الثقافة والأدب

باموق
الفائز بجائزة نوبل للآداب
فخر لتركيا أم قضية جديدة لها؟

  • 85a
  • 81a

كانت جائزة نوبل للآداب لهذا العام من نصيب يورهان باموق، الروائي التركي الذي سبق لشهرته أن تخطت حدود بلاده، كما ترجمت معظم أعماله إلى العديد من اللغات (بما فيها العربية). ومع ذلك فإن اختياره هزَّ عالم الأدب والسياسة كما قد يكون كامناً خلف هذا الاختيار، أو لما يتوجس منه البعض، خاصة المشككين دائماً بحسن نوايا الأكاديمية الآسوجية التي تمنح الجائزة.
هنا تتناول منى سكرية المناخ السياسي والأدبي الذي لم يقتصر دوره على الإحاطة بالظرف المحدد الذي حصل فيه باموق على الجائزة، بل كان أيضاً في صميم أعماله الروائية ومحورها الأساس.

أدى إعلان الأكاديمية الآسوجية في استوكهولم فوز الروائي التركي أورهان باموق بجائزة نوبل للآداب إلى سلسلة من المواقف المتناقضة لجهة تأييدها أو نقدها، أو لجهة تقييمها للكاتب وللحدث.

كما واكب لحظة ولادة الإعلان عن الفوز، حدثان في السياسة أقلقا تركيا كدولة: مظاهرة للأرمن اللبنانيين ضد مشاركة قوات تركية في عداد القوات الدولية متعددة الجنسيات يونيفيل التي أتت إلى لبنان وفقاً لقرار الأمم المتحدة 1701، والثانية في قرار البرلمان الفرنسي الذي يقضي بمعاقبة كل من ينكر المجزرة التي ارتكبتها تركيا بحق الشعب الأرمني، فتجاوزت الجائزة موقعها الأدبي العالمي لتدخل بشدة في سياق الصراع السياسي، ومسألة الصدام بين الحضارات، الفكرة الأكثر تداولاً ونقاشاً في الألفية الثالثة منذ أن أطلق المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون كتابه الشهير نهاية القرن الفائت صراع الحضارات .

أين موقع أورهان باموق وأدبه ورواياته الثمانية إلى الآن من هذا النقاش الصاخب؟.

ثمة خيط جامع بين معظم الكتابات التي تناولت أدب باموق، تتعلق بقاسم مشترك يربط بين موضوعات رواياته وبين تاريخ تركيا القديم منها والحديث، بين هويتها المركبة من طورانية وأوروبية، إسلامية وعلمانية، تقليدية وحداثوية.

هذا ما رأته إدارة الاكاديمية السويدية في منحها الجائزة له، إذ ورد في البيان أن الكاتب، أي باموق، ابتكر أشكالاً جديدة للتعبير عن الصراع والتداخل بين الحضارات، من خلال رصده للروح الحزينة التي تسكن مدينته حيث أبصر النور .

باموق الشخص والأديب
قبل الحديث عن أهم الروايات الصادرة للكاتب، وأهم الأفكار التي تحدَّث عنها وتسببت له بمشكلات كثيرة، والجوائز التي حصل عليها قبل فوزه بنوبل للآداب، نورد هنا لمحة عامة عنه لعلها تساعد في فهم خلفيات الإشكاليات التي أثارها هذا الفوز.

ولد أورهان باموق في 7 حزيران من العام 1952م لدى عائلة إسطنبولية الحضور البرجوازي، يتقن أفرادها اللغة الفرنسية، وميسورة الحال المادية لجهة عمل الوالد في التجارة. وتلقى أورهان علومه في إحدى المدارس الأمريكية في المدينة، ثم نال إجازتين جامعيتين في الهندسة والصحافة، لكنه تفرغ للكتابة بعد أن اقتنع أن الكتابة تعطي معناها للحياة، لأنها الحياة كما قال، وبعد أن قرأت كتاباً ووقعت في غرام إحدى الفتيات فتغيرت حياتي بأسرها كما ذكر مرة.

في الثانية والعشرين من عمره أنجز أولى رواياته جودت بك وأولاده (1982)، ثم منزل الصمت (1983)، القصر الأبيض (1985)، الكتاب الأسود (1990)، الحياة الجديدة (1994)، اسمي أحمر (2001)، ثلج (2002) إسطنبول (2003) وغيرها من الروايات العديدة.

