب أعمالها في التنقيب عن النفط وإنتاجه من آبار المملكة بحراً وبراً. إلا أن المادة التصويرية للفِلمين فاجأت الشركة نفسها كما علماء البحار في جامعة بريستول البريطانية وكذلك المتخصصين في صناعة السينما تحت الماء، ليفوز «بحار الصحراء» بجائزة الاستحقاق في مهرجان «أفلام الحياة البرية» الذي أقيم في ميسولا – مونتانا، بينما يوثق فيلم «بحار التغيير» اعتناء أرامكو السعودية بالبيئة، وهو يعرض في مختلف المعارض والمؤتمرات التجارية في جميع أنحاء العالم. جامشيد دين يروي في هذه المقالة التي نُشرت في مجلة «دايمنشين»، عدد صيف 2012م، قصة الفِلمين مدعومة ببعض المشاهد النادرة لكائنات فريدة تستوطن أعماق الخليج العربي والبحر الأحمر.
«بحار السعودية» .. موطن أندر الكائنات والأسماك
يتيح فِلما «بحار الصحراء» و«بحار التغيير» فرصة ثمينة لجماهير العالم لرؤية الكنوز الخفية التي ترقد تحت سطحي البحر الأحمر والخليج العربي بطول الساحلين الشرقي والغربي للمملكة العربية السعودية، خصوصاً وأن منطقة الخليج العربي تكونت في نهاية العصر الجليدي الأخير، أي نحو 10 آلاف سنة، في حين يعود تاريخ البحر الأحمر إلى أبعد من ذلك.
ويكشف «بحار الصحراء» الذي تبلغ مدته ساعة ويُروى بصوت السير ديفيد أتينبورو، كنوزاً تكمن في أعماق الخليج العربي والبحر الأحمر وأسرار الحياة البحرية الخفية والأنظمة الإيكولوجية النابضة بالحياة، التي لا يعرف السعوديون بوجودها على سواحل بلادهم. كما يجري مقارنة بين البيئة الفريدة لكل من هذين البحرين، ويسلِّط الضوء على مخلوقات تعيش في كل منهما، ومن بينها الثعبان البحري ذو الحلقات الذي يبلغ طوله مترين وتقدَّر قدرته على القتل بسبعة أضعاف قدرة الحية ذات الأجراس. وقد تم تصويره في البحر الأحمر وهو يشق طريقه بين الشعاب المرجانية بحثاً عن الطعام. وفي مياه الخليج العربي على الساحل الشرقي للمملكة، تم تصوير أحد أكبر الحيوانات على الأرض، وهو القرش الحوت الذي يبلغ طوله 15 متراً، ويوازي وزنه وزن عدة أفيال، وهو يسبح بكل سهولة في المياه الموحلة.
لا يركِّز «بحار الصحراء» الذي قدَّم منظوراً جديداً للمنطقة، على الحياة البحرية غير العادية التي تحيط بالمملكة فقط، بل يصوِّر بكل سلاسة آلاف الطيور المهاجرة التي تتوافد كل عام إلى الجزر المرجانية التي تقع في الخليج العربي، خصوصاً أن تلك الأراضي تخلو من مظاهر الحياة الحديثة، مما يجعلها ملاذاً مثالياً لتكاثر هذه الطيور، ومن بينها 250 ألفاً من طيور الغاق السقطري، أي ما يشكِّل ثلاثة أرباع الطيور الموجودة في العالم من هذا النوع، إضافة إلى وجود الآلاف من طائر الإنكا ذي الشارب الذي تجتذبه أيضاً تلك البيئة الخصبة للتكاثر.
أما البحر الأحمر فيستمر في إبهار العلماء بما يتمتع به من حياة بحرية غنية، ومن كائنات مستوطنة فيه، خصوصاً أن 10 في المائة من ألف نوع من الأسماك الموجودة فيه، غير موجودة في أي مكان آخر على هذا الكوكب. وهذا ما جعل العلماء يصفونه بأنه «محيط قيد التكون»، نظراً لما يتميَّز به من خصائص جيولوجية فريدة من نوعها، مما يعني أن البحث في مياهه قد يساعد أيضاً في العثور على إجابات لخفايا محيطات العالم.