وقد سبق للكاتب أن نال جوائز عدة منها: الجائزة الأولى في مسابقة الرواية التي نظمتها جريدة ميللييت التركية عام 1979م على روايته جودت بك وأولاده ، وفي العام 1980م نالت الرواية ذاتها جائزة أورهان كمال للرواية، وهي أرفع جائزة تركية في هذا النوع من الأدب. كما نال جائزة مادارالي للرواية عام 1984م، وجائزة الاكتشاف الأدبي الأوروبية، إضافة إلى جائزة السلام التي منحه إياها اتحاد الناشرين الألمان في معرض فرانكفورت للكتاب عام 2005م، وجائزة ميدسيس الفرنسية عن كتابه ثلج الأكثر إثارة للضجيج.

مثير للجدل أم أكثر من ذلك؟
إنه الكاتب الذي لا يرضي أحداً، هذا ما يمكن تلخيصه في تعاطي النقاد الأدبيين ووسائل الإعلام مع أدبه والجوائز التي حازها وصولاً إلى آخرها وهي نوبل للآداب، والتي أوقعت المتابعين في حيرة، لمن منحت الجائزة: لأدب باموق لمواقفه السياسية، أم للأدب التركي، أم نكاية بمواقف تركيا السياسية؟

فلطالما أثارت أعمال باموق التي ترجمت إلى 35 لغة عالمية، الكثير من الردود المتناقضة، لم يكن أبسطها ما يتعلق برواية ثلج التي شكلت منعطفاً في مسيرته الأدبية، لأنه تحدث فيها عن المأساة الأرمنية، داعياً حكومة بلاده إلى الاعتراف بها، وقد اعترف في هذه الرواية بارتكاب تركيا لمجازر بحق مليون مواطن أرمني، و30 ألف مواطن كردي لقد لقي هؤلاء حتفهم على هذه الأرض ولا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك ، وهذا ما أخضعه للمحاكمة بتهمة الإهانة الواضحة للأمة التركية، وشتم الهوية التركية ، فضلاً عن محاكمة ثانية بتهمة قوله إن الجيش التركي يعيق تطور الديموقراطية.

إجماع آخر برز في تعليقات وسائل الإعلام حول منحه جائزة نوبل للآداب وتمحور حول مواقف باموق السياسية ، واعتبار كثر أنها رسالة موجهة إلى تركيا على أبواب النقاش الدائر حول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ومحاولات إقصائها عن ذلك بتهم تتعلق بحقوق الأقليات التي لطالما دافع عنها باموق في رواياته، لا سيما ثلج .

بين فنان الدولة والمدينة الحزينة
الكاتب الذي تصادم مراراً مع السلطات التركية حول كتاباته ومواقفه الفكرية والسياسية، رفض في إحدى المرات تكريم حكومة بلاده له عبر منحه لقب فنان الدولة والذي يعتبر أهم لقب ثقافي في تركيا. ولكن عندما تحدث عنه الرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء إحدى زياراته لتركيا واصفاً إياه بأنه كاتب كبير يسهم في ردم الهوة بين الشرق والغرب، بناءً على ما تسعى إليه قيمنا الأمريكية اعترض باموق علناً على استغلال أدبه بهذه الصورة لتبرير الحرب الأمريكية على العراق، ورفض أن يستشهد به بوش لأنني لست عضواً في فريقه كما صرح لوسائل الإعلام.

شخصية باموق وشخصية تركيا
يصفونه بأنه يشبه روح مدينته الحزينة، وهو يتأرجح في توازن دقيق بين الشكل والفوضى، بين التاريخ ومستقبل بلاده، وبين وجهيها الشرقي والغربي. فهو يقول في إحدى المقابلات الصحفية أن ترهق نفسك بالأفكار القوية إنما هو شغف تركي بالذات، إذ أن الأمة التركية تمرنت خلال القرنين الفائتين على الانتقال من حضارة إلى أخرى، وهذه تجربة مؤلمة، وكتابي ثلج إنما هو تعبير عن صعوبة العيش مع الأفكار الكبرى المجردة… . ليقول في حديث آخر رداً على اتهامه بانتحال الصفة في معظم أعماله الأدبية: إن مسألة انتحال الصفة هذه تنعكس في الهشاشة التي يشعر بها الأتراك حين يواجهون الثقافة الغربية.. القلق حيال أن تتأثر بشخص آخر يشبه حال تركيا حين تيمم نظرها غرباً، أعني ذلك الحلم بأن تصبح جزءاً من الغرب، وفي الوقت نفسه أن تكون متهماً بأنك لست أصيلاً بما فيه الكفاية. أن تحاول القبض على روح أوروبا ثم تشعر بالذنب بسبب الدافع لديك إلى تقليدها. تلك الطلعات والنزلات في هذا المزاج تذكر بالعلاقة بين أخوين متنافسين .