بيئة «الخليج» و«البحر الأحمر».. نافذة «أرامكو السعودية» على العالم
وتعود أحداث فكرة إنتاج الفِلمين إلى عام 2008م عندما اقتُرح تنفيذ خدمة إعلامية للتعريف بجهود الشركة في رعاية البيئة.
ولما كان الهدف هو الوصول إلى الجمهور العالمي، كان يجب أن يكون الإنتاج على مستوى عالمي أيضاً، ليعرض على شاشة «ناشيونال جيوغرافيك» أو «ديسكفري» أو «أنيمال بلانيت». وقد جرى البحث عن شركات إنتاج لديها سجل حافل بإنتاج مثل هذه الأفلام وعرضها على واحدة من هذه القنوات. وتم حصر عدد قليل من شركات الإنتاج وجاءت على رأس القائمة شركة «آيكون فيلمز» في بريستول (المملكة المتحدة)، وهي منتجة سلسلة «وحوش النهر» التي حققت نجاحاً ساحقاً.
وفي أكتوبر من العام نفسه، تم الاتفاق مع قناة «ناشيونال جيوغرافيك» لعرض الفِلم، وذلك خلال لقاءات تمت على هامش مهرجان سينمائي لأفلام الحياة البرية في بريستول بحضور أشهر محرري القنوات التلفزيونية في العالم.
اتفاق وبداية
وبحسب الاتفاق، كَّلفت «أرامكو السعودية» شركة «آيكون» بإنتاج فِلمين وثائقيين منفصلين موجهين إلى جماهير مختلفة. الأول بعنوان «بحار الصحراء» يصور النظم الإيكولوجية البحرية الفريدة من نوعها في المملكة العربية السعودية، وهو موجَّه إلى الجماهير العالمية، ومصمم خصيصاً ليستوفي الشروط اللازم توافرها في البرامج الواقعية للبث دولياً على قناة «ناشيونال جيوغرافيك – وايلد». أما الثاني فهو فِلم أقصر عنوانه «بحار التغيير» يوثق جهود «أرامكو السعودية» في مجال حماية البيئة، على أن يستخدم كفِلم لها تعرضه في مختلف المعارض والمؤتمرات التجارية في جميع أنحاء العالم.
وبحلول فبراير 2010م، كان كل شيء معداً للانطلاق، ووصلت «آيكون» إلى المملكة العربية السعودية لبدء التصوير. وأحضرت معها معدات يصل وزنها إلى 4 آلاف كيلوجرام.
ونظراً إلى أن الفترة المتاحة لإكمال الفِلم الوثائقي من البداية إلى النهاية كانت سنة واحدة فقط، لم يشأ فريق الإنتاج إضاعة أي يوم دون عمل. إلا أن الأحوال الجوية كان لها رأي آخر، خصوصاً بعدما خرج طاقم التصوير المؤلف من 6 أشخاص بينهم المصور مايكل بيتس الحائز جوائز في التصوير تحت الماء، في أول رحلة تصوير بالقرب من خليج سلوى، حيث فاجأتهم رياح الشمال المحملة بالرمال، ولم يمكن ممكناً حتى تثبيت الكاميرا على الحامل لشدة الرياح. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يلعب فيها الطقس ضد طاقم الفِلم. لقد ألغيت اللقطات الجوية أكثر من مرة بسبب ضعف الرؤية – مما أدى إلى التأخير عن الجدول المقرر، لكن لم يتوقف العمل إلا في أضيق الحدود.