أهم رواياته
جودت بك وأولاده ، نقلها إلى العربية فاضل جتكر وصدرت عن منشورات وزارة الثقافة في دمشق، رواية ترسم مسارات في القرن العشرين من خلال ثلاثة منعطفات كبيرة: انهيار الإمبراطورية العثمانية، وفاة أتاتورك (1938م)، والفوضى والانقلابات العسكرية في سبعينيات القرن الفائت.

أما روايته الكتاب الأسود ، ترجمها إلى العربية عبدالقادر عبداللي وصدرت عن دار المدى، فإنها قادته إلى العالمية، ويقول عنها مؤلفها إن هذه القصص التي أريد أن أجمعها بعضها إلى بعض في كتاب أسود تغدو كقصص عشقنا التي تنفتح الواحدة على الأخرى، كما في ذاكرتنا، تؤدي الحكاية الثالثة إلى الرابعة، وكما في قصة الرجل الباحث عن السر والمعنى المفقودين في وجهه حين يضيع في أزقة إسطنبول… .

أما روايته اسمي أحمر فإنها تتناول الفن التشكيلي الإسلامي الذي يستخدم بقوة اللون الأحمر في الرسم الإسلامي كما ورد في تعريف الرواية، والتي تتجاوز هذا الاختلاف بين مفهومين للفن التشكيلي، بين الرسم التقليدي في المرحلة العثمانية التي تمنع رسم الوجوه، وبين مدرسة الرسم في إيطاليا. إنها مرة أخرى صراع بين مفهومين ثقافيين متناقضين لقيمة حضارية إنسانية واحدة هي الرسم لكنها في العمق صراع بين حضارتين.

روايته ثلج ، ترجمها إلى العربية عبدالقادر عبداللي وصدرت عن منشورات دار الجمل، إنما هي رواية سياسية تحكي عن الإسلاميين والأكراد والأتراك واليساريين وصراعاتهم في إحدى القرى التركية التي حاصرها الثلج، وهي محاصرة بمجموعة من القوى المتناقضة، بكل أنواع الأفكار، والانتماءات السلوكية الاجتماعية. وعنها يقول باموق .. لا أكتب رواية سياسية حتى أقوم بدعاية سياسية لقضية محددة، بقدر ما أطمح إلى وصف الحال السيكولوجية للناس في مدينة معينة. المدينة في هذه الرواية هي قارص، وتقع عند طرف شمال شرق تركيا لكنها تمثل تركيا كلها .

في الخطاب الذي ألقاه باموق أثناء نيله جائزة السلام العام الماضي في فرانكفورت قال ما يأتي: ..في كل مرة يشعر مواطن بإذلال عميق، لا تتأخر الكبرياء الوطنية في الظهور. هذه هي المادة الأولية القاتمة لرواياتي: الخجل، الكبرياء، الغضب، والشعور بالفشل، ولأنني أنتمي إلى أمة تطرق باب أوروبا، أعرف جيداً أن في وسع هذه المشاعر المتقلبة أن تتقد فجأة وتنتشر من دون وازع .

أما صديقه الروائي التركي نديم غورسيل فكتب يقول: غالبية الصحافيين الأتراك سيكررون أنه نال جائزة نوبل للآداب لسبب واحد لا غير: موقفه من المجزرة الأرمنية .

يبقى أن أورهان باموق نال الجائزة التي ينتظرها كثر من أدباء العالم في كل عام، وسط حمى الإبداع الأدبي، والمواجهات السياسية الآخذة بالاشتداد في عالم لم يعد رحيماً في صراعاته.

أخي
من الكتاب الأسود
نورد هنا جزءاً من الفصل الحادي عشر من روايته الكتاب الأسود ، وحملت عنوان أخي ، وقد بدأها الكاتب بقولٍ لـ إيزاك د نيسن جاء فيه: أرى أن الحاكم الذي اقترب أكثر من الروح الحقيقية للإله من بين الحكام الذين سمعت بهم جميعاً، هو كما تعرفون هارون الرشيد البغدادي الذي يستمتع بالتجول متنكراً .

…بعد أن خرج غالب من جريدة ملييت وعلى عينيه نظارة سوداء، لم يسر باتجاه مكتبه بل باتجاه السوق المسقوف. وفي أثناء تقدمه بين الدكاكين التي تبيع أشياء سياحية، وعبوره من باحة جامع نور عثمانية شعر فجأة بنعاس إلى حد أن أسطنبول كلها بدت له مدينة مختلفة. الحقائب الجلدية والغليونات المصنوعة من حجر سيلكات المنغنيز ومطاحن القهوة التي رآها في أثناء سيره في السوق المسقوف لم تبد له أشياء مدينة شبهت نفسها بها لأنها عاشت فيها آلاف السنين، بل إشارات مخيفة لبلد غير مفهوم نفي إليه ملايين البشر بصورة مؤقتة. حين كان غالب يضيع بين أزقة السوق المسقوف المتشابكة قال لنفسه: الأمر الغريب هو استطاعتي أن أقتنع متفائلاً بأنني سأكون نفسي تماماً بعد أن قرأت الحروف على وجهي .

حين دخل زقاق باعة الصنادل كان على وشك الإيمان بأنه هو الذي تغيَّر وليست المدينة، قرر بأنه فهم أسرار المدينة بعد قراءة الحروف التي في وجهه إلى حدّ أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً. في أثناء نظره إلى دكان بائع سجاد تحرك دافع في داخله جعله يفكر بأنه قد رأى السجاد المعروض في الواجهة من قبل، وأنه داس عليه بحذائه الطيني وصندله القديم وعلى مدى سنوات، وأنه يعرف جيداً صاحب الدكان الذي يشرب قهوته أمام دكانه وينظر إليه مرتاباً، ويعرف قصة تاريخ الدكان الملئ بالمحتالين الصغار والاحتيالات الصغيرة التي تنبعث منها رائحة الغبار. فكر بالأمر نفسه وهو ينظر إلى واجهات دكاكين كل من الصائغ وبائع الأشياء الأثرية، والحذاء. بعد أن عبر زقاقين مستعجلاً، اعتقد أنه يعرف الأشياء المبيعة في السوق المسقوف كلها بدءاً من الأباريق النحاسية وصولاً إلى الموازين ذات الكّفات، والباعة المنتظرين زبائن، والناس الماشين في الأزقة. كانت إسطنبول كلها معروفة لغالب وليس فيها أي سرّ مخفي عنه.

بهذه الطمأنينة التي منحها له هذا الشعور سار في الطرقات كأنه يسير في نومه. أول مرة بدت لغالب الأشياء التي رآها في الواجهات والوجوه التي قابلها في الأزقة مدهشة كما لو أنها في حلم من جهة، ومألوفة ودافعة للاطمئنان كأفراد أسرة جلس معهم إلى الطعام الذي يتناولونه صاخبين من جهة أخرى.

وفي أثناء عبوره من أمام واجهات دكاكين الصاغة المتلألئة خطر بباله أن هذه الطمأنينة تتعلق بالسرّ الذي تشير إليه الحروف التي قرأها وجهه مندهشاً. ولكنه بعد قراءته الحروف لم يرد أبداً التفكير بذلك الشخص المنحوس والمثير للشفقة الذي تركه في ماضيه. إذا وُجد ما يجعل العالم ذا سرّ فهو وجود شخص ثانٍ يؤويه الإنسان في داخله ويعيش معه كتوأمين. بعد عبوره من زقاق المواد الرخيصة حيث الباعة الذين لا عمل لديهم يقتلون الوقت أمام دكاكينهم، رأى غالب مناظر المدينة في بطاقات بريدية براقة لإسطنبول، فقرر بأن ذلك الشخص الذي في داخله قد تركه وراءه منذ زمن طويل: كانت البطاقات البريدية مألوفة ومليئة بمشاهد إسطنبول البائتة والخارجة من قالب واحد إلى حد أنه حين نظر إلى سفن النقل الداخلي المقتربة من جسر غلاطة ومداخن قصر طوب قاب وبرج البنت وجسر البوسفور تهيأ له بأنه لا يمكن أن يكون للمدينة أي سرّ. ولكنه فقد هذا الإحساس حين دخل إلى أزقة بدستان التي تتعاكس فيها الواجهات الزجاجية الخضراء. فكّر خائفاً: أحدهم يتعقبني .

لم يكن في الجوار ثمة من يثير شبهة. وعلى الرغم من هذا، لفَّ غالب شعور يشبه الكارثة المقتربة ببطء ولا يمكن إيقافها. سار بسرعة. حين وصل إلى شارع الطرابيش انحرف نحو اليمين. وسار على طول الشارع. ثم خرج من السوق. كان سيعبر سوق الصحَّافين دون أن يخفف سرعته، ولكنه حين كان أمام مكتبة ألفِ فإن اسم الدكان الذي واجهه بشكل طبيعي على مدى سنوات بدا لغالب فجأة كإشارة. لم يكن الأمر المدهش كون اسم الدكان حرف الألف وهو الحرف الأول من اسم الله، والأبجدية العربية التي تخرج منها الحروف كلها، وبالتالي العالم كله بالنسبة للحروفيين، بل كتابة الألف فوق المكتبة بالأحرف اللاتينية بالطريقة التي اقترحها ف. م. أوتشوجو تماماً. وحين أراد أن يرى هذا أمراً عادياً وليس إشارة، وقعت عين غالب على دكان الشيخ معمر أفندي. لم يبد لغالب إغلاق مكتبة الشيخ الزماني التي كان يتردد عليها الأرامل الفقراء مثيرو الشفقة، والمليارديرات الأمريكان مثيرو والشفقة أيضاً في زمن ما إشارة حقيقية عادية كعدم رغبة الشيخ بالخروج من البيت في البرد أو أنه قد مات، بل إشارة لسرّ ما زال مختفياً في المدينة، قال لنفسه: ما زلت ترى هذه الإشارات في المدينة . وفي أثناء سيره ما بين أكوام الروايات البوليسية المترجمة وشروح القرآن أمام المكتبات القديمة فكّر: هذا يعني أنني لم أتعلم ما علمتني إياه الحروف التي على وجهي . ولكن لم يكن هذا هو السبب: كلما خطر بباله أن أحداً يتعقبه تتسارع خطواته تلقائياً، وتتحوّل المدينة والإشارات المعروفة والمألوفة من زاوية مطمئنة تعجّ بالأشياء إلى عالم مخيف يعجّ بالمخاطر المجهولة والأسرار. أدرك غالب أنه إذا سار بسرعة كبيرة فقط سيبتعد عن الظلّ الذي يتبعه، ويمكنه نسيان الشعور السريّ الذي يمنحه قلقاً.

دخل إلى شارع بائعي الخيام من ساحة بيازيد مسرعاً. ومن هناك انعطف إلى زقاق سماور لأنه يحب اسمه، ومن هناك انحدر عبر زقاق باعة النراجيل الموازي له باتجاه الخليج. انعطف من زقاق باعة المدقات صاعداً الطريق من جديد. رأى ورشات البلاستيك والمطاعم والنحاسين وصناع المفاتيح. قال لنفسه ببراءة طفل: هذا يعني أنني سأرى هذه الدكاكين أولاً مع بداية حياتي الجديدة . رأى دكاكين تبيع الدلاء والأوعية الكبيرة والخرز وبرق الألبسة وبزات الشرطة والجيش. سار باتجاه برج بيازيد الذي وضعه أمامه هدفاً، ثم التفت إلى الاتجاه المعاكس تماماً وخرج إلى جامع السليمانية ماراً بين الشاحنات وبائعي البرتقال وعربات الخيل والثلاجات القديمة وعربات الحمالين وكومات الزبالة والشعارات السياسية المكتوبة على جدران الجامعة. دخل إلى باحة الجامع. حين سار تحت أشجار السرو والتاث حذاؤه بالطين خرج إلى الزقاق من طرف المدرسة. وسار بين البيوت الخشبية المصبوغة بالدهان المتكئ أحدها على الآخر. كان يخطر بباله أن أسطوانات المدافئ الخارجة من نوافذ الطابق الأول للبيوت المتصدعة نحو الزقاق تشبه السبطانات أو مناظير السفن أو فتحات سبطانات المدافع. ولكنه لا يرغب باستحضار كلمة مثل كي لا يربط أي شيء بأي شيء…

أضف تعليق

التعليقات