حكاية النفط مع الشّعب المرجانية
لقد اعتبرت فكرة الفِلم الوثائقي، فرصة رائعة لإظهار أحد الجوانب الخفية في المملكة للعالم، فضلاً عن تسليط الضوء على حماية «أرامكو السعودية» للبيئة، لذا أدت خبراتها ومعرفتها بالنظم الإيكولوجية البحرية في البحر الأحمر والخليج العربي، دوراً محورياً في إنتاج الفِلم إذ شكلت التفاصيل التي قدَّمتها عن الموقع عنصراً حيوياً في تمكين «آيكون» من تجميع أجزاء قصة النظام البيئي الفريد للمملكة التي لم يطلع عليها أحد.
أمضى طاقم الفِلم ما مجموعه 133 يوماً أثناء التصوير في المملكة، وكان العمل يجري خلال فترات تتراوح من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. وسافروا أثناء التصوير في رحلات يصل مجموع مسافاتها 30 ألف كيلومتر لالتقاط آلاف الساعات من المواد الفِلمية التي صورت خلالها اللقطات بحرفية عالية لدرجة أنه لم تكن هناك أية ملاحظات عليها تقريباً، ولم يعتقد أحد أنها حقيقية. كما كان وضوح وثبات اللقطات التي أخذت أثناء التحليق فوق حواف الشعاب المرجانية والخليج مدهشاً. وكان منظر أسماك الشفنين والدلافين وهي تقفز شيئاً لا يصدق.
حيرة البريستول
وبعد العودة إلى بريستول بالمملكة المتحدة، قام فريق «آيكون» المكون من باحثين متخصصين من جامعة بريستول، بالعمل مع المتخصصين في الحياة البحرية على التأكد من صحة العناصر الواقعية لنص الفِلم، لكن حتى الخبراء أصابتهم الحيرة والذهول في بعض الأحيان. وقد أذهلت لقطات «ديدان البالولو» وهي تضع ملايين البويضات ليخرج منها الصغار إلى الحياة جميع الحضور. لم ير أحد شيئاً كهذا من قبل، والتصوير كان لا يُصدق. وقد استغرق الأمر بعض الوقت من الباحثين لمعرفة ما كان يحدث.
كان من المعتقد أن هذه العملية لا تحدث إلا في إندونيسيا ولم يكن معروفاً أبداً أنها تحدث على هذا النطاق، فما بالك وقد تم التمكن من تصويرها. وفي ديسمبر 2010م، بعد ساعات لا تحصى من العمل في استوديو التحرير، تم الانتهاء من فِلمي «بحار الصحراء» و«بحار التغيير». وبذلك يكون قد تم الانتهاء من الجزء الثالث من العمل. وكان العرض الأول لفِلم «بحار الصحراء» في أمريكا الشمالية في أبريل 2011م، ثم عُرض في جميع أنحاء العالم. وقد حقق إصدار الفِلم في المملكة المتحدة في يوليو 2011م نجاحاً باهراً، حيث اجتذب ما يزيد على خمسة أضعاف الأعداد العادية لمشاهدي الفترة الزمنية المخصصة للساعة الثامنة مساءً، وبذلك تحصل البيئة البحرية الغنية في السعودية على المشاهد العالمي الذي تستحقه. وهذا النجاح أوجد رغبة في إنتاج فِلم وثائقي يغطي التاريخ الطبيعي للمملكة بالكامل عبر سلسلة من ثلاثة أجزاء تغطي الحياة البحرية والبرية والجوية، خصوصاً وأن «آيكون» و«ناشيونال جيوغرافيك» مهتمتين جداً باستكشاف هذه الأماكن.
«بحار التغيير»
يستعرض فِلم «بحار التغيير» الذي تبلغ مدة عرضه 20 دقيقة عناية «أرامكو السعودية» بالبيئة والتزامها بحمايتها، إذ أرادت الشركة من خلاله أن تظهر أن لصناعتها منظوراً أوسع، لا سيما وأن هناك صوراً نمطية تركز على حادثة أو تصور سائد. وتمكنت من خلال «بحار التغيير» ومن خلال الوقائع على الأرض، من إظهار بعض الجهود التي تبذلها لحماية البيئة التي تُعد جزءاً لا يتجزأ من أعمالها. ويسلِّط الفِلم الضوء على مشروع جسر منيفة في الخليج العربي، كمثال ساطع على كيفية سير إنتاج الطاقة جنباً إلى جنب مع حماية البيئة.
ونظراً لوجود مليارات البراميل من احتياطات النفط الخام تحت واحد من أندر النظم الإيكولوجية في العالم، فقد شكلت منيفة اختباراً مهماً لقدرات «أرامكو السعودية» الهندسية والتزامها بحماية البيئة، إذ نجحت في تشييد جسر طوله 41 كيلومتراً يصل إلى 27 جزيرة من جزر الحفر تبلغ مساحة كل منها مساحة 20 ملعب لكرة قدم. وأنفقت «أرامكو السعودية» 500 مليون دولار على التعديلات البيئية لضمان عدم الإضرار بالنظم الإيكولوجية الفريدة في خليج منيفة.
ويصف الفِلم مشروع جسر منيفة بأنه «معجزة حديثة» و«أحد عجائب العالم»، كما أن المشروع مثال ممتاز على عدم تعارض إنتاج النفط مع حماية البيئة. وحسبما يذكر فِلم «بحار التغيير»، يجرى هذا البحث بقيادة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في جدة. وقد ساعدت إدارة حماية البيئة في وضع برنامج لعلوم الحياة البحرية ومركز أبحاث المحيطات والحياة البحرية في الجامعة نفسها.
حماية الحياة البحرية
ينبع اهتمام «أرامكو السعودية» بحماية الحياة البحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر، من وجود نحو %20 أو أكثر من النفط الذي تنتجه «أرامكو السعودية» في مكامن تحت مياه الخليج العربي، كما يشكل البحر الأحمر والخليج العربي قنوات شحن مهمة لمنتجات الشركة من النفط الخام والمنتجات المكررة. وأجرت «أرامكو السعودية» أولى الدراسات البيئية في منطقة الخليج العربي في أوائل السبعينيات، وأدى ذلك إلى نشر أحد أهم كتب الشركة وهو: «أطلس البيئة الحيوية في منطقة غرب الخليج العربي».
وفي عام 1984م، تشاركت أرامكو السعودية مع معهد بحوث جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لإطلاق مشروع أبحاث استدامة – برنامج الدراسات البيئية البحرية. وقد أكمل البرنامج عدداً من الدراسات المهمة، منها: أعمال المسح ورسم خرائط الموائل للبيئات البحرية المتجانسة في الخليج العربي والبحر الأحمر، وأعمال المسح الخاصة بأشجار المانغروف ودراسات زراعته، وأعمال المسح الخاصة بالشعاب المرجانية وبرامج المراقبة.
وتستمر الشركة في التركيز على استخدام أفضل الممارسات للحد من تأثير الأعمال البحرية على البيئة. ونتيجة لذلك، وضعت معاييرها البيئية الخاصة بها التي تُعد استكمالاً للأنظمة الحكومية والإقليمية. وفي الواقع، كانت «أرامكو السعودية» بين أولى الشركات السعودية التي اشترطت في جميع مشاريعها إجراء دراسات تقييمية للآثار البيئية البحرية.
وفي عام 2009م، نفذت «أرامكو السعودية» أول عملية من نوعها في المملكة تمثلت في مشروع نقل الشعاب المرجانية في السفانية التي تضم أكبر حقل بترول بحري في العالم، إذ كانت تقع مجموعة من الشعاب المرجانية الفريدة في مسار خندق من المقرر حفره لمد خط أنابيب. وبعد حملة مكثفة استمرت ثلاثة أسابيع، تم نقل أكثر من 500 مستوطنة من الشعاب الصغيرة والكبيرة ومعها عديد من الأسماك الصغيرة واللافقريات، إلى منطقة حاضنة تبعد حوالي 700 متر عن موقعها الأصلي